قبل أيام قليلة عاد رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى تذكير كبار الساسة في بلاده بضرورة تشكيل حكومة وطنية خلال أسبوع على الأكثر لإنقاذ لبنان من انهيار اقتصادي لن تقدر عليه حكومة تصريف الأعمال التي تجدف ضد التيار منذ أكثر من عام، والحل بالنسبة له في تعيين حكومة وحدة وطنية حقيقية في منأى عن الاستقطاب والصدام تنقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
اقرأ أيضًا.. على حافة الإفلاس.. لبنان مُعلق على قشة صندوق النقد
ما الذي يمنع تشكيل وحدة وطنية؟
تصريح بري لا جديد فيه، فالدعوة للتوافق على حكومة وطنية يعتبرها الخبراء حل اللا حل، إذ تتمحور أزمات لبنان الحقيقية في عدم المساءلة السياسية والجنائية وسوء الإدارة الحكومية والفساد، وما دام لم تحل هذه الشروخ في جدار الدولة، لن يكون هناك جديدا.
يقول الدكتور محمد الشيمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان والمتخصص في شئون العلاقات الدولية لـ”مصر 360″ إن استهلاك السيناريوهات الجاهزة باستمرار يعتبر من طبيعة المرحلة. فاستدعاء القوالب الثابتة أحد الأدوات التي تتصور القوى السياسية اللبنانية، أنه يمكن حل أزمات البلاد من خلالها.
وبحسب أستاذ العلوم السياسية، فإن هذه الحلول لا تحقق النجاح المطلوب، لكنها تبقى تيمة جاهزة تلجأ إليها الديمقراطيات التوافقية المشوهة كما الحال في النموذج اللبناني وبلدان العالم الثالث التي ترتبط بمحددات ومصالح داخلية وخارجية، وبما يناسب القطاعات الأصغر في المجتمع، إذ لا تحسم كتل كبرى الطبيعة السائدة للنظام السياسي وتوجهاته العامة.
ثورة 17 أكتوبر.. نار تحت الرماد
منذ عام 2019 ولبنان يعيش أزمة خانقة على وقع اندلاع ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول والاحتجاجات المتزايدة والمستمرة التي ألحقت “سويسرا الشرق” بثورات الربيع العربي متأخرًا بنحو عقد كامل عن الانفجارات العربية في مطلع العقد الماضي.
تراكمت الديون وضاعف من جراح لبنان جائحة كورونا التي عمقت الركود الاقتصادي وأرهقت نظام الصحة العامة، ومع الضغط أكثر لم تتحمل الأورام الخبيثة في النظام السياسي. شاهد العالم انفجار ميناء بيروت المدمر -أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ- الذي أدى إلى مقتل 200 شخص وإصابة الآلاف وتدمير العديد من أهم الأحياء في قلب العاصمة.
كان التخزين غير السليم لأكثر من ألفي طن من نترات الأمونيوم المتفجرة على مدى عدة سنوات، سببًا مباشرًا للكارثة كما نصت التحقيقات، بينما كان السبب الحقيقي عدم المساءلة السياسية عن سوء الإدارة الحكومية والفساد. فرغم كون الانفجار أحد أفظع الأمثلة على المخالفات العامة في التاريخ الحديث، لكن ملف القضية عطل تمامًا ووضعت أمامه العراقيل بعد ظهور مؤشرات عن تورط مسئولين كبار داخل النظام السياسي في الأزمة.
أدير المشهد لاستكمال حلقات الإفلات من الجرائم كما هو الحال خلال السنوات العشرين الماضية، فالعودة بالذاكرة السياسية لمعرفة المسئول عن كل الاغتيالات والتفجيرات في لبنان سنجد أنه أفلت بنفس الطريقة. يغلق ملفه دون محاسبة إلا نادرًا.
بموجب النظام السياسي في لبنان، تذهب السلطة للأقوى في طائفته، التي تتنافس بدورها على اقتناص الوزارات الأكثر ربحية دون أي خطة أو برنامج لدفع البلاد للأمام، ودون تحمل أي مسئولية أمام المجتمع اللبناني أو الدولي.
حكومات الوحدة.. لا جديد في الفشل
يستدعي ساسة لبنان من الذاكرة شعارات حكومة الوحدة الوطنية كلما تأزمت الأوضاع في البلاد. بدأ العمل بهذا المفهوم منذ اتفاق الطائف الذي وضع حدًا للحرب الأهلية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لكن بالبحث في طيات المفهوم نجد أن القوى السياسية في أغلبها لا تمرره، لأنه يجردها من حقوقها وامتيازاتها التي لاتستطيع الاستغناء عنها.
كما أن أغلب التكنوقراط الذين يوافقون على التصدي للمسئولية خلال الأوقات الصعبة يتشددون في مطالبهم بضرورة العمل بعيدًا عن رقابة نفس القوى التي خرج عليها الشارع، وكانت أحد أسباب تعقيد الحياة على المواطن اللبناني، فيكون الحل هنا حرمان الكتل النيابية من مناقشة مشروعات الموازنة وتقييم القرارات المصيرية.
تُفرغ الصورة الذهنية المهيمنة على الخيال السياسي للتكنوقراط القوى والكتل المختلفة حال مشاركتهم في وحدة وطنية، من دورهم السيادي والسياسي والرقابي، بما يفقد الديمقراطية المعمول بها في البلاد مكاسبها حسب رأي الغالبية الكاسحة من الطوائف التي في يدها كل أوراق اللعبة السياسية.
الديمقراطية التوافقية في بلدان العالم الثالث
منذ عشرينيات القرن الماضي ولبنان يحاول وضع 18 جماعة عرقية ودينية تحت سقف سياسي واحد. الهدف المعلن لهذا التجمع التعايش والكفاح معًا من أجل البقاء.
بموجب ذلك تأسس النظام السياسي على هيكل طائفي في تقاسم السلطة بعد الاستقلال التام عن فرنسا عام 1943. نص الدستور آنذاك على ضمان تمثيل جميع الطوائف الثمانية عشر في البلاد بالحكومة والجيش والخدمة المدنية، وانعكاسًا لذلك يتقاسم الجميع المناصب الحكومية الرئيسية ـ الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ـ بين مسيحي ماروني، ومسلم سني، ومسلم شيعي بالترتيب.
وللوهلة الأولى يمكن النظر إلى هذا التقسيم على أنه محاولة لضمان المساواة والعدالة بين جميع اللبنانيين لكن الممارسة أثبتت أن هذا النظام معيب للغاية، إذ يتم تقسيم للسلطة بين النخب بدلًا من إيجاد هيكل مرن يهدف إلى ضمان الحكم الرشيد في إطار الدولة القومية.
توحش النظام في التطبيع مع المحسوبية وّزع الوظائف الكبرى على ضمان الولاء بدلًا من الكفاءة والمهارة، ومع توحش هذه السياسية أصبح الجميع يعاني من ديناميكيات الإقصاء.
أدى الصراع والاستقطاب إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة بداية من عام 1975 واستمرت 15 عامًا طالت فيها الفتنة كل الطوائف الدينية والعرقية في البلاد، وخلفت الحرب حوالي 120 ألف قتيل وشرد داخل البلاد ما يقرب من 80 ألف، كما نزح منها للخارج حوالي مليون لبناني.
ورغم انتهاء الحرب وحل المليشيات والتماسك اللافت للمجتمع ضد العداون الإسرائيلي عام 2006 لكن سرعان ما عادت التوترات والتحالفات الدينية والسياسية بين الطوائف المختلفة بدعم من القوى الإقليمية والدولية تفرض أجندتها على القرار السياسي اللبناني.
هذا الارتباط بين الحياة السياسية اللبنانية والديناميكيات الخارجية -رغم أنه ليس جديدًا على البلاد- انتهى إلى ضرب السيادة السياسية في مقتل، وشوّش على إقرار سياسة عامة في أشد الأوقات خطورة على مستقبل البلاد، وأوصل لبنان إلى حالة من الضعف غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
أي حل يناسب خطورة الوضع الحالي؟
الحلول سواء المطروحة أو المعطلة ما دامت تأتي تحت لافتة الديمقراطية التوافقية المزعومة لن تتناسب مع الأوضاع الداخلية للبلاد حسب رأي الدكتور محمد الشيمي أستاذ العلوم السياسية، فالديمقراطية حتى تحقق أهدافها وثمارها مرتبطة بعدد من المحددات الأخرى على شاكلة المستوى الثقافي والاجتماعي والنضج السياسي للمجتمع وهذا لايتوافق مع أغلب بلدان العالم الثالث وليس لبنان وحده.
تُعطل الديمقراطية التوافقية الحكومات المؤقتة منذ عامين ونصف العام عن العمل، بما يقصي الدولة عن التوصل لأي اتفاق مع مؤسسات النقد العالمية لإنقاذ لبنان من الانفجار. يقول الشيمي لـ”مصر 360″ كما يوضح أن المسألة معقدة للغاية وبصورة أكبر من البلدان الأخرى التي تعيش نفس المآسي.
فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها. تعاني البلاد من تضخم مفرط ونادر في الشرق الأوسط، حتى أن البنك الدولي اعتبر الأزمة اللبنانية ضمن الأكثر قسوة في التاريخ. ارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية لأكثر من 600%. تقلص الاقتصاد بما ينبئ بانهيار يضيف أزمة إنسانية لاترحم بعد أن أصبح أكثر من 50% من اللبنانيين تحت خط الفقر. ويعيش 25% منهم في فقر مدقع.
تواجه البلاد خطر انعدام الأمن الغذائي مع الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وانقطاع المياه، وتحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” من أن أكثر من 71% من اللبنانيين معرضون لخطر فوري بفقدان إمكانية الوصول إلى المياه الصالحة للشرب.
شبكة المياه العامة على وشك الانهيار وهناك توقعات بأن تغلق محطات ضخ المياه تدريجيًا. الأمر كذلك في قطاع الصحة الذي يتعرض لأعنف أزمة في تاريخه بسبب انقطاع الكهرباء والمياه ويعاني من نقص مزمن في الأدوية والمعدات بينما تكافح المستشفيات.
الصورة التعليمية قاتمة بنفس القدر فبحسب تقديرات لليونسيف وتقارير حقوقية دولية تسرب مئات الآلاف من الأطفال من التعليم منذ أكتوبر 2019، يفتقر الكثيرون للوصول إلى الأجهزة اللوحية أو الإنترنت أو حتى الكهرباء ما يجعل التعلم عن بعد مستحيلًا.
يضطر الأطفال إلى العمل حيث تتبنى عائلاتهم استراتيجيات مواجهة سلبية للتعامل مع إفقارهم المتزايد. ويكشف طالع البلاد أن هجرة العقول المتزايدة للخارج ومعدلات التسرب المتفاقمة من التعليم بحدوث تغيير هيكلي أعمق قد يكون من الصعب التعامل مع إرثه بعد أن يترك خلفه شعبًا فقيرًا ضعيف التعليم والثقافة.
يضع الشيمي روشتة إنقاذ عاجلة من هذه المآسي رغم تعقيد الوضع اللبناني. كما يوضح لـ”مصر 360″ أهمية البدء فورًا في مرحلة انتقالية وتعيين حكومة إدارة أزمة تتوافق على مصالح وطنية واحدة والبحث عن رأس للحكومة من أوساط التكنوقراط. شخصية لا تدير المشهد وفق توجهات ومصالح سياسية داخلية وخارجية.
يؤكد الشيمي أن عجلة الحياة حتى تدور في البلاد لايمكن إقامة نظام سياسي جديد بل وضع المصلحة العليا للدولة فوق أي مصالح أخرى إقليمية أو دولية، حتى لو كان لبنان أحد أخطر منصات الحرب بالوكالة وإدارة الصراع في الشرق الأوسط على حد قوله.