ظلت عربات الفول في الشوارع الحصن الأخير لفقراء مصر. ففي رحابها وجدوا ما يسد جوعهم مهما كان ما تضمه جيوبهم محدودًا. قبل أن تتغير المعادلة بوصول التضخم العالمي إليها. مهددًا آخر لقمة في جوف قطاع عريض من المصريين.

تضم مصر نحو 75 ألف عربة فول بحسب تقديرات حكومية تعود لعام 2012. إذ تنتشر في كل الميادين والشوارع الرئيسية. خاصة قرب الجهات الحكومية لتستقبل مئات الآلاف من الموظفين في بداية رحلة الروتين اليومي.

طوال عقد كامل يتردد إبراهيم السيد على عربة فول بمنطقة الشرابية بوسط القاهرة ليطلب الطلب ذاته. طبق فول وقرص فلافل وحيد وسلطة من الحجم الصغير. والأخير أغلبه مياه أكثر منه خضراوات. مع رغيفي خبز.

لا يغير “إبراهيم” طلبه إلا في الأسبوع الأول من الشهر مع تلقي الراتب ليضيف إلى السابق واحدة أو اثنين من البيض.

فجأة تغيرت معادلة الرجل بعدما ارتفع سعر الطلب التقليدي ليصل إلى 15 جنيها حاليًا. في ظل ارتفاع سعر الخبز السياحي والفول. انهار روتين “إبراهيم” ليصبح “كيس فول بثلاثة جنيه” يأكله في حجرة عمله المليئة بالمكاتب يدعمه رغيفان من التموين أحضرهما في حقيبته.

“أنا موظف حكومة من 35 سنة وعندي 3 ولاد. المرتب بيمشي زي السحلفة لكن الأسعار قطر سريع. باحاول أظبط مصاريفي. لكن معلش هاعمل أيه لما ألاقي وجبة فول على عربية في الشارع بقت بـ15 جنيه؟”. يفضفض “إبراهيم” لـ”مصر 360″.

الفول طبق الغلابة
الفول طبق الغلابة

المعادلة السعرية لعربات فول الشارع

امتازت عربات فول الشوارع طوال عمرها بمعادلة سعرية أعطتها زبائن مستديمين. فأسعارها أقل بمقدار النصف عن المطاعم مع انخفاض تكاليفها. فهي نشاط غير رسمي. لا تدفع ضرائب أو مرافق “مياه وكهرباء”. ولا تعاني هدًرا للفائض لأن عملها ينتهي بانتهاء كميات الطعام لديها بصرف النظر عن الوقت أو توافر زبائن أم لا.

خلال العام الحالي رفعت العربات سعر الفول والفلافل بين 50 و75% وذلك على وقع ارتفاع التكاليف. خاصة الزيوت والخبز السياحي. بجانب القفزات المجنونة التي تشهدها أسعار الخضراوات مثل الطماطم التي سجلت 18 جنيهًا أحيانا.

تستورد مصر جميع مكونات الوجبة الأساسية للمواطن المصري من الخارج. إذ تتربع على عرش الدول الأكثر استيرادا للقمح بنحو 10 ملايين طن. يضاف إليها ما يقرب من 800 ألف طن فول. بجانب 87% من الزيوت سواء للقلي أو المضافة إلى الطعام مباشرة.

عربات الفول مطعم الفقراء المتنقل
عربات الفول مطعم الفقراء المتنقل

وحتى نهاية السبعينيات كانت مصر مكتفية ذاتيًا من الفول بإنتاج محلي 400 ألف طن سنويًا. قبل أن تتراجع المساحات المنزرعة ويرتفع حجم الاستهلاك مع النمو السكاني. ليصبح الاكتفاء الذاتي لا يغطي إلا 20٪ من الاحتياج المحلي. فيما يتم استيراد النسبة المتبقية.

كله مستورد

الاعتماد على الاستيراد جعل الفول مرتبطا بتقلبات أسعار صرف الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري. بجانب تضاعف أعباء الشحن العالمي. ليبلغ سعر المستورد بين 10 و12 ألف جنيه حسب بلد المنشأ الذي يتم الاستيراد منه وحجم الحبة. أما سعر طن الفول البلدي فيتراوح حاليًا بين 16 و18 ألف جنيه حسب حجم الحبّة.

تفضل عربات الفول والمطاعم الفول الإنجليزي أو الأسترالي صغير الحبّة أسود اللون. وهو أقرب لنوعية الأعلاف لرخص سعره وضعف قشرته الخارجية التي تقلل من الوقت اللازم لطهيه. كما تختار الفول المجروش صغير الحجم الذي يصل الطن فيه إلى 12 ألف جنيه.

وشهدت أسعار الزيوت في مايو/ أيار الماضي ارتفاعا بمتوسط نحو 23% في سعر الزجاجة بالسوق الحرة عن إبريل/ نيسان السابق. لترتفع بنحو 9 جنيهات للزجاجة التي يبلغ وزنها أقل من لتر. وتصل الزيادة إلى نحو 23 جنيهًا في الزجاجة التي يبلغ وزنها 2.2 لتر.

يدافع أحمد شيكو -صاحب عربة فول ببولاق الدكرور في الجيزة- عن رفع الأسعار. مؤكدًا أن أسعار الخامات التي يستخدمها ترتفع بصورة متكررة. سواء الحبوب أو أنابيب البوتاجاز. بجانب أجرة العامل الذي يساعده في تنظيف المعدات والتي ارتفعت هي الأخرى.

المستوقدات ورفع تكلفة إنتاج الفول

مستوقد الفول
مستوقد الفول

لسنوات طويلة اعتمد أصحاب عربات الفول على المستوقدات. وهي أحواش واسعة في حارات شعبية ضيقة تتخصص في طهي الفول لصالح أصحابها بواسطة الخشب والمخلفات العضوية التي يتم حرقها أسفل القدور المرفوعة على قوالب من الطوب الأحمر. ويقلل استخدام المخلفات من اللجوء للغاز. خاصة أن القدر الواحد يحتاج إلى 6 ساعات من النار لكي ينضج.

اندثرت جميع المستوقدات حاليًّا باستثناء واحد يقع في إحدى حارات الجمّالية بالقاهرة يزاول نشاط الطهي لصالح الغير على قطع الخشب. ويستمر القدر في التسوية من ظهيرة اليوم حتى فجر اليوم التالي “18 ساعة تقريبًا”. وتمتاز المستوقدات بطعم أفضل ودرجة تسوية واحدة.

يعود “شيكو” ليؤكد أن العربات اضطرت مع رفع السعر لتقليص الكميات التي تقدمها للزبون. خاصة الفلافل التي أصبح القرص كبير الحجم منها بـ1 جنيه ونصف الجنيه. لكنه اعتبر العربات الأرخص حاليا بعد رفع المحال سعر ساندوتش الفول إلى 4 جنيهات وساندوتش الفلافل إلى 5 جنيهات والبطاطس بين 6 و8 جنيهات.

تغيير المكونات.. وسيلة جديدة لتقليل التكلفة

لجأت بعض العربات إلى وضع مكونات أخرى في قدر الفول لتقليل التكلفة. مثل الأرز بنسبة كسر تزيد على 50%. وحبوب القمح. وأحيانا الخبز الجاف الفائض من اليوم السابق الذي لا يصلح لتناوله طازجًا. فتتم إضافته بكميات محسوبة حتى لا يظهر وسط الطعم الأصلي.

مكاسب رهيبة لعربات الفول
مكاسب رهيبة لعربات الفول

ويتهم بعض المواطنين أصحاب عربات الفول والمطاعم باستغلال الأزمة الحالية. فرغم انخفاض أسعار محصول مثل البطاطس لأدنى مستوى عند 2.5 جنيه للكيلو في الجملة يتم رفع سعر بيعها لـ7 جنيهات للساندوتش. فضلاً عن عدم تخفيض الأسعار مجددًا حينما تستقر عالميًا.

ظلت الدولة تغض الطرف كثيرا عن عربات الفول المنتشرة في الشوارع رغم جهودها لحصر الاقتصاد غير الرسمي. فهذه العربات لها أماكن ثابتة في شوارع مصر ومعروفة لجميع الجهات الحكومية. باعتبارها تؤدي دورا في تحقيق الاستقرار الاجتماعي عبر توفيرها الطعام لشريحة واسعة من المواطنين.

كانت تلك النظرة سببا في تعطيل دراسة ضريبية تم إعدادها قبل عقد بإخضاع تلك العربات ضريبيًا. رغم وضع تقديرات لمكاسبها اليومية بناء على ما تستهلكه من مواد خام. إذ تفترض التقديرات أن كيلو الفول الحصى الذي يبلغ سعره عشرة جنيهات “وقت إعداد الدراسة” يعطي بعد الإضافات 2.5 كيلو فول ناضج تنتج 16 طلب سفرة بواقع 150 جرامًا للطلب أو 40 “ساـندوتش” بواقع 60 جرامًا إلى 65 جرامًا. وذلك بقيمة بيعية تتراوح بين 60 و80 جنيهًا للكيلو الواحد.

وقدّرت الدراسة أيضًا أن كل كيلو فول مدشوش بعد الإضافات ينتج 150 قرص طعمية. أو 75 “ساندوتش” بواقع قطعتين للواحد “أو 37 طبق سفرة يضم الواحد منها 4 قطع” بقيمة بيعية تتراوح بين 110 و150 جنيهًا.