منذ أن أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسي دعوة للحوار حول أولويات العمل الوطني مع كل القوى السياسية قبل نحو 3 أشهر تقريبًا، والحديث لم يتوقف عن مشاركة جماعة الإخوان وحلفائها في الخارج في هذا الحوار، خاصة بعد أن أبدت أجنحة الجماعة المتناحرة ترحيبها واستعدادها المشروط للانضمام إلى مائدة الدعوة التي وجهها الرئيس إلى الجميع “دون استثناء أو تمييز”.
أول رسائل الترحيب بالدعوة وصلت من “إخوان لندن” وهو الجناح الذي يمثله إبراهيم منير القائم بأعمال مرشد الجماعة، فبعد أيام قليلة من الإعلان عن الحوار، نشر رجل العلاقات الخارجية في التنظيم الملياردير الإخواني يوسف ندا ما أسماه “رسالة مفتوحة إلى النظام المصري”، أعرب فيها عن استعداد جماعته للمشاركة، شريطة أن “تُرد المظالم ويتوقف العداون وتنتهي معاناة المسجونين”، داعيًا أن يكون الحوار مع الرئيس مباشرة.
اقرأ أيضًا.. مطبات في مسار “الحوار السياسي”
الرسالة الثانية أطلقها الجناح الذي يمثله محمود حسين الأمين العام للجماعة والمعروف بـ”إخوان أنقرة” أصدرت تلك المجموعة بيانًا أبدت فيه تجاوبها مع الدعوة، لكن وفق شروط وصفها المراقبون بـ”التعجيزية”، مطالبة بـ”إعادة تقييم الأحكام التي صدرت في القضايا ذات الطبيعة السياسية منذ عام 2013؛ والتعهد بإعادة المحاكمات التي نظرت أمام محاكم أمن الدولة طوارئ أو محاكم عسكرية”.
أما الجناح الثالث، والمسمى بـ”المكتب العام للإخوان” والذي يعبر عنه بعض شباب الجماعة المحسوبين على القيادي الإخوان الراحل محمد كمال الذي أدار الجماعة في الداخل بعد سقوط حكمها في 2013، فهاجم الدعوة ومن أبدى استعداده للتجاوب معها بشروط أو بدون شروط، ودعوا في بيانهم “الجماهير إلى الاستمرار في النهج الثوري حتى رحيل السلطة القائمة”.
“المكتب العام للإخوان” أو من يعرفون إعلاميًا بـ”الكماليين” لم يغلقوا باب الاجتهاد والتفاوض أمام إخوانهم، وقالوا في بيانهم: “بكل وضوح.. ما من جهة من الجهات المتنازعة حول القيادة الآن في جماعة الإخوان المسلمين له الحق في التفاوض باسم الجماعة، فكل تيار ينتمي إلى مدرسة الإخوان له قراره وفقًا لاجتهاده، ويظل الإخوة في السجون لهم قرارهم الخاص لا يمليه عليهم أحد ولا يزايد عليهم أحد، ولا يتاجر باسمهم أحد”.
ورغم مرور أكثر من شهرين على رسائل أجنحة الجماعة المتتالية، إلا أن السلطة لم تعلن موقفًا رسميًا قاطعًا من تلك الرسائل، وهو ما أضفى هالة من الغموض وفتح باب التساؤلات والتفسيرات المتضاربة بشأن قبول النظام في مصر للتعامل مع الجماعة أو مع بعض أعضائها وكوادرها.
بعض التأويلات ذهبت إلى أن ملف “المصالحة بين النظام والإخوان” كان أحد الملفات التي طرحها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الرئيس السيسي خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، فيما تحدثت تحليلات أخرى بدت في ظاهرها أكثر منطقية عن أن أمير قطر تميم بن حمد ناقش ذات القضية مع الرئيس في أول زيارة له لمصر بعد قطيعة دامت أكثر من 7 سنوات.
اقرأ أيضًا.. هل تُفسد الأزمة السياسية في إسرائيل زيارة بايدن للشرق الأوسط؟
لم يلتفت أصحاب التأويل الأول إلى بن سلمان قد يكون أكثر تشددًا من السيسي في موقفه من الجماعة، كما لم يتوقف أصحاب التحليل الثاني عند تهنئة تميم لمصر بمناسبة الذكرى التاسعة لثورة 30 يونيو التي أنهت حكم الجماعة.
تصريحات المنسق العام للحوار ضياء رشوان وما أعقبها من حديث لبعض الشخصيات السياسية التي شاركت في الجلسات التحضيرية للحوار الوطني حول إمكانية وجود “إخوان” -دون ألف ولام- على مائدة الحوار، صاعدت من حالة الغموض، وامتلأت منصات الإعلام بتفسيرات وتأويلات مراقبين اعتبر بعضهم أن السلطة فضلت الرد على رسائل أجنحة الجماعة بإشارات بعثت بها عبر وسطاء.
في برنامجه على إحدى الفضائيات المصرية قال رشوان إن “دائرة المدعوين للحوار الوطني تتسع يومًا بعد يوم”، وأشار إلى أن هناك أطرافا تنتمي إلى الإخوان أو قريبين منها “تسعى إلى المشاركة في الحوار والبعض يريد التشكيك”، أما السياسي المعارض والمرشح الرئاسي السابق المنخرط في ترتيبات الحوار حمدين صباحي فقال في تصريحات متلفزة “إذا كان الإخوان يرغبون في الحوار فعليهم أن يتقدموا له”.
وفي تصريحاته التي أدلى بها من لبنان عقب انتخابه أمينًا عامًا للمؤتمر القومي العربي، حدد صباحي ما يرى أنه محددات أو شروط لمشاركة الجماعة، “إذا رغب الإخوان أو بعضهم أو أي أحد غيرهم في المشاركة في الحوار فعليهم أن يطلبوا ذلك.. المفترض في هذه الحالة أن يكون هناك إقرار واضح منهم بالاعتراف بشرعية السلطة التي سيكون الحوار في ظلها، والالتزام بدستور 2014”.
البعض تعامل مع حديث رشوان وصباحي على أنه رد السلطة على رسائل الجماعة، وتم الربط بين توقيت تلك التصريحات وما ينشر عن ضغوط دولية يتعرض لها النظام لإدماج الإسلاميين وفي القلب منهم الإخوان في العملية السياسية، وذهب هؤلاء إلى أن النظام أراد أن يغازل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن والتي لها تحفظات كبيرة على سجل حقوق الإنسان في مصر والتي لها أيضا فلسفتها الخاصة هي وباقي الديمقراطيين في التعامل مع “جماعات الإسلام السياسي المعتدلة”، ومن ثم فالسلطة في مصر تعمل على تهيئة المناخ وتلطيف الأجواء قبل أول لقاء سيجمع الرئيس السيسي بنظيره الأمريكي في جدة بعد أيام.
واقع الأمر أن ما طرحه رشوان وصباحي كمحددات لمشاركة الإخوان في الحوار، هي شروط إذعان لو قبلت بها الجماعة لانتهى أمرها وطويت صفحتها، فالقبول بشرعية الدستور والرئيس يعني اعترافهم بأن ما جرى في 30 يونيو 2013 ثورة وليست انقلاب، هذا الاعتراف يضرب قواعد وأعمدة البناء الذي عمل كهنة التنظيم للحفاظ عليه بصناعة مظلومية “الانقلاب العسكري على شرعية الرئيس المنتخب”.
حسابات المنطق والعقل تشير إلى أن الإخوان لن يقبلوا الاعتراف بشرعية المؤسسات التي أقيمت على أنقاض حكمهم، لكن نفعية الجماعة وتاريخها المليء بالمراوغة وعقد الصفقات مع الأعداء والخصوم يجعل المسألة غير مستبعدة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار لعبة توزيع الأدوار التي يجيدها كوادر الإخوان فهذا إصلاحي معتدل يملك القدرة على التفاوض، وهذا محافظ متشدد مهمته الحفاظ على مفاصل التنظيم، وعلى هذا وذاك مسئولية بقاء الجماعة واستمرارها في أحلك الظروف.
لم يطرح رشوان وصباحي أمرًا جديدًا، فالرئيس أعلن من البداية أن الحوار يتسع للجميع “دون تمييز ولا استثناء”، وأن “الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، لكنه عاد مفسرًا بعد أيام من إطلاق الدعوة وتحدث صراحة عن “تزييف الإخوان وتهديداتهم”.
وفي أعقاب رسالة يوسف ندا المشار إليه بساعات، قال السيسي خلال احتفالية عيد الفطر الماضي “قعدت 7 سنين لم أذكرهم مرة واحدة وكنت أقول أهل الشر.. عشان أدي فرصة لأهل الشر يتراجعوا عن الشر.. لكن ربنا يهدينا كلنا”، مذكرًا الشعب بتهديداتهم المباشرة بـ”حرق الدولة” قبل وأثناء توليهم الحكم في عام 2012.
شرط المشاركة في الحوار الوطني المرتقب مرهون بـ”الاعتراف بالدستور وشرعية الرئيس السيسي ممن لم تتلوث أيديه بدماء الشعب المصري”، يقول مصدر قريب من دائرة صناعة القرار، مشيرًا إلى أن جماعة الإخوان تستغل الظروف السياسية لصالحها “تُطوع الجماعة هذه الظروف بما يخدم أهدافها، لكنها في حقيقة الأمر لا تؤمن بالحوار، وهذه عادة التنظيمات الدينية المتطرفة”.
ويضيف المصدر: “لا تجيد هذه التنظيمات الحوار حتى مع نفسها، كما أنها لا تؤمن بالآخر وترفض الحوار معه”، مؤكدًا أنه لا يوجد احتمالية لمشاركة أو توجيه الدعوة أو التفاوض مع تنظيم الإخوان”.
لكن ذات المصدر أردف قائلًا إنه: “يجب احتواء أي فصيل حتى الفصيل الإسلامي ممن لم يشاركوا في العنف أو يحرضوا عليه”، موضحًا أن هؤلاء لو لم يلقوا ترحيبا من الدولة والنظام فسيمكن استخدامهم وتحريضهم وشحنهم ضد الدولة، “استقطابهم سيكون عملية بسيطة وسهلة لو ظلوا خارج دائرة الاحتواء”.
وشدد المصدر على أن الدولة ترحب بجميع الأطراف في الحوار، ولن تُقصي أحدًا إلا من تلوثت أيديهم بالدماء وهم “الإخوان المسلمون” حسب تأكيده، فيما عدا ذلك ترحب الدولة وفقًا لذات المصدر بمشاركة التيارات الإسلامية مثل حزب النور “الذي لعب دورًا مهمًا في مشهد ثورة 30 يونيو التي قامت ضد الإقصاء والتمييز والإرهاب واستخدام العنف والقوة باسم الدين وهذا لا ينبطق على حزب النور” على ما قال المصدر، مؤكدًا أن الجماعة لن تعود لممارسة نشاطها مجددا كتنظيم.
لا يعني ذلك أن السلطة لن تناور لتحقيق مآربها، مستخدمة تكتيك “الشروط التعجيزية” ظنًا منها أن قبول الجماعة بتلك الشروط قد يهز كيانها ويفقدها شرعيتها الأخلاقية أمام قواعدها، ما لا يتحسب له أصحاب تلك المناورة أن الضربة قد ترتد إلى صدر النظام الذي أسس شرعيته على إسقاط حكم الجماعة وإنقاذ مصر من المصير المجهول لو استمر حكم المرشد.
لا يمكن استبعاد سيناريو مشاركة أعضاء بالإخوان أو متحالفين معهم في الحوار الوطني الذي ستدور عجلته بعد أيام، فبعض أعضاء وكوادر الجماعة وحلفائهم في الخارج لم يتورطوا بشكل معلن في التحريض على العنف، من هؤلاء من فرض على نفسه الصمت ولم يتصدر شاشات الفضائيات التي تبث من أنقرة أو لندن أو الدوحة، ولبعضهم صلات قديمة قد تتجدد مع السلطة.
يعرف الإخوان جيدا ماذا يفعلون، عركتهم خبرة 8 عقود تعاملوا فيها مع حكومات سمحت بهامش حركة وأخرى حاصرت أي هامش ووجهت للتنظيم ضربات في مقتل، مع ذلك قامت الجماعة من الأنقاض وتسللت حتى عادت، قسم كوادرها الأدوار ولعبوا على كل الحبال واستغلوا كل الثغرات بنفعية منقطعة النظير.. فهل تعرف السلطة ماذا تفعل أم أنها تناور بالنار؟!