في ليلة من ليالي صيف عام 2008، وبعد انتهاء “المفكر الإسلامي” صاحب الذكر والصيت من محاضرته، سأله شاب عن عبارة قرأها على أحد الجدران في الشارع تقول: “الحجاب فريضة كالصلاة”.. انفعل الرجل واحتد وعلا صوته كما لم يعل من قبل، وأكد أن هذه العبارة تحمل أنواعا من الجهل المركب.. وانطلق كالشلال يبين مآخذه على تلك العبارة اللقيطة، ولماذا يرفض أن تُكتب على الجدران.

وقد تذكرت تلك الواقعة، في خضم الجدل الدائر حول الحجاب، فغمرتني مشاعر الشفقة تجاه الجماهير العادية، لاسيما من الشباب، الذين يتعرضون كل يوم لضغوط دينية ومجتمعية واقتصادية تتسم بالتناقض الشديد، فلا يزدادون مع أسئلتهم إلا حيرة واضطرابا وقلقا.

فالشاب حديث السن، يتفتح وعيه على الدنيا، فيجد علماء الأزهر يقولون بأن الحجاب واجب، ويجد شيوخ الجماعات السلفية والحركية يقولون بأن الحجاب فريضة كالصلاة، ويجد علمانيين وأدعياء تنوير يطالبون علماء الشريعة بالإفتاء بأن الحجاب مجرد عادة قديمة لا هو فرض ولا واجب ولا سنة، ويجد الدكتور سعد الهلالي وهو أستاذ للفقه المقارن بجامعة الأزهر يقول بأن إيجاب الحجاب ليس إلا موقفا للفقهاء، لا سند له من قرآن أو سنة، ويجد دار الإفتاء تقول بأن المرأة يجب أن تغطي جسمها كله عدا الوجه والكفين، ثم يجد من يسب دار الإفتاء لأنها تفرط في الدين وتبيح كشف الوجه، وقد تعلم من دروس أصحاب اللحى أن وجه المرأة عورة كمؤخرتها، ويجد من يرى أن ترك الحجاب معصية من الصغائر، وآخرين يرون تركه من أكبر الكبائر، وغيرهم يعتبر أن المحجبة أفضل من غير المحجبة وإن ارتكبت كل الموبقات.. وهكذا تزداد الحيرة والاضطراب، ويصبح الدين عذابا وجحيما، لا رحمة وسكينة.

والحقيقة أن اختصار قضية الحجاب في بعدها الفقهي، يعد اختزالا خطيرا، وتبسيطا لمسألة تتسم بالتركيب، وتغافلا عن أبعاد اجتماعية وسياسية وتاريخية بالغة الأهمية، وعن أخطاء تقع فيها أطراف مختلفة، لا تكف عن إمداد النار بالوقود، والعمل ليل نهار على تأجيج حالة الاحتراب المجتمعي، وتعميق الاستقطاب بين طوائف الشعب المصري.

فمن أخطاء بعض المتصدرين باسم العلمانية والتنوير، أنهم يصرون على فرض موقفهم على المؤسسة الدينية، ويطلبون من رموزها أن يفتوا بعدم وجوب الحجاب، وهذا هو المستحيل بعينه، فالمشتغل بالعلم الشرعي، الذي عرف أساسيات اللغة العربية، وقواعد أصول الفقه، واطلع على أقوال المفسرين وأئمة المذاهب، من المستحيل أن يقول بغير وجوب تغطية المرأة لكل بدنها عدا الوجه والكفين، وربما القدمين في بعض الأقوال.. وكل محاولة لتغيير هذه الرؤية عند المشتغلين بالعلم الشرعي مآلها الفشل، ولا أثر لها إلا زيادة التطرف، وتنمية شعور وهمي بأن العالم أو السلطة تتآمر على الإسلام، وتحارب تعاليم الدين.

في المقابل، رفعت الجماعات الحركية مسألة الحجاب إلى مستوى أركان الإسلام العليا، بل ساوتها بالركن الأهم وهو الصلاة.. هذا من الناحية النظرية، لكن عمليا، فإن هذه الجماعات جعلت من حجاب المرأة أكبر قضايا الإسلام وأخطرها، وبذلت في ذلك جهودا جبارة، بحشد النصوص، وتقديم فهم ضيق لها، ومنح هذه القضية المساحة الأكبر بين الدروس والمحاضرات والفتاوى منذ عصر شرائط الكاسيت وحتى اليوم.

هنا، لا يمكننا أن نتغافل عن تاريخ قريب، فمسألة الحجاب لم تكن يوما بهذه الأهمية ولا بهذا الحجم، حتى الجماعات الإسلامية التي ظهرت في مصر أواخر العشرينات، لم تعط لقضية الحجاب هذه الأهمية الكبيرة.. ومن يدرس جيدا كتابات حسن البنا مؤسس الإخوان، سيرى أن جل تركيز الرجل انصب على إنشاء تنظيم ضخم بتسلسل قيادي هرمي، ولم تحظ مسألة الحجاب عنده بعشر معشار ما تحظى به عند أتباعه.

ولا يحتج معترض بأن الجدل كان قويا حول الحجاب في عصر ما قبل البنا، حيث كتابات قاسم أمين، ومن قبله الإمام محمد عبده.. فلفظة “الحجاب” في هذا العصر لم تكن بمعناها الشائع اليوم (الجلباب والخمار)، وإنما كان لها معنيان: الأول، هو النقاب، أو البرقع، والثاني، هو الاحتجاب عن مجتمع الرجال، والاحتراز من مخالطتهم إلا للضرورة.. وكلاهما كان مرفوضا من الأستاذ الإمام، ومن المصلح الاجتماعي الكبير قاسم أمين.. وإدراك هذا سهل ميسور لمن يطالع الأعمال الكاملة للرجلين، وهي مطبوعة متاحة بتحقيق الدكتور محمد عمارة.

ظل الشأن كذلك، إلى أن جاء عقد السبعينات، وقرر الرئيس أنور السادات إطلاق الجماعات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان، لمواجهة اليسار القوي الصاعد والمؤثر، والمعرقل لخطوات تغيير توجهات السياسة الخارجية، والانحيازات الاقتصادية.. ودون مبالغة، سلمت الدولة الجامعات المصرية للهيمنة الإخوانية، إلى درجة أن الجماعة كانت تعقد معسكراتها الصيفية للآلاف من الطلاب داخل الجامعة.. وتحت سمع الأمن وبصره ورعايته، تنفتح بوابات جامعة القاهرة لسيارات كبار قادة الإخوان، ليحاضروا في شباب الجامعة.. نعم، كانت الدولة ترتب المحاضرات لزينب الغزالي وعمر التلمساني ومصطفى مشهور وأحمد الملط.. وكان بعض أعضاء الإخوان يقول ساخرا: جامعة القاهرة.. المعسكر الصيفي للإخوان.. الإقامة والطعام والانتقالات على حساب الحكومة المصرية.

في هذا التوقيت، رأى الإخوان أن “الحجاب” متمثلا في تغطية شعر الطالبات يمثل مظهرا مهما من مظاهر الاستعلان والسطوة والهيمنة، فجعلوا من هذه المسألة قضية كبرى، ووجهوا لها جهودا دعوية وحركية كبيرة، وفق ما يرويه القيادي الإخواني الراحل عصام العريان، أحد أبرز القيادات الطلابية الإخوانية في هذا التوقيت.

ثم ظهر على الخط شباب يعتبر الإخوان متساهلين، وأن هناك وسائل أنجع، فاستخدموا ما يمكن أن نسميه الابتزاز الاجتماعي، فانتشرت بينهم وبين الطلاب عبارات تحقر من رجولة الأب أو الأخ أو الزوج الذي يترك ابنته أو أخته أو زوجته بلا حجاب.. واستدعيت لأول مرة لفظة “ديوث” لوصف كل من يتساهل مع بناته أو أخواته في هذه المسألة.. ثم تطور الأمر إلى تهديد البنات بإلقاء ماء النار على أجسادهن وتشويه وجوههن إذا لم يلتزمن بالحجاب، ووقعت بالفعل بعض الوقائع المؤسفة، التي سببت إرهابا وتخويفا كبيرا بين الطالبات، وأكبر منه بين الأهالي.

ولا يمكن لأحد أن يكابر في أن أعضاء الجماعات، يتهاونون في “معاصي” أكبر وأعظم، فهم من الناحية العملية الواقعية يمارسون ضغوطا هائلة على النساء لأجل الحجاب، ولا يبذلون 1% من هذه الجهود لأجل الحفاظ على الصلاة، أو ترك الرشوة، أو غض البصر، أو مواجهة التحرش.

فإذا عدنا إلى مواقف الأزهر والأزهريين، قبل حقبة السبعينات، فسنجد أن المؤسسة الأزهرية لم تجعل من مسألة الحجاب قضية كبرى، قبل هذا التاريخ.. لم تكن المؤسسة تطرح هذه القضية أصلا.. وعندما يُسئل كبار علمائها عنها، فإنهم كانوا يقدمون إجابات رصينة، تتسم بلطف ودقة في اختيار الألفاظ، فيتحدثون عن أن الإسلام يأمر بالاحتشام، وعدم إثارة الغرائز.. وفي أقصى الحالات يتحدثون عن وجوب ستر العورات.. وبالرغم من أن جمهور الفقهاء من غير الأحناف لا يفرق بين “الواجب” و”الفرض” إلا أن شيوخ الأزهر لم يستخدموا وصف الحجاب بالفريضة نهائيا.. والأسباب الفقهية والعلمية لهذا كثيرة.

ليس في كتب الفقه الإسلامي باب مستقل باسم الحجاب، ومن يريد أن يبحث عن المسألة في مدونات الفقه الأساسية لمختلف المذاهب، فلن يجد مسألة بعنوان: حكم الحجاب.. وإنما سيجد الحديث عن “ستر العورة”، وهذه بدورها لا تذكر في باب مستقل، وإنما هي مجرد شرط من شروط صحة الصلاة.. ثم يتحدث بعض الفقهاء عن “العورة” خارج الصلاة، إذا كان مذهبه التفريق بين الصلاة وخارجها.. فهذه مسألة لا ترقى لأن تكون من أركان الدين، بحيث نقيم المرأة من خلالها، ونقيم الرجال بموقفهم منها.

وقد تجلى هذه الموقف الأزهري الأصيل في كلام شيخ الأزهر أحمد الطيب، الذي أكد بعبارات واضحة، على أن ترك “الحجاب” معصية، لكنها معصية كبقية المعاصي من الصغائر، وأن “الكذب” مثلا أخطر منها وأشد استحقاقا لغضب الله.. لكن مع الأسف، كان الانتقاد الأوسع لكلام شيخ الأزهر صادرا من أزهريين، لأن فكر الجماعات السلفي منها والحركي، هيمن على الشارع، وعلى طلاب المدارس والجامعات عموما، وعلى الأزهريين بصفة خاصة، لأنهم مشتغلون بعلوم الشرع.

وأظن أن الموقف العلماني المتوازن والعقلاني، سيعتبر أن الحجاب مسألة شخصية، وفي أقصى تقدير قد يرى أن سياقاتها الاجتماعية لم تعد قائمة، وأن تخصيص المرأة الحرة بغطاء رأسها وصدرها دون الإماء، يعتبر مؤشرا على أن المسألة ليس لها صلة بإثارة الشهوات.. مع التوقف عند هذا الحد، دون مطالبة علماء الدين بما هو مستحيل، أو اعتبار أن الدكتور سعد الهلالي قد توصل إلى ما جهله العلماء والفقهاء والمحدثون من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإمامية والزيدية والإباضية، في جميع أقطار العالم الإسلامي، عبر 1200 عام.. هذا ليس تنويرا.. هذا جنون.

وأزهريا، فأعتقد أن من واجب فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، أن ينتبه إلى الفجوة العميقة والهوة السحيقة بين خطابه المعتدل المتوازن، وبين ما يصدر عن كثير من الأزهريين، وبعضهم رموز وأصحاب مناصب حالية وسابقة.. كما أن دار الإفتاء بحاجة إلى استعادة أنماط الخطاب الأزهري الخاصة بهذه القضية، فيما قبل منتصف السبعينات، حتى لا تتورط في عبارات يلوكها شباب الجماعات المتطرفة.. همومنا في مصر أكبر من هذه الملهاة.