بعد حوالي 61 عامًا من اغتيال باتريس لومومبا، تجري الاستعدادات في جمهورية الكونغو الديموقراطية، لجنازة رسمية جديدة تليق ببطل الاستقلال. كل ما تبقى من لومومبا، بعد قتله رميا بالرصاص وتقطيع جسده إلى أجزاء وإذابتها في حامض الكبريتيك، هو سن لها تاج من الذهب، احتفظ بها ضابط الشرطة البلجيكي الذي أشرف على العملية كتذكار ضمن مقتنياته الشخصية.
ولد باتريس لومومبا عام 1925، وتعلم في مدارسها ومنذ شبابه انخرط في الحركة الوطنية المطالبة باستقلال البلاد من الاستعمار البلجيكي، فأسس حزب الحركة الوطنية الكونغولية في عام 1958، فاز الحزب بالأغلبية في أول انتخابات ديموقراطية أجريت في البلاد، وترأس لومومبا أول مجلس وزراء للدول المستقلة حديثا. لكن حكومته لم تعمر سوى أشهر معدودة لأن الأزمات بدأت مبكرًا، ففي مراسم تسليم السلطة وإعلان الاستقلال، 30 يونيو 1960، أشاد “بودوان” ملك بلجيكا آنذاك بالإدارة الاستعمارية البلجيكية للكونغو وأشاد بسياسة سلفه- الملك “ليوبولد” الثاني- التي حضرت البلاد.
اقرأ أيضًا.. تغير المناخ وأثره على موارد مصر المائية
لم يذكر الملك البلجيكي الملايين من الكونغوليين الذين ماتوا أو تعرضوا للوحشية في عهد ليوبولد الثاني، عندما حكم البلاد كجزء من ممتلكاته الخاصة. وفي خطاب لم يكن مقررًا في البرنامج الرسمي، ولم يقطعه سوى تصفيق الجمهور لمرات، تحدث رئيس الوزراء عن العنف والإهانات التي عانى منها الكونغوليين، وعن “العبودية المهينة التي فرضت عليهم بالقوة”. في بروكسل، شعر البلجيكيون بالصدمة، فلم يحدث من قبل أن تجرأ أفريقي أسود على التحدث بهذه الطريقة أمام الأوربيين، وروجت الصحف البلجيكية أن لومومبا أهان الملك وكبار المسئولين البلجيكيين، وقالت أن لومومبا- بخطابه الجريء- قد اختار موته.
بعد فترة وجيزة من الاستقلال، تعرضت البلاد لأزمة انفصالية خطيرة، بعدما أعلنت مقاطعة كاتانجا الجنوبية الشرقية الغنية بالمعادن الانفصال وإعلان استقلالها. حرضت بلجيكا كاتانجا على الانفصال، وذهبت القوات البلجيكية إلى هناك، كانت الحجة المعلنة هي حماية البلجيكيين، لكنها قدمت الدعم والمساندة للانفصاليين. ومن جهته، أعلن رئيس الجمهورية الموالي لبلجيكا “كازافابو” إقالة رئيس الوزراء. تحالفت قوى الاستعمار، بلجيكا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والأمم المتحدة، لإسقاط حكومة لومومبا، وبعدها بأيام، استولي رئيس أركان الجيش، جوزيف موبوتو، على السلطة، وقتل لومومبا ورفاقه.
لكن تفاصيل الجريمة ظلت مجهولة حتى منتصف التسعينات، عندما نشرت صحيفة “لايبرتي بلجيك” بعض تفاصيلها، وفي عام 1999، تحدث مفوض الشرطة البلجيكي، جيرارد سويت، الذي أشرف على عملية التخلص من الجثة، إلى برنامج عرض في إحدى قنوات التليفزيون الألماني. اعترف الضابط بدوره في عملية قتل لومومبا، ووصف العملية بأنها كانت رحلة إلى أعماق الجحيم. قال إن جثة لومومبا دفنت في البداية في حفرة قريبة من سطح الارض، بعدها تم استخراجها وتقطيعها إلى أجزاء ونقلها لمسافة 200 كيلومتر، ثم تذويبها في حامض الكبريتيك، وأقر الضابط بأنه يحتفظ ضمن مقتنياته الشخصية بسن ذهبي لباتريس لومومبا كتذكار. وأشار إلى احتمال وجود سن ثانية، أو اثنتين من أصابع لومومبا، لكن لم يتم العثور على أي منها.
في نفس العام، صدر في بروكسل لعالم الاجتماع والكاتب البلجيكي “لودو دي فيته” كتاب “اغتيال باتريس لومومبا”. يعتمد الكتاب على وثائق ومراسلات ومحاضر لقاءات رسمية بريطانية وبلجيكية وأمريكية وسوفييتية. صدر الكتاب بللغة الهولندية وترجم إلى اللغة العربية ونشر في دمشق عام 2005 تحت عنوان “أسرار اغتيال باتريس لومومبا”. أثار الكتاب ضجة هائلة، أدت إلى بدء التحقيق في بلجيكا في قضية مقتل لومومبا، وبعد عامين اعترفت بلجيكا ب”المسئولية الأخلاقية” عن جريمة مقتل لومومبا.
يقول المؤلف في كتابه أن الأوامر صدرت بقتل لومومبا، وإخفاء أي دليل على الجريمة. لكنه لم يكتف باتهام بلجيكا وحدها بالضلوع في الجريمة، بل قدم من الوثائق والأدلة والمراسلات الرسمية، ما يؤكد على أن قرار إسقاط حكومة لومومبا والتخلص منه كان قد صدر في بروكسل ولندن وواشنطون، وأن المخابرات البلجيكية والأمريكية والبريطانية، كانت قد وضعت خططا للإطاحة بالحكومة وقتل لومومبا، لضمان أن تظل الكونغو في حظيرة بلجيكا، بعيدة عن النفوذ السوفيتي المزعوم، ولمواجهة المد الواسع في حركات التحرر الوطني في أفريقيا.
اقرأ أيضًا.. العدالة المناخية والحوار الوطني
ليس من المعلوم ماذا كان يفعل الضابط البلجيكي بسن لومومبا طوال 56 عامًا. وعندما علمت عائلة لومومبا بأن السن لا تزال موجودة في بلجيكا، رفعت دعوى قضائية تطالب باستردادها، وبعد سنوات من التقاضي، حكمت المحكمة العليا قبل أسابيع بتسليم سن لومومبا إلى عائلته. وقالت السلطات البلجيكية إن الطريق القانونية التي اتبعتها عائلة لومومبا للحصول على السن قد أدت بهم أخيرًا إلى “العدالة”. فهل من العدالة، والتحضر والإنسانية، أن يحتفظ البلجيكيون، لمدة ستة عقود، برفات أحد الآباء المؤسسين للأمة الكونغولية والاتحاد الأفريقي؟ وهل يجيز أي عرف أو شرع أو دين الاحتفاظ برفات البشر والقطع البشرية كتذكارات؟!
يريد الكونغوليون جنازة تليق ببطل الاستقلال. في 20 يونيو الجاري تسلمت عائلة لومومبا في بروكسل صندوق أزرق لامع، يحتوي على السن، في اليوم التالي، وضع الصندوق في تابوت، ونقل التابوت جوًا إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية. وقالت جوليانا، ابنة لومومبا، التي تسلمت السن في بروكسل، لبي بي سي: “هذا تذكير بما حدث مع النازيين الذين أخذوا قطعًا من الناس- هذه جريمة ضد الإنسانية”. وقال محامي عائلة لومومبا، أن تسلم عائلة لومومبا للسن، مجرد خطوة واحدة، نريد العدالة الكاملة، وحساب كل من تورط في الجريمة!
في كينشاسا، أعلنت جمهورية الكونغو الديموقراطية الحداد لمدة ثلاثة أيام، اعتبارًا من 27 وحتى 30 يونيو، حيث سيتم تذكير المواطنين بالماضي المظلم للاستعمار البلجيكي، وباغتيال أول رئيس للوزراء للبلاد عن عمر 35 عامًا فقط، في منطقة كاتانجا الجنوبية في 17 يناير عام 1961.
من المقرر أن ينتقل التابوت في رحلة عبر مدن البلاد، لعرضها على الجمهور قبل دفنها في العاصمة. في 22 يونيو غادر التابوت والوفد المرافق العاصمة متجهين إلى لومومبافيل، في مقاطعة سانكورو الوسطى- مسقط رأسه، والتي سميت على اسمه. من هناك سيسافر التابوت إلى كيسنجاني في شمال شرق البلاد، حيث نظم أنصاره احتجاجات واسعة عقب اغتياله، ثم ينتقل بعدها إلى الموقع الذي وقعت فيه جريمة الاغتيال، لوبومباشي، في مقاطعة أوت كاتانجا الجنوبية. وفي 27 يونيو سوف يعود التابوت إلى كينشاسا، إلى أن يتم دفن السن في مراسم رسمية يوم 30 يونيو الجاري، في الذكرى الحادية والستين لاستقلال البلاد.
دام الاستعمار البلجيكي في الكونغو الديموقراطية 75 عامًا، قتل خلالها أكثر من عشرة ملايين كونغولي. كان مقتل لومومبا جريمة مروعة وضد الإنسانية، فهم لم يقتلوه فحسب، بل مثلوا بجثته، قطعوها إلى مزق وقطع، وأذابوها في الحامض، كانوا يرغبون في إخفاء أي أثر يدل على بطل وطني سعى لاستقلال بلاده وتقدمها، أرادوا اغتيال الأفكار والقيم والتوجهات التي يمثلها لومومبا، ومحو اسمه من ذاكرة الأفريقيين.
لكن هذه الجريمة المروعة لم تكن حدثا فرديا معزولا أو استثناءً في تاريخ الاستعمار الأوربي في أفريقيا. من الأمثلة الأخرى على هذه الجرائم، ما فعلته البرتغال في موزمبيق. في عام 1895 القت القوات البرتغالية القبض على الملك “جونجنهانا”، آخر إمبراطور لمنطقة غزة في موزمبيق، الذي قاوم الاستعمار البرتغالي لبلاده، وتم نفيه خارج البلاد إلى جزر الآزور في المحيط الأطلنطي. مات الملك في المنفي بعد 11 عاما، وبعد 90 عاما على نفيه، وفي عام 1985 فقط، تمت إعادة رفات الملك البطل جونجهانا إلى شعبه في موزمبيق.
وفي عام 2019، أعاد المتحف البريطاني خصلتي شعر مسروقتين تخصان الأمبراطور الإثيوبي “تيودروس الثاني”، الذي فضل أن يقتل نفسه، بدلاً من الاستسلام للقوات البريطانية التي هاجمت حصنه يوم عيد الفصح في عام 1868. القوات البريطانية الغازية أخذت ابنه، الأمير أليمايهو، البالغ من العمر سبع سنوات ضمن الكنوز التي نهبوها من إثيوبيا إلى المملكة المتحدة.
اقرأ أيضًا.. أوهام الطب البديل
على أمل أن تساعد الكلمات الدبلوماسية والاعتذارات في نسيان وتجاوز ماضيها الاستعماري في أفريقيا، وتحسين العلاقات مع جمهورية الكونغو الديموقراطية، قدمت بلجيكا اعتذارها عن الفظائع التي ارتكبتها في الكونغو الديموقراطية، وفي عام 2018 أطلقت اسم لومومبا على إحدى الساحات العامة في العاصمة بروكسل.
وقال رئيس الوزراء، ألكسندر دي كرو، في خطاب ألقاه يوم 20 يونيو الجاري: “ليس من الطبيعي أن يحتفظ البلجيكيون برفات أحد الآباء المؤسسين للأمة الكونغولية لمدة ستة عقود”. وأضاف “أود، وبحضور عائلته، أن أقدم بدوري اعتذار الحكومة البلجيكية… لقد قُتل رجل بسبب قناعاته السياسية وكلماته ومُثُله العليا”. وبالتزامن مع فترة الحداد الوطني في جمهورية الكونغو الديموقراطية، أعلنت بلجيكا عن فتح دفتر للعزاء في لومومبا، في بروكسل.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قام ملك بلجيكا “فيليب” بأول زيارة له إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية. ورغم أنه لم يقدم اعتذارًا رسميًا، أعرب الملك عن “أسفه العميق على جراح الماضي” واصفا النظام الاستعماري بالعلاقات غير المتكافئة التي لا يمكن تبريرها، والتي اتسمت بالتمييز والعنصرية وأدت إلى أعمال عنف وإهانات”. فهل تكفي الكلمات الملكية المراوغة لتطيب جراح الماضي الاستعماري وتجاوز جرائمه؟
ختامًا، لا يمكن أن ننهي هذا المقال دون أن نشير بفخر إلى الدور العظيم الذي لعبه الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والجيش المصري والمخابرات المصرية، الذين حافظوا على حياة أبناء باتريس لومومبا، ونجحوا في عملية نوعية في تهريبهم جوا إلى القاهرة حيث عاشوا لسنوات.
كان باتريس لومومبا وجمال عبدالناصر، مع أحمد سيكوتوري في غينيا، وكوامي نكروما في غانا، رموزا للاستقلال والتحرر الوطني في أفريقيا ودعاة للوحدة الأفريقية، حاول الاستعمار لسنوات طويلة -وبكل الطرق- محو هذه الرموز من تاريخ وذاكرة الأفريقيين، لكن الأبطال الحقيقيين لا يموتون، ويصبحون-حتى بعد موتهم بسنوات طويلة- نماذج ملهمة ومصادر للأمل.