على الرغم من إنكار جميع الأطراف، حتى نهاية الشهر الرابع من الغزو الروسي لأوكرانيا، بأن هناك سباق تسلح، أو في أحسن الأحوال، أن هذا الطرف أو ذاك لن ينجر إلى سباق تسلح، إلا أن عملية السباق تسير على قدم وساق، سواء بين روسيا والولايات المتحدة، أو بين دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي وحلف الناتو.

وفي الحقيقة فقد بدأ سباق التسلح على استحياء مع نشوب الحرب الروسية- الجورجية في 8 أغسطس/آب عام 2008. وكان ذلك في عهد الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف، وفي عهد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين الذي كان يحكم البلاد عمليا. وأصبح هذا السباق واضحا بحلول عام 2014، وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول إلى قوامها. ومع ذلك لم يكن يصدق أحد بوجود سباق تسلح حقيقي، ومقدمات لإلغاء كافة الاتفاقيات الخاصة بنشر الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، واتفاقيات أخرى مهمة للتوازن النووي والصاروخي.

وفي 5 مايو 2016 أعلنت وزارة الدفاع البيلاروسية عن بدء المناوبة القتالية، في مقاطعة “فيتيبسك” شمال شرقي بلاروس، لأنظمة الدفاع الصاروخي “إس 300” التي قدمتها روسيا لهذه الدولة. وقد جرى بالفعل تزويد كتيبة صواريخ الدفاع الجوي التابعة لفوج الصواريخ 377 للدفاع الجوي، في “بولوتسك” بمقاطعة فيتيبسك، باثنتين من هذه المنظومات، إضافة إلى اثنتين أخريين. وذلك من أجل حماية حدود جمهورية بيلاروس وأجوائها، وفي إطار استكمال تشكيل نظام دفاع جوي مشترك، يهدف إلى ضمان الأمن المشترك للدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة عموما، ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم كلا من روسيا وبلاروس وكازاخستان وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان.

في الحقيقة، لم تكن أحداث أوكرانيا في عام 2013 هي السبب الأساسي لبدء عملية سباق التسلح بين روسيا والغرب، لأن العملية بدأت مع الحديث حول نشر الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية، ومع أحداث حرب ما وراء القوقاز في جورجيا في 8 أغسطس/آب عام 2008. وهذه الحرب تزامنت بدرجات معينة مع الثورات المتوالية في أوكرانيا منذ عام 2006، وظهور نشاطات غير عادية لحلف الناتو في منطقة آسيا الوسطى وما وراء القوقاز ودول البلطيق. وهو ما اعتبرته موسكو اقترابا للحلف من حدودها المباشرة.

وفي سبتمبر/أيلول 2014، أعلن القائد العام لسلاح الجو الروسي آنذاك الجنرال فيكتور بوندرايف أن عام 2015 سيشهد إقامة قاعدة جوية روسية على أرض مطار “بارانوفيتشي” في بيلاروس. وبالفعل حدث ذلك. إذ كانت تقوم بالمناوبة القتالية في مطار “بارانوفيتشي” في ذاك الوقت نواة قوامها 3– 4 طائرات روسية مقاتلة من طراز “سوخوي- 30 إس. إم3”. وفي عام 2015 وصل عددها إلى 24 طائرة. ما كان يعني في الواقع وجود فوج جوي كامل مع البنية التحتية الضرورية من قيادة للفوج، وتحصينات لحماية الطائرات والآليات القتالية، ومحطات رادار، ومنظومات للتزود بالوقود أرضا وجوا، ومستودعات للذخائر، وأبراج للمراقبة، ومجمع لصيانة السلاح وإصلاحه.

وقال وقتها نائب مدير معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الجنرال بافل زولوتاريوف إن نشر الفوج الجوي الروسي في بارانوفيتشي يأتي ردا على تمدد حلف الناتو باتجاه الشرق، وكذلك على الخطط الرامية لنشر عناصر منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في بولندا، وإقامة بنية تحتية للحلف الأطلسي في دول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا.

في هذا الوقت تحديدا كانت خطط الولايات المتحدة والناتو تتضمن نشر 12 مقاتلة من دول حلف الناتو في مطار “زوكناي” بالقرب من مدينة “شياولاي” في ليتوانيا، من أجل القيام بأعمال المناوبة القتالية الدورية في أجواء البلطيق. علما بأن هذه المقاتلات يمكنها حمل قنابل نووية أمريكية من طراز “بي 61” ذات السقوط الحر.

وإلى الآن ووفقا لتقارير استخباراتية، فهناك 200 قنبلة من هذا النوع موزعة على القواعد الأمريكية في 5 دول أوروبية (ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا وبريطانيا).

من الصعب تصور أن تصل الأمور إلى حد استخدام هذه القنابل، ولكن موسكو اعتبرت أن نشر فوج المقاتلات الروسية في بارانوفيتشي حلا مثاليا كوسيلة من وسائل مواجهة الدرع الصاروخية الأمريكية. ورأى رئيس أركان القوات المسلحة الروسية الأسبق ونائب وزير الدفاع (2001- 2007) الجنرال أليكسي موسكوفسكي أن إقامة قاعدة جوية روسية في بارانوفيتشي تضفي المزيد من الأهمية على “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” وتعزز منظومة الدفاع الجوي على محور العمليات الغربي. وفي الوقت نفسه قال إن القاعدة الروسية في بارانوفيتشي تحمل طابعا سياسيا أكثر منه عسكريا.

هذا الأمر لم يقتصر فقط على بلاروس، بل انسحب على كازاخستان أيضا والتي تسلمت عدة أنظمة من طراز (إس– 300) لتعزيز نظام الدفاع الجوي الإقليمي. وهذا ما أكده وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، خلال وجوده في العاصمة الكازاخية “أستانا” على هامش مؤتمر وزراء دفاع الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون يوم 7 يونيو/حزيران 2016. حيث قال أيضا إن “أولويتنا خلق إمكانات دفاعية مشتركة، موثوقة وقادرة على التصدي لأي تحديات أو تهديدات”.

أما الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي آنذاك نيقولاي بورديوجا فقد أعلن من العاصمة الأرمينية يريفان في نفس يوم 7 يونيو أن “دمج أنظمة الدفاع الجوي في المنطقة يمهد لنشر نظام دفاع جوي في منطقة منظمة المعاهدة الأمنية المشتركة بأكملها”. وشدد على أنه في الوقت الحاضر توجد منظومات دفاعية جوية مشتركة بين روسيا من جهة وبيلاروسيا وكازاخستان من جهة أخرى، وأن العمل على إنشاء نظام مماثل (روسي– أرمني)، قد بدأ منذ عدة سنوات. إضافة إلى أن هناك خطط لإقامة أنظمة دفاعية شبيهة مع قيرغيزستان وطاجيكستان.

على الجانب الآخر، كان تدشين مجمع “إيجيس” للدفاع الصاروخي في قاعدة “ديفيسيلو” برومانيا في 12 مايو 2016، حلقة جديدة في سباق التسلح ونقلة نوعية وكمية في هذا المجال. فقد دشن أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرج مجمعا تابعا للدرع الصاروخية في رومانيا. وشارك عدد كبير من المسؤولين الرومانيين والأمريكيين وممثلي حلف الناتو في مراسم التدشين التي جرت في قاعدة ديفيسيلو، للإعلان عن دخول مجمع “إيجيس” للدفاع الصاروخي حالة الاستعداد العملياتي.

وتبلغ قيمة مشروع نشر مجمع “إيجيس” للدفاع الصاروخي في قاعدة ديفيسيلو برومانيا 800 مليون دولار. ومن المقرر تزويد المجمع بصواريخ اعتراض من طراز”Standard SM-3.”. وأكدت واشنطن أن هذه الخطوة ضرورية لضمان أمنها وأمن حلفائها الأوروبيين من الدول “العدوانية” مثل إيران.

ويتولى الناتو رسميا مسؤولية إدارة عناصر الدفاع الصاروخي في أوروبا على الرغم من أنها تدخل في قوام الدرع الصاروخية العالمية التي تبنيها الولايات المتحدة. واللافت هنا أن ستولتنبرج أعلن آنذاك في بيان رسمي أن منظومة الدرع الصاروخية وعناصرها التي تنشرها واشنطن في أوروبا، لا تقدر على تشكيل أي تهديد على القوات الاستراتيجية الروسية، نافيا أن تكون المنظومة برمتها موجهة ضد موسكو، نظرا لأن منظومة الدرع الصاروخية تضم “عددا قليلا جدا” من صواريخ الاعتراض، كما تنتشر هذه الصواريخ إما على مسافات قصيرة جدا من حدود روسيا، وإما تبعد عنها جنوبا. وأن “المنظومة التي نبنيها تحمل طابعا دفاعيا. ولا تتضمن القذائف التي نستخدمها لإسقاط الصواريخ، أي مواد متفجرة، وهي لا تقدر إلا على اعتراض أهداف في السماء.. ولا يمكننا أن نستخدم هذه المنظومة لشن هجوم، ولو أردنا ذلك”. على حد قوله.

وفي الوقت نفسه قال ستولتنبرج إن دخول مجمع الدرع الصاروخية في رومانيا المناوبة القتالية يزيد بقدر كبير من قدرات الناتو الدفاعية ويوسع المساحة التي يقدر الحلف على الدفاع عنها من أي هجوم باستخدام صواريخ متوسطة أو قصيرة المدى. وبالفعل بدأت أعمال البناء في قاعدة ريدزيكوفو يوم الجمعة 13 مايو/أيار 2016. وأشاد أمين عام حلف الناتو في وقتها بقرار بولندا تقديم الموقع العسكري في منطقة “ريدزيكوفو” لنشر مجمع آخر من طراز “إيجيس” دخل في قوام الدرع الصاروخية عام 2018.

وكالعادة خرج الكرملين ليعرب عن قلقه من التهديدات التي يأتي بها توسيع الدرع الصاروخية الأمريكية بالنسبة للأمن القومي الروسي. وأكد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن موسكو تتخذ الإجراءات الدفاعية اللازمة لضمان المستوى الضروري للأمن القومي. وأوضح بأن تدشين المجمع التابع للدرع الصاروخية في رومانيا لم يكن حدثا مفاجئا بالنسبة لموسكو، مضيفا أن المؤسسات الروسية المعنية بضمان الأمن القومي والدفاع عن البلاد مطلعة على كافة الخطط من هذا القبيل. وأن الولايات المتحدة في البداية كانت تبرر قرار نشر الدرع الصاروخية بوجود خطر صاروخي مصدره إيران، لكن الوضع حول الملف الإيراني تغير جذريا بعد عقد الاتفاق النووي في يوليو 2015، ومع ذلك لم يتغير الوضع حول نشر الدرع الصاروخية في أوروبا.