ثمة قاعدة مؤسسة للنقد الفني “في الأدب والسينما” يمكن أن نستدل بها أثناء طريقنا الوعرة للحديث والكتابة حول الأعمال الفنية والأدبية التي نشاهدها عربيًا. وهي تقول إن القاعدة في النقد هي ملاحظة الإبداع.
فأحيانًا كثيرة يبدو منطق الناقد أن يضع عينه على أكبر نقاط القوة في العمل. إلى جانب أبعاده المباشرة وغير المباشرة ومحيطه الاجتماعي والسياسي بالطبع.
في وقت من الأوقات المؤسسة للمجتمعات كانت الطبقة الإقطاعية هي التي تهمين على النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي. آنذاك كان المذهب الكلاسيكي بثباته واحترامه الشديد للقواعد هو المسيطر على التفسيرات العامة للفنون.
بعدها بسنوات تغيرت طبيعة المجتمعات بشكلٍ بطيء. تحولت قيمُه من منطقة لأخرى دون قصد واضح. تحكم فيه توزيع الثروة على أناس آخرين. نشأت طبقة جديدة تمامًا. فكانت البرجوازية. وهي طبقة التجّار والصناع التي كان يحكمها سعة خيال أصحابها. انتشر وقتها المذهب الرومانسي الحالم الذي يعوّض حياة تلك الطبقة بتوحشها في جمع الثروات مهما كان الأمر أخلاقيا أو غير أخلاقي. وانبثقت من البرجوازية طبقة الرأسمالية الاحتكارية. والتي بوجودها فُقدت روح المغامرة نوعًا ما واستسلمت للأخيلة المريضة الباهتة. وأصبحت النظرة الرومانسية نظرة مائعة لا تمثل شيئا.
معيارية الكتابة وصناعة السينما
وبدت الكلاسيكية مجالا للتهكم والسخرية وجاءت مكانها النظرة والتحول لشتى التجارب الشكلية من واقع انطباعي سريع.
ثمة نتيجة محتومة لكل ذلك تسبق الحكم النقدي أساسًا مهما كانت موضوعيته. أي إن كل محتوى نقدي هو في النهاية وليد ظرفية تاريخية تتجاوزه مهما سعى للتنصل منها.
في ضوء هذا الحديث تفتح “مصر 360” ملفا واسعا عن معيارية الكتابة والصناعة في مصر عمومًا. “ما الذي علينا أن نهتم به أدبيًا وسينمائيًا؟ ولماذا هناك تركيز على أشياء وأعمال دون غيرها؟ وما الذي يؤهل الناس هنا للكتابة والصناعة السينمائية الحقيقية. التي تقدم وعيا متجاوزا للمواطن العادي. وتسعى لتنويره في وقت صعب؟”.
في ضوء الحديث عن محورية النقد وكتابته نعيد التساؤلات: “ماذا يعني النقد السينمائي؟ وبشكل أكثر دقة ماذا تعني كلمة برمجة؟ كيف جاءت الفكرة من الأساس؟. ماذا يعني أن يعمل أحدهم مبرمجا؟ ما الذي على الفنان عمله لكل يدّعي كونه مبرمجا؟ ما مدى تأثير الفرد كمبرمج وسياقات ذلك السياسية والاجتماعية والثقافية؟”.
يجبنا عن ذلك الناقد العالمي حسام عاصي. والذي عمل في النسخة العربية من هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”. ثم انضم إلى جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية.
يقول “عاصي” إلى “مصر 360” إن على الجمهور العام أن يعي كيف تسير الأمور مع برمجة الأفلام. فبرمجة المهرجانات السينمائية تعني اختيار الأفلام التي تمثل المهرجان وأفكاره. ما يعني أنها إذا كانت أكثر رحابة وحرية تشكّل خطورة على اختيار الأفكار التي تقدّم.
إذ يمكن من خلال هذه الوظيفة -مبرمج المهرجان- عرض أفكار ثورية على المستوى الثقافي والاجتماعي. بشرط أن تتم بحرية. لكن ما يحدث بالنسبة للبرمجة السينمائية عمومًا أن كل مخرج يحب أن يكون فيلمه في المهرجان الأشهر على مستوى العالم: مهرجان “كان” السينمائي بالطبع. يذهب الجميع في البداية بأفلامهم الجديدة إليه. إذا رُفض يذهب به إلى الأقل شهرة مثل فينيسا أو برلين أو غيرها من المهرجانات. ما يعني أن الأفلام التي تصل إلى المهرجانات العربية تكون هي الأفلام التي تم رفضها في المهرجانات الأشهر.
المبرمجون العرب ومنطق الشهرة في السينما
أما المبرمجون العرب فيذهبون إلى المهرجان الأشهر ليشتروا حقوق عرض الأفلام التي حصلت على جوائز مهما كانت مضامينها. في الغالب لضمانة شهرة المهرجان ذاته وضمانة الظهور بمظهر المهرجان الذي يعرض الأفلام الأكثر شهرة في السنة. إلى جانب بالطبع عرض بعض الأفلام الجماهيرية التي يسعى إليها الجمهور العام وإلى نجومها الأكثر شهرة.
“البرمجة” السينمائية -بحسب “عاصي”- في سياقها العربي لا تعني شيئا. فالمبرمج العربي لا يملك سلطة فعلية لاختيار موضوعات وقضايا تمثله. فالنهاية هو مجبر على اختيار بعض الأفلام عن غيرها لأنها الأشهر والأكثر حصدًا للجوائز ليس لأنها تمثله بالفعل.
عن أزمة “ريش”
كنتُ بجانب “عاصي” في مهرجان الجونة السابق وشاهدنا ردود الفعل على فيلم “ريش”. والذي حصد الجائزة الكبرى وجائزة الفيبرسي “الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين” لأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان “كان”. وهي أول جائزة يحصل عليها فيلم مصري طويل في تاريخ المهرجان. قبل أن يعرضه مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة.
عن اختيار “ريش” في الجونة
قال “عاصي” حينها إن اختيار “ريش” الذي ينتقد السلطة وسياسات الفقر في مصر ذاته كان بسبب شهرته في “كان” السينمائي ليس لأنه فيلم فني فقط. كما أن ما حدث عليه من معارضات وشد وجذب يعطي نبذة أين نحن من كل ذلك. في النهاية يجب توفير مناخ حر وآمن لعرض الأفكار واختيارها. وهو شيء صعب في البلاد العربية أساسًا. ما يجعل المبرمجين يُحجمون عن اختيار بعض الأفلام التي تعرّضهم لبعض المشكلات التي يمكن تجاوزها أساسًا.
على الجانب الآخر يشير “عاصي” أن عدم استقبال الأفلام العربية في المهرجانات العالمية يكون في الغالب بسبب ضعف أثناء صناعة الفيلم العربي. الذي عادة ما يكون غارقا في محليته وقضاياه بشكل غير رمزي أو فني بدرجة كبيرة. أي أن تدني الصناعة من جهة الصناع يقلل سقف وطموح وتفكير المبرمجين في الاختيار الذي يناسب الجمهور والصناع المحليين.
يدرك “عاصي” جيدًا أن الصناعة السينمائية العربية لديها مشكلات كثيرة. لكنه يعلن أهمية إيضاح تواكل المبرمج العربي على المبرمج الغربي والأمريكي. وهو شيء يجب التفكير فيه والتخلص منه إذا كنا نريد أن نقدم وجهات نظرنا الحرة لدى الجمهور.
كما أن الكتابة عن العمل الفني -الكتابة الجيدة بالطبع- هي جزء أصيل منه تكمّله وتزيد شروحه وتفسيره. أيضًا فإن اختيار عمل فني للعرض للجمهور المصري هو ملف علينا أن نفتحه ونتساءل عن جدواه لأنه يعني الكثير في مساحة عرض أفكارنا وقضايانا التي تخصنا.
سلطة البرمجة العربية في السينما تكمن في اختيارها الحر. وإذا كان لا يمكنها تحقيق هذا الاختيار الحُر فعليها أن تسعى بكل الطرق إلى تحقيق ذلك كنقطة مؤسِّسة ومحورية في أي صناعة فنية رائدة يمكنها المنافسة عالميًا والتعبير عن مجتمعها. بدلًا من الجلوس لنقل كل الأفكار مضمونة النجاح وعرضها في مهرجانات لا تقدم أي جديد إلا صراخا إعلاميا لا يعني شيئا للفن أو للجمهور.