خلال الأسابيع الماضية دارت نقاشات حامية حول قضية مقتل الطالبة “نيرة أشرف” تفاعلت معها المؤسسات القضائية بالمتابعة والنشر. حتى قرار إحالة أوراق المتهم إلى مفتي الجمهورية لاستطلاع الرأي في إعدامه. وهو ما تم في ثاني جلسات المحاكمة. وكل متابع للقضاء في مصر يعلم أنه تعجل غير معتاد من محاكم الجنايات. تقدم المتهم بدفاع عن نفسه في محاولة لنفي صفة “الإصرار والترصد” لتقليل الحكم من إعدام إلى حكم السجن المشدد.
أعتقد أن القضية والتعامل الحكومي معها معتاد في القضايا التي تشغل الجمهور. ولكن الأزمة الحقيقية هي تضارب آراء الجمهور حول قضية واضحة لشاب قتل زميلته أمام بوابة الجامعة في وضح النهار. لدرجة أن البعض أطلق حملة لجمع أموال “دِيَة” لقاتل البنت. وهو ما أظهر اضطرابا واضحا حول مفهوم “العقاب”. ليست المرة الأولى بالطبع. فكل حديث حول جريمة متعلقة بالعنف ضد المرأة تزداد حدة الاضطراب.
اقرأ أيضًا.. عقبات في طريق “الحوار الوطني”
هناك أسباب عديدة يمكن أن نعزي إليها هذا الاضطراب. نوجز بعضها فيما يلي:
تقادم البنية التشريعية:
تعود أغلب القوانين المصرية إلى عشرات السنين. حيث تمت صياغتها وفقا لفلسفة وعقد اجتماعي يختلف تماما عن الوضع الحالي. كما انخرطت مصر في عدد من الاتفاقيات الدولية الملزمة لتشريعات تحافظ على حقوق الإنسان. كل محاولات الترقيع التي تمت على القوانين خلال السنوات الماضية لم تعد صالحة.
تضارب مصادر التشريع:
لا تزال المعضلة الرئيسية في اعتبار الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع تواجه المجتمع ككل. ومحاولات التوفيق بين القوانين المشرعة وفقا لمصالح المجتمع وعلاقات القوة بداخله. مع ما يراه “الأزهر” باعتباره ممثلا عن الدين الاسلامي. أغلب تلك المحاولات تسبب صدعا جديدا بين الطرفين وقانون “الأحوال الشخصية الجديد” نموذجا.
القبول المجتمعي:
أخطر ما يواجهنا حاليا هو عدم الثقة لدى قطاعات واسعة من الجماهير بالمنظومة التشريعية ككل. وفي السياسة العقابية تحديدا. وهو ما ينتج عنه شرعنة شعبوية لجرائم معينة إذا تم تبريرها بشكل يلائم الجمهور. فلا تزال جرائم سرقة الآثار والقتل بدافع الشرف تحظى بقبول جماهيري رغم أن القانون يجرمها ويعاقب عليها.
الخلط بين العقاب والانتقام:
تجاوز العالم مفهوم الانتقام منذ عشرات السنين إلى مفهوم العقاب كوسيلة لحماية المجتمع وتقويم سلوك المجرمين. بل والمنظومة التشريعية المصرية القديمة متجاوزة لمفهوم الانتقام. ولكن لا تزال أغلب القائمين على عملية التشريع أو إنفاذ القانون تدفعهم رغبة الانتقام بدلا من العقاب بغرض الردع.
جرائم مستحدثة:
تعتبر جرائم التقنية جديدة على التشريعات المصرية وغير مفهومة لدى المشرعين أو القضاة. فالجرائم التكنولوجية معقدة ومركبة. كما أن تجريمها غير مفهوم للجماهير. البعض كان يعتبر جرائم القرصنة والتحايل نوعا من “الفهلوة”. كما أن جرائم الابتزاز الإلكتروني واسعة الانتشار لدرجة يتصور البعض أن القانون لا يعاقب عليها.
التوازن بين الجريمة والعقاب:
خلال السنوات الماضية اعتمد المشرع على مبدأ “تغليظ العقاب”. كطريق وحيد لكبح الانفلات في المجتمع. وهو ما فشل بدرجة كبيرة في قضايا مثل الاتجار في المخدرات والتحرش. كما تحولت تعديلات القوانين تماشيا مع “الترندات” بدلا من أن تكون نتاج عملية تطوير مستمرة في مفاهيم الجرائم وقراءة مجتمعية سليمة لمعدلات الجريمة. كي تحظى الجرائم بعوقبات مناسبة دون إفراط أو تفريط.
السياسة العقابية وحقوق الإنسان:
برغم الحديث المتواصل عن حقوق الإنسان وتحركات المجتمع المدني منذ أكثر من 20 عاما لنشر الثقافة الحقوقية. فإنه لا تزال تواجهها عقبات كثيرة. وبالرغم من الضغوط الدولية على الدولة لتعديل القوانين وفقا لمبادئ حقوق الإنسان فإن قضايا حرية التعبير تحديدا تحتاج إلى بيئة آمنة وتشريعات واضحة ترسم حدودا فاصلة بين حرية التعبير وخطابات العنف والكراهية والتحريض.