منذ أيام طالعنا محمد شعير بسبق صحفي يخص نجيب محفوظ، بالعثور على المخطوط الأصلي لرواية الحب تحت المطر، والتي حولتها الرقابة حينها إلى نص مبتور، فوصفها محفوظ الذي لم يحتفظ حينها بنسخة من المخطوط الأصلي، قائلا: أصبحت الرواية المنشورة كأنها طائر كسيح الجناح.

لم يكن ذلك السبق الأول لشعير، فيما يخص عالم نجيب محفوظ الذي ظنناه قد اكتشف بالكامل، ومن بينها اكتشاف مجموعة قصصية له، نشرت تحت عنوان همس النجوم، ولا أظنه أيضا سيكون السبق الأخير، وهو سبق لم يكن ابن يوم وليلة، بل جهد سنوات، حيث لا يعثر المرء على شيء بغتة إلا إذا كان مكافأة إخلاص وبحث مضني في كل الدروب.

وكعادته لم يكتف شعير بأن يقدم لنا النص الأصلي المفقود، بل حقق بعضه، والأهم ربطه بسياق أوسع عن تاريخ الرقابة في مصر.

لذل يمثل شعير صاحب كتاب “أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة” والحائز على جائزة دبي للصحافة عدد من المرات، نموذج الصحفي كما يجب أن يكون، دؤوب، دقيق، متفحص، يسير على قدميه وراء الحقيقة بالقدر نفسه الذي يجلس فيه إلى مكتبه ليسجلها أو ليكتشفها، وقبل أن يكون صحفيا محترفا فهو قارئ ممتاز، وكاتب يكاد أن يقارب فن الرواية والسرد في طريقة البناء واللغة، وقد مزجه مع فنون أخرى كالسينما التسجيلية وكذلك فن التأريخ والأرشيف.

نموذج يكاد أن ينقرض في صحافتنا المصرية التي تعيش أزهى عصور انحطاطها دون إغفال أن عددا كبيرا من الكوادر الشابة والموهوبة قد اضطر إلى العمل خارج مصر، نظرا لظروف الرقابة على الصحافة، أو حوصروا في مواقع محجوبة لا تكاد أن تصل للقارئ، ولنا في أمثلة صحفيين كمحمد أبو الغيط، وأحمد رجب ومصطفى المرصفاوي وأحمد محجوب ووفاء البدري وحسام بهجت وغيرهم أمثلة تعاني الغربة أو التضييق داخل مصر، وبعضهم كان لي شرف الاقتراب منهم داخل مصر، ورأيت كيف يفكرون في معنى المهنية والصحافة وحرصهم على التطور الدائم ولمست السحر الكامن فيما يدعى الموهبة حيث يخلق المرء لممارسة شيء بعينه، لكنه لا يستسلم لتلك الفكرة أبدا، فيواصل التعلم، لأن الصحافة ليست في حاجة إلى أن يكون جميع العاملين فيها موهوبين، بل على الأقل مدركين لقواعد مهنتهم، ولا نطلب من الله أكثر هذا.

أغلب تلك الكوادر تلعب في منطقة التحقيقات السياسية أو الاقتصادية، لكن المميز في شعير أنه يحلق في منطقة طالما اتهمت من مسؤولي الصحف والمواقع المصرية بأنها نخبوية، غير مقروءة، لذا قرروا نبذها وتسليمها إلى صحفيين لا يجيدون حتى قواعد الكتابة بشكل سليم، نصف جهلة إلا من رحم ربي، لا يرون مهنة الصحافة الثقافية إلا مهنة موظفين.

يعمل شعير ببطء وبغريزة الصيادة الكسول أيضا، حيث يبخل بنشاطه إلا على فريسة ثمينة، حين يشتم أثرها يكشف الكسل والبطء عن طاقة جبارة مختزنة في انتظار ما يستحقها.

ما يفرضه شعير سواء بكتبه أو بتحقيقاته الكاشفة دائما عن جديد مدهش فيما يخص ما نظنه قد استهلك تماما كنجيب محفوظ، هو إعادة اعتبار للصحافة الثقافية بوصفها صحافة فاعلة جذابة، قادرة على الاشتباك مع القارئ غير النخبوي، في موضوعات تهمه، كما يحرك راكدا في الحياة الثقافية ذاتها، يظل له أثر يتحرك خلفه الباحثون والصحفيون.

بل يمكن القول إن نموذجاً كمحمد شعير يخبرنا أن الصحافة الثقافية واحدة من مفاتيح نجاة المهنة من تكلساتها، إذا ما كتبت بوعي لا ينقصه الإمتاع والموهبة والعمق، وبدلا من تباري الصحف في إغلاق أقسامها الثقافية أو تقليصها لتقتصر على عرض الأخبار الضعيفة للفعاليات الثقافية التي لا تهم أحدا عليها أن تعيد احياء ذلك الجزء الميت بها. فالثقافة لا تحدث في الفراغ وليست مجالا ضيقا، بل يجب أن يعاد ربطها بمجالها الحيوي، حيث كل شيء في حياتنا مشتبك مع الثقافة.

ولم يكن كتاب أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة هو الكتاب الهام الوحيد المبني في الأساس على التحقيق الصحفي، فقد طالعنا الصحفي الكبير سيد محمود بكتابه “محمود درويش في مصر.. المتن المجهول” الذي حول هما نخبويا كصراع شاعر مع أزمات تنميطه وهروبه الدائم من حصار الأدوار التي فرضت إليه إلى موضوع ينبض بالحياة ويرسم صورة للقاهرة عندما كانت تحمل ثقلا ثقافيا كبيرا في الوطن العربي، وكذلك الاشتباك مع أسئلة السياسة والتاريخ والصراع العربي الإسرائيلي والأسئلة عن معنى الأدب من خلال رفض درويش لأن يختزل كشاعر القضية.

وكذلك التحقيق الفائز بجائزة دبي للصحافة الثقافية للصحفي محمد رياض” طائر النار” عن الشاعر أحمد عبيدة، والذي صدر مؤخرا في كتاب، ويتشابك فيه رياض مع أسئلة الجماعة الثقافية والذات الفردية في مواجهة السلطة.

في النهاية، لو كنت مكان القائمين على الصحف والمواقع، أو حتى وزارة الثقافة لن أكتفي بالاستعانة بشعير لرئاسة قسم ثقافي أو رئاسة تحرير جريدة أو موقع ثقافي -وكان لشعير تجربة مهمة قصيرة في رئاسة تحرير عالم الكتاب- لكني سأحرص أيضا أن يعمل شعير على تدريب كوادر من الصحفيين الثقافيين الشباب على توسيع دائرة النظر والمهنة، وأن يعيدوا إليها احترامها المفقود وقدرتها على اكتشاف آفاق أرحب.