في كتابه الجديد، وهو التاسع عشر بين مؤلفاته، يحمل اسم “القيادة.. 6 دراسات في استراتيجيات العالم”، يستخدم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، البالغ من العمر 98 عامًا، مقاربة مؤرخ لفحص 6 من قادة العالم الذين ورثوا المواقف الجيوسياسية الصعبة، وفي رأيه، تغلبوا عليها وحسنوها لصالحهم.

يعتقد الحائز على جائزة نوبل للسلام، أن العالم يدخل فترة من الاضطراب، التي تحتاج إلى قادة مخضرمين. بينما لا يساعد الإنترنت في تخريج هؤلاء القادة. وقد شاركه هذا الرأي وكذا تأليف كتابه الأخير -قبل ثمانية أشهر فقط- إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google، وعالم الكمبيوتر دانييل هوتنلشر.

يرى كيسنجر أن الإنترنت يوفر إجابات جاهزة للعديد من الأسئلة. ومن هنا، يمكن أن يكون وسيلة معطلة للتفكير طويل المدى وحل المشكلات. أو ما يسميه “معرفة القراءة والكتابة العميقة”. وذلك يجعل القيادة أكثر صعوبة.

كتب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: “ليس الأمر أن التغييرات في تكنولوجيا الاتصالات جعلت القيادة الملهمة والتفكير العميق حول النظام العالمي أمرًا مستحيلًا. لكن في عصر يهيمن عليه التلفزيون والإنترنت، يجب أن يكافح القادة المفكرون ضد التيار”.

وفي مقابلة مع مجلة Time الأمريكية، نشرت أمس الأحد. تحدث السياسي المغضرم عن مآلات الحكم والأزمات العالمية الحالية.

اقرأ أيضا: “السلطة المطلقة”.. محمد بن سلمان: لا يحق لأحد التدخل في شؤون المملكة

نيكسون ملهم رغم فضيحة ووتر جيت

يلقي كسينجر باعتباره أشهر دبلوماسي غربي، حظى بكم ضخم من الإعجاب والانتقاد على حد سواء بسبب نصائحه في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، في كتابه الأخير، نظرة على أعمال عدد من القادة المؤثرين في بلادهم. ومنهم كونراد أديناور، أول مستشار لألمانيا ما بعد الحرب من 1949 حتى عام 1963، والذي ساعد الألمان على تقييم أفعالهم بعد الحرب العالمية الثانية. وكذا شارل ديجول، الذي أعاد الثقة إلى فرنسا خلال الفترة نفسها.

أيضًا لم يخلو كتاب كيسنجر من ذكر ريتشارد نيكسون، الذي فهم -كما يقول كسينجر- كيفية موازنة المقاييس الدقيقة للنظام العالمي. وبالطبع، ذكر كذلك الرئيس الراحل محمد أنور السادات، باعتباره الزعيم المصري الذي وقّع على أول معاهدة سلام مع إسرائيل. ولي كوان يو، أول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة، والذي جلب التماسك الوطني لبلاده. وكذا مارجريت تاتشر، التي نجحت في إبعاد المملكة المتحدة عن ركودها الاقتصادي في الثمانينيات.

في حديثه لـ “التايم“، يصف كيسنجر نفسه بالقائد في المجال الفكري والمفاهيمي أكثر منه في مجال القيادة السياسية الفعلية. يقول: “حاولت أن يكون لي بعض التأثير على التفكير السياسي. لكن ليس من خلال الانخراط النشط في السياسة”.

ويرفض كسينجر اتهامه بمحاولة “قلب التاريخ” لاعتباره أن نيكسون -صاحب فضيحة ووتر جيت- أحد القادة الملهمين في العالم.

يقول: إن نيكسون من هؤلاء القادة الملهمين لأنه “تولى المسئولية في وضع صعب للغاية ومتدهور. وقد حاول الخروج من هذا المأزق. وبعض سياساته في الشرق الأوسط وفي الصين -على سبيل المثال- وضعت نمطًا استمر لأكثر من جيل”. وهو بهذا المعنى، كان له تأثير تحولي. فكان ممن فهموا تأثير المجتمعات الزمني الطويل في مجال السياسة الخارجية”. لافتًا إلى أنه من يليه في هذا الأمر هو “بوش الأب”، وفق رأيه.

زيلينسكي شخصية عظيمة

يرى كسينجر البطولة في الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. يقول: “هو يؤدي عملًا بطوليًا غير عادي في قيادة بلد لا ينتخب عادة شخصًا من خلفيته كزعيم. لقد جعل أوكرانيا قضية أخلاقية في فترة تحول كبير”. لكن يبقى للرئيس الأوكراني كي ينضم إلى قائمة القادة الملهمين وفق تصنيف كسينجر أن يضفي الطابع المؤسسي على ما بدأه، وأن يعبر عن نفسه فيما هو أت مما سيبدو عليه العالم بعد الحرب، بنفس الوضوح والاقتناع اللذين قاد بهما السعي وراء الحرب. لكن رغم ذلك فإن كسينجر يعتبره شخصية عظيمة.

وينفي كسينجر بهذا الرأي ما قاله في منتدى دافوس 23 مايو/أيار الماضي، بشأن اقترح تنازل أوكرانيا عن بعض الأراضي من أجل إيجاد السلام. ويضيف: ما قلته وقصدته إن أفضل خط فاصل لوقف إطلاق النار هو الوضع السابق. أي أنه لا ينبغي لأحد أن يواصل الحرب من الأراضي التي كانت أوكرانية عندما بدأت الحرب في الأراضي التي تم التسامح معها أو قبولها كجزء من روسيا في هذا الوقت.

ويحذر كسينجر من تحويل الحرب من أجل حرية أوكرانيا إلى حرب حول مستقبل روسيا. ففي الوقت الحالي، لا تزال روسيا تحتل 15% من الأراضي الأوكرانية قبل الحرب، يجب إعادتها إلى أوكرانيا قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار حقيقي. وهي أهم من المنطقة المتنازع عليها والتي تمثل ركنًا ضئيلًا من دونباس، حوالي 4.5 %، وشبه جزيرة القرم، ولها أهمية بالنسبة لروسيا فيما وراء نزاع الأزمة الحالية. وهي منطقة يجب أن يكون لها وضع منفصل في أي مفاوضات. “أنا أؤيد بلا تحفظ حرية أوكرانيا ودورها المهم في أوروبا”؛ يقول كسينجر.

اقرأ أيضا: الشبكة الحديدية.. القمع الرقمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الصين وأمريكا و”مرونة نيكسون”

كتب كيسنجر في كتابه أن السياسة الخارجية في الولايات المتحدة تحتاج الآن إلى “مرونة نيكسون”. وهو يشير إلى أن المواجهة بين الصين والولايات المتحدة لها مكونها الخاص. إذ “أن كلا المجتمعين يعتبران نفسيهما استثنائيين. وبالتالي فريدين، ويحق لهما الفوز. والفرق هو أن الولايات المتحدة تعتقد أن تماسك العالم أمر طبيعي. ومن ثم، فإن التحدي هو سلسلة من المشاكل العملية التي يجب حلها على أساس خاص. بينما الصين تفكر في الأمر تاريخيًا وفي حقها في الريادة.

الحرب بين هاتين الدولتين ستكون لها تداعيات كارثية، لم يكن من الممكن تخيلها حتى قبل 30 عامًا. لذلك ينتهى بي المطاف دائمًا بالقول إن الولايات المتحدة والصين تتحملان مسئولية خاصة، أن تكونا على اتصال مع بعضهما البعض لتحديد أوجه الخطر. يجب عليهما جعل هذا هو المبدأ الأساسي لسياستهما الخارجية، حتى عندما تختلفان حول مجموعة واسعة من الأشياء الأخرى.

بالإشارة إلى استعداد قادة الأعمال للمشاركة الجيوسياسية، كما حدث في فرض العقوبات الطوعية على روسيا. يقول كسينجر إن هؤلاء “يتواجدون في منطقة خطرة عندما يعتقدون أن بإمكانهم تحقيق متطلبات النجاح في العمل ومتطلبات التغيير السياسي معًا”. لأن العمل يتعلق بتنفيذ رؤية للربح بشكل أو بآخر. بينما العملية السياسية تغطي نطاقًا أوسع.

يقول كسينجر إن هناك تحول في الصورة التي يمتلكها قادة الأعمال عن أنفسهم. فبينما كانوا يعتقدون في السابق أنهم يساهمون بما كانوا يفعلونه في مجال منفصل، هم الآن، يحاولون في بعض الحالات استخدام هذا المجال المنفصل للاندماج في العملية السياسية.