1967-1970

كانت التركيبة لاجتماعية بمصر مساء 4 يونيو/حزيران 1967 تمثل تكوينًا هَرَميًا ثلاثي المستويات: المستوى القاعدي وكان يضم شريحة واسعة جدًا من البروليتاريا بمفهومها الشامل، والتي لم تكن تسهم إيجابيًا في رسم السياسات ولا في اتخاذ القرارات بسبب غياب تنظيمات مستقلة تحمي وتصون من خلالها -بنفسها وبإدارة كوادرها الواعية- المصالح التي اكتسبتها بالدفع الدافق للدولة الجديدة، ونخبة متوسطة الاتساع من البيروقراطيين التنفيذيين الذين لعبوا دور رجال الصف الثاني الذين لم يشاركوا أيضًا في رسم السياسات ولا في اتخاذ القرارات لكنهم كانوا ينفذون بمنتهى الدقة ما يُملى عليهم من تلك القرارات، ثم نخبة محدودة للغاية لكنها متعددة التخصصات الفنية تقع بأعلى التكوين الهرمي، وقد أحاطت بالرئيس جمال عبد الناصر تعاونه في ترجمة أفكاره العامة إلى سياساتٍ وبرامج لا تخرج عن الإطار الذى حَدَدَهُ لها على أي نحو إلا باستثناءاتٍ قليلة جدًا.

حين تملكت الدولة وسائل الإنتاج مُحتَكِرَةً بذلك العملية الاقتصادية بشكل متواكبٍ مع احتكارها العمل السياسي، انزوت البورجوازية المصرية خارج دائرة الفِعلِ المباشر الذي يتحقق بشكلٍ مُجَرَدٍ إما من خلال تَمَلُك وسائل الإنتاج وإما من خلال التأثير في علاقاته، لكن الذى حدث على أرض الواقع هو أن جيوبًا لنخبة الإقطاع-بورجوازية المصرية عادت للظهور على استحياء وبطموحات ذات أسقف منخفضة نوعًا ما لممارسة بعض الأنشطة الخدمية التي لا تستدعى ملكية ضخمة لوسائل الإنتاج ولا تؤثر بشكل جوهري في علاقاته مع استمرار لبعض أغنياء الريف من ذوي الأصول الإقطاعية في مراكمة ثرواتهم بقدر ما سمحت به ثغرات بعض التشريعات القائمة وهو ما فتح الباب لتلاعبات وممارسات خرجت في بعض الأحيان عن السياقات العامة مُنفَلِتَةً تتعدى كل الخطوط الحمراء لتتلقى من الضربات ما رأت الدولة أنه يتناسب مع جموح ذلك الانفلات (اغتيال الشهيد صلاح حسين بقرية كمشيش في إبريل/نيسان 1966 على أيدى الإقطاع مثالًا).

لم تكن الخطة الخمسية الثانية 1965-1970 تسير على ما يرام كالخطة الأولى حيث كانت تعاني أزمة تمويلٍ بسبب حجم الإنفاق العسكري الضخم بحرب اليمن والذي مَثَل تكلفة إضافية أثقلت كاهل المجتمع فحالت دون حَشدِ كَاملِ موارده لأعمال التنمية والتصنيع اللذين أخذت الدولة على عاتقها مسئوليتهما بالكامل باعتبارها نائبًا عن المجتمع.

ما حدث هو أن هذا الأمر قد وضع الدولة في تناقض بين دورها الاقتصادي الذي تدير بموجبه وسائل الإنتاج نيابة عن المجتمع لتحقيق تراكم رأسمالي يدعم التنمية والتصنيع ويحقق أقصى أرباح ممكنة وبين دورها الاجتماعية لحفظ التوازن وتحقيق العدالة لاجتماعية فكانت الخسائر المالية للقطاع العام فادحة لأسباب ارتبطت بتكلفة العمالة وبوضع حدود للأسعار بخلاف البطالة المقنعة وظهور بعض من نماذج الفساد واستغلال المال العام ليأتي صباح 5 يونيو/حزيران 1967 والمجتمع المصري على هذا الحال.

كانت الضربة قاصمة على كل المستويات، لكن كان أقسى ما أتت به من تأثيرات هو أنها وضعت شرعية نخبة يوليو على الحافة، تلك الشرعية التي اكتسبتها محليًا وشيدت على أساسها كل علاقاتها الإقليمية والدولية.

على المستوى المالي، كانت تكلفة الهزيمة باهظة خصوصًا في مجال الإنفاق لإعادة إنشاء البِنى التحتية استعدادًا لحرب تحرير الأرض واستكمالًا لبناء السد العالي ما أدى إلى تعطل مسارات التنمية الأخرى حين انخفض الإنفاق عليها بشكل كبير.

لكن الأمر المثير للدهشة كان يتمثل في أعمال التصنيع التى ظلت تجرى وإن بوتيرة منخفضة نسبيًا عما سبق التخطيط له، إذ ازدادت قيمة الإنتاج الصناعي من الأنشطة التحويلية بنحو 33% خلال الفترة من 1967 إلى 1970 كما ازدادت قيمة الإنتاج الصناعي من الأنشطة الاستخراجية بنحو 22% خلال نفس الفترة حسبما ورد بالصفحة 123 العدد 4 من المجلد الحادي عشر من المجلة الاقتصادية للبنك المركزي المصري.

على المستوى الاجتماعية، اهتزت أضلاع التكوين الهرمي بشدةٍ بالغة، فاختلطت الأفكار واضطربت القناعات في قلب هذا التكوين وعلى هامِشِهِ مما أفضى إلى حالة من الفوضى السوسيوبوليتيكية التي تبدلت بموجبها مواقع كثيرة، فمثلًا على الرغم من تمتع البروليتاريا -بمفهومها الشامل- بقدرٍ من الوعي الطبقي لدى طليعتها إلا أن هيمنة الدولة عليها أفرزت منظومة فِكرية ونفسية هشة وضعيفة على المستوى القاعدي الواسع، ناهيك عن انتهازية وفساد العديد من البيروقراطيين التنفيذيين مما منح العديد من القوى التقليدية فرصة ضرب التجربة برمتها من خلال دعمها للتيار الديني المتشدد الذي لم يبدأ بالترويج لنفسه كبديل لنخبة يوليو لكنه انتهى بذلك بعد 45 عامًا بالضبط من كارثة 1967.

بدأ ذلك التيار بعد الهزيمة في التغلغل بتؤدة وهدوء بين أضلاع التكوين الاجتماعية الهرمي المهزوم فكريًا والمُنهَكِ نفسيًا مدعومًا من قِبَل جيوب البورجوازية المحلية والإقليمية لترويج طَرحِهِ الميتافيزيقي لأسباب الهزيمة ومن ثم الدعوة شيئًا فشيئًا لنبذ محددات التقدم العلمية ثم العودة التدريجية للجذور وحديث الهوية الذي كان الزمن قد تجاوزه.

كانت الهزيمة الثقافية -أو فَلنَقُل الحضارية- بمثابة السماد العضوي للتربة البِكر التى ألقى التيار الديني المتشدد فيها ببذوره ليتماهى فِكره الماضوي مع الموروث الشعبي التقليدي الذي ظل يقاوم التحديث على مدار عشر سنوات، ولمَ لا وقد انهار النموذج إلا قليلًا بدفعٍ من كاريزما الزعيم والقصور الذاتي للتجربة.

ثم كان 28 سبتمبر 1970.

للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.