في حفل الإفطار السنوي الذي نظمته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” نهاية أبريل/نيسان الماضي، وجه زعيم الحركة في غزة، يحيى السنوار، عدة رسائل سياسية في خطابه كان من بينها استدعائه لما أسماه “محور القدس” لفتح الطريق البحري من وإلى غزة، في إشارة إلى الدور الداعم للجمهورية الإسلامية الإيرانية ووكيلها اللبناني، حزب الله. أو ما دُرج تسميته بـ”محور المقاومة”.
بعدها بشهر تقريبا، كشف برنامج “ما خفي أعظم” المذاع على قناة “الجزيرة، أنه خلال الحرب الأخيرة في غزة ضمت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في غزة ضباط استخبارات من الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله”، فيما بدا وكأنها إشارة من الحركة الفلسطينية ترغب إظهارها في العلن لما تحمله من دلالات سياسية.
لكن الإشارة الأقوى كانت في 21 يونيو/حزيران، حينما قالت مصادر داخل “حماس” لوكالة “رويترز” إن الحركة قررت استئناف علاقاتها مع النظام السوري بعد عشر سنوات من القطيعة ومغادرتها دمشق؛ بسبب معارضتها لحملة الرئيس السوري بشار الأسد الوحشية على الانتفاضة الشعبية ضد حكمه. وهو ما أدى لتدهور علاقاتها مع إيران حينها.
وقال مسؤول بالحركة طلب عدم الكشف عن هويته إن “الطرفين عقدا لقاءات على مستويات قيادية عليا لتحقيق ذلك”. فيما ذكر مسؤولان أن حماس “اتخذت قرارا بالإجماع لإعادة العلاقة مع سوريا”.
اقرأ أيضًا.. ما بين السطور: “الناتو العربي الإسرائيلي” وباب القاهرة “الموارب”
فيما كشف مصدر آخر لوكالة “الأناضول” التركية (رسمية) عن أن “جهودا مضنية”، بذلتها قيادة “حزب الله” خلال الشهور الماضية، للوساطة بين الطرفين، أفضت إلى “منحها الضوء الأخضر لاتخاذ خطوات عملية، من أجل تقريب وجهات النظر بين النظام السوري والحركة الفلسطينية”.
بعد تلك التقارير بثمانية وأربعين ساعة، التقى الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، برئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في لبنان. وذكرت قناة “المنار” الناطقة باسم التنظيم اللبناني، أن اللقاء تضمن استعراض التطورات السياسية والميدانية في فلسطين ولبنان والمنطقة، وتطور “محور المقاومة”، والتهديدات والتحديات والفرص القائمة، مع التأكيد على تعاون كل أجزاء “المحور”.
ومن بيروت، قال هنية (في كلمة ألقاها بالمؤتمر القومي العربي والإسلامي) إن الكيان الإسرائيلي يتم دمجه في المنطقة عبر تحالفات عسكرية لمواجهة إيران وحزب الله وحماس. وأكد ضرورة توحد الجبهات الست لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، في إشارة إلى: قطاع غزة، الضفة الغربية، الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، لبنان، سوريا، إيران.
أتت تلك التحركات والتصريحات في وقت تبدو فيه منطقة الشرق الأوسط في مرحلة إعادة رسم التوازنات والتحالفات. ففي الوقت الذي يكثر فيها الحديث عن تحالف أمني موجه ضد إيران يضم بعض الدول الخليجية والعربية رفقة إسرائيل، يبدو أن حماس حسمت موضعها من تلك الاصطفافات التي تعتبرها خطرا كبيرا قد يؤدي إلى حصارها، هي المحاصرة بالأساس. وبالتالي اتخذت خطوة أخرى نحو المحور الإيراني، الذي تمثل الساحة السورية أحد أهم مناطق نفوذه.
عودة إلى سوريا قبل عقد مضى
بحسب قراءات مختلفة، فإن هذا التحول بدأ بعد إعادة انتخاب إسماعيل هنية ويحيى السنوار في دورة انتخابية ثانية في قيادة حركة حماس، ومواقفهما المعلنة تجاه إيران وحزب الله، ورغبتهم في تصفير الخلافات بين الحركة والنظام السوري، انطلاقا من قراءة استراتيجية لمشهد المنطقة والتشكلات والاصطفافات العربية إلى جانب “إسرائيل”، وإقامة علاقات تطبيع رسمية معها.
يقول الكاتب السوري، أحمد الدرزي، على موقع “الميادين” (المحسوب على حزب الله) إن حماس، كمقاومة وليس كسلطة، باتت بأمس الحاجة للعودة إلى دمشق، “ففي ذلك حسم لخياراتها الداخلية، وتعزيز لدورها الكبير في محور يتجهز للمواجهة الكبرى القادمة، وهي بهذه العودة تؤمن ظهرها، بعد أن دفعت ثمنا غاليا، من خلال رهان بعض قادتها على المتغيرات الدولية المتأهبة لقدوم الإسلام السياسي إلى سدة الحكم…”.
بينما على الجانب السوري فإنه “تعزيز لمكانة دمشق في الصراع الإقليمي والدولي الكبير، واستعادة لجزء من دورها الإقليمي المفقود، وهي بحاجة ماسة لكلّ مصادر القوة، كما أنها بأمس الحاجة لتغيير مسارات الداخل الذي ينسلُّ من بين أصابعها”، وفق تعبير الكاتب.
وقبل عقد من الزمن ومع انطلاق شرارة الثورة السورية ارتبكت الفصائل الفلسطينية وبدا التخبط واضحا في رؤيتها للتعاطي معها، وربما كانت حركة حماس الأكثر حرجا في ذلك –في تقدير الكاتب الفلسطيني ماهر شاويش– بينما حسمت الفصائل المحسوبة تاريخيا على النظام السوري موقفها، إذ قررت الاصطفاف إلى جانب النظام وفي مقدمتهم “الجبهة الشعبية القيادة العامة”.
ويعود حرج حماس إلى كونها لم ترغب في خسارة النظام الذي احتضنها ودعمها، وهذا واقع لم تنكره كل قيادات الحركة بغض النظر عن مآرب النظام في هذا الدعم وغاياته وتوظيفه له -والحديث لا يزال لشاويش- الأمر الذي لم يظهر بوضوح إلا بعد الثورة السورية. وفي ذات الوقت لم ترد حماس أن تقف في وجه الشعب السوري الذي رأت أن مطالبه في حينها مشروعة.
إذ أكدت في بيانها الأول الذي اتسم بالحياد الإيجابي تجاه ما يجري في سوريا في 2 من أبريل/نيسان 2011، وقوفها إلى جانب سوريا شعبا وقيادة، قبل أن يتطور الموقف من الحياد الإيجابي إلى الاصطفاف إلى جانب الشعب السوري. وقد تمظهر ذلك في تصريحات رئيس مكتبها السياسي آنذاك، خالد مشعل، وكذا نائبه إسماعيل هنية من على منبر الأزهر في مصر. لتغادر حماس سوريا في إشارة تؤكد عدم رضاها عن مواقف النظام وممارساته القمعية وحلوله الأمنية وفشل وساطتها التي تحدث عنها مشعل في أكثر من مناسبة.
ولكن الآن قررت “حماس” إصلاح علاقتها مع سوريا، إذ ترى قيادة الحركة أنه من متطلبات هذه المرحلة الحربية الاتحاد والانسجام مع أعداء إسرائيل في الشرق الأوسط تحت رعاية إيرانية بغض النظر عن الخلافات السابقة بينها وبين ونظام الأسد، بكلمات المحللة السياسية الفلسطينية رهام عودة.
وتشير عودة لـ”مصر 360” إلى أن العداء ضد إسرائيل بالنسبة لحماس يوحد الجميع خاصة في المرحلة التي تتعرض لها إيران لهجوم إسرائيلي متكرر على قواعدها في سوريا، إضافة إلى دعمها الكبير للمقاومة الإسلامية بغزة -والتي تشمل حماس والجهاد الإسلامي- والحملة العسكرية التي تقودها إسرائيل ضد عناصر المقاومة في غزة والضفة الغربية، و”كل ذلك يتطلب من أعضاء محور المقاومة توحيد الجهود الإقليمية والتغاضي عن أي خلافات أيديولوجية سابقة”.
حماس تبحث عن ثمار التقارب
ويعتبر الباحث الفلسطيني، ساري عرابي، أن القرار ناجم عن نقاشات امتدت طوال السنوات الأخيرة كانت أثنائها حماس تقيّم مرحلة الثورات العربية وما بعدها والمكاسب والخسائر. وبطبيعة الحال كان من بينها تقييم قرار الخروج من سوريا والعلاقة مع النظام السوري وإيران.
“لا شك أن الاصطفافات الأخيرة الجارية في الإقليم كما الحديث عن ناتو شرق أوسطي يدمج إسرائيل مع عدد من الدول العربية يدفع حماس لأن تختار موضعها ضمن حركة الاصطفافات القائمة. لاسيما أن الحركة قد لا يكون متاحا لها أن تلعب على التوازنات أو أن تشكل جسرا بين الفرقاء المختلفين لأن الدول الأساسية التي يمكن أن تشكل تحالفا شرق أوسطيا هي معادية للحركة أو لا تربطها علاقات جيدة بها، وبالتالي دفعتها دفعا للاتجاه نحو اصطفافات أخرى”، يقول عرابي لـ”مصر 360“.
ويضيف “كون إسرائيل جزءا من هذا التحالف فبالتأكيد سيتخذ من حماس عدوا له. وبالضرورة ستجد الحركة نفسها أكثر اقترابا من المحور الإيراني وهذا يستدعي أن تُحسن علاقاتها مع بقية أطراف هذا المحور الذي النظام السوري جزء منه. فالقضية لا تتعلق بالعلاقة مع النظام السوري من أجل النظام السوري وإنما بإعادة قراءة المرحلة الماضية”.
تنظر حماس إذا إلى الساحة السورية بأهمية بالغة نتيجة عدة عوامل لخصها الباحث المهتم بالفكر الإسلامي، في عدة نقاط. وهي:
- سوريا محاذية لدولة الاحتلال ومن دول الطوق وبالتالي وجود حماس له ضرورة بالنسبة لها.
- الساحة السورية تضم أعدادا هائلة من اللاجئين الفلسطينيين ومن ثم مطلوب منها كحركة مقاومة أن تكون موجودة في القلب من هذه الجماهير الفلسطينية.
- من مصلحة الحركة في سياق التنافس مع السلطة الفلسطينية أن تكون هي الأكثر حضورا بين اللاجئين الفلسطينيين لاسيما أن حركة فتح والسلطة تمددوا في الفراغ الذي تركته حماس بعد خروجها من سوريا.
- هناك حساسيات وفجوات بين النظام السوري وحماس، والحركة لديها معتقلين لدى النظام وقد تكون معنية بإجراء اختراق ما في هذا الملف.
- التغيرات الجارية وحالة الحصار التي قد تشتد مستقبلا على الحركة من دول مثلا كتركيا وقطر، وهم حلفاء للولايات المتحدة، ضمن التحولات الجديدة الجارية في المنطقة تستدعي بحثها عن ساحات أخرى وتوسيعها.
التقارب التركي الإسرائيلي أحد الأسباب
وفي هذا السياق، أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس، أيمن الرقب، أن عودة حماس إلى سوريا جاءت بعد أن بدأت تركيا بإغلاق الأبواب بشكل تدريجي في وجه الحركة، خاصةً بعد التقارب مع إسرائيل. مشيرا إلى أن إعادة تركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان، النظر في العلاقات مع جميع الدول التي قاطعتها خلال السنوات الماضية هو المحرك الأساسي، “وحماس ارتهنت لقرارات دولية وإقليمية تدفع ثمنها في كل مرحلة”.
واعتبر الكاتب في مركز “مدار” للدراسات الإسرائيلية، عصمت منصور، أن “التقارب الإسرائيلي التركي والتضييقات التي بدأت أنقرة فرضها على حماس جعلت الأخيرة تشعر أن وجودها الطبيعي ومحورها هو الذي يستوعب وجودها دون إملاءات وشروط، ويعطيها نوع من استقرار”.
وبإعلان حماس عزمها استئناف العلاقات مع دمشق، قد تشهد علاقاتها مع تركيا فتورا -بحسب صحيفة “أحوال تركية“- لكنه قد يشكل في الوقت ذاته فرصة لأردوغان الذي يعادي النظام السوري، لتخفيف الدعم التركي لحماس، بينما يسعى لتحسين العلاقات مع إسرائيل.
وبرأي الرقب، فإن سوريا في 2022، لا يتواجد فيها الإيرانيون فحسب، بل هناك أيضا الروس الذين لديهم مصالحهم في المنطقة، وستكون حاضرةً في حسابات أي عودة محتملة. ومن المرجح أن تستمر روسيا في محاولة تخفيف أي توترات مستمرة بين الحكومة في دمشق وحماس، في ظل مساعي الإدارة الأمريكية لحشد الدول العربية ضد موسكو.
ذكر أنه في 4 مارس/ آذار 2020، بدا أن هناك جهودًا روسية تستهدف تسهيل التقارب بين دمشق وحماس، إذ تحدث إسماعيل هنية، في مؤتمر صحافي في موسكو، معلنًا أن الحكومة والمواطنين السوريين كانوا منذ سنوات داعمين رئيسيين لحماس. وبرّأ هنية، حماس قائلا: “لا يمكننا أن ننسى هذا التاريخ. لا توجد سياسة أو أي قرار من قبل حماس للانخراط في الملف السوري، وأنا أنفي بشدة وجود أي مقاتل أو شهداء من حماس في إدلب، أو قبل إدلب، أو حتى في الثورة السورية”.
وهكذا “حماس عادت كليا للعمل وفق الاستراتيجية الإيرانية، ويبرهن ذلك عمليات تزويدها بالخبرة والمعدات من قبل إيران لتصنيع أنواع من الصواريخ، إضافة لعمليات تزويدها بالسلاح من مخازن النظام السوري، نتيجة حاجة الحركة للسلاح عقب معركة (سيف القدس – 2021)”، بحسب الباحث في الشأن الإيراني عمار جلو، الذي يعتقد أن أحد أسباب استدعاء بشار الأسد إلى إيران ولقاء المرشد الأعلى، علي خامنئي، (في 8 مايو/أيار 2022) “لإعطاء رسالة للدول العربية الساعية بالتطبيع مع النظام بأن مساعيكم للتطبيع معه مقابل الابتعاد عنا كالزرع في الرمال”.
ويشدد منصور الخبير في الشأن الإسرائيلي على أن “حماس تراجع محاصرة محورها وحلفائها نظرا لتزايد المطبعين مع إسرائيل وبالتالي هذا يشكل ضغطًا عليها ولا يعطيها حرية حركة فبالتالي كان من الطبيعي أن تبحث عن ملاذ جيد وحلفاء ينسجمون معها في توجهاتها”.
لكن ماذا عن الانتقادات الشعبية وفي أوساط السوريين المعارضين لهذه الخطوة؟
أثار خبر عودة حماس إلى سوريا موجة غضب واسعةً بين بعض السوريين والفلسطينيين. وغرّد الكاتب السوري أحمد موفق زيدان، قائلا: “فتكت العصابة الأسدية خلال نصف قرن بالفلسطينيين من لبنان إلى سوريا، فقتلت منهم ما يوازي ما قتله قادة الكيان الصهيوني، ولا يزال مخيم اليرموك شاهدا…”.
لكن عودة لا تعتقد -في حديثها مع “مصر 360“- أن سياسة حماس الخارجية قد تؤثر على شعبيتها داخليا “لأن لديها شعبية كبيرة بالضفة الغربية والقدس وظهرت أمامهم بأنها المدافع الأكبر عن القدس”.
ويوضح الباحث الفلسطيني ساري عرابي أن “السؤال الأخلاقي ليس سؤالا تجريديا. بمعنى أن الموقف الأخلاقي يتحرك في إطار الوقائع السياسية القائمة وليس بمعزل عنها. فالحركة مثلا حينما راهنت على الثورات العربية والتغيرات في المنطقة حينها تمكنت من اتخاذ قرار بالابتعاد عن النظام السوري رغم دفعها ثمنا باهظا لأنه انعكس سلبيا على علاقتها مع إيران دون تحقيق مكاسب مع دول أخرى”.
كما أن مسؤولية الحركة بالدرجة الأولى متعلقة بالموضوع الفلسطيني ضمن حالة الانقسام العربي وتحالفاته مع إسرائيل ووهن الشعوب العربية وعجزها، بحسب عرابي الذي يرى أنه “ربما لو كانت كل هذه العوامل أفضل لسلكت الحركة مسلكا مختلفا. ولكن حينما تلاحظ أن الثغر الذي تقف عليه يتعرض لمؤامرة كبيرة جدا فحينها لا يمكنها أن تحمل نفسها فوق طاقتها”.
لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن السؤال الأخلاقي ربما يُطرح داخل كوادر حماس وقواعدها فضلا عن طرحه في الحواضن والبيئات الحركية الإسلامية القريبة من الحركة. ولكن القرار -في ظنه- لن يؤثر سلبا على صورة حماس لدى الشعب الفلسطيني رغم إمكانية تشويشه على الحركة إعلاميا ودعائيا.