إهداء:
إلى روح عبد الرحيم الحويطي، قتيل الشرق الأوسط الجديد.. “الإرهابي” الذي ارتكب جريمة الدفاع عن بيته وأرض أجداده!
(ميلاد جديد)
حكينا في المقال السابق جانبا من قصة “مارفن هيمير”، المواطن المسالم الذي انقلب إلى آلة عنف دمرت حياته نفسها، قبل أن تدمر سلسلة الأهداف التي سجلها في قائمة الانتقام. حكاية هيمير حدثت في مدينة أمريكية صيف العام 2004، وفي العام 2008 زار المخرج الروسي أندريه زفياجنتسيف الولايات المتحدة، ورغم مرور أربع سنوات على “ثورة هيمير”، إلا أن القصة كانت متداولة وحاضرة في ذاكرة الناس من مختلف الثقافات والطبقات، وفي إحدى السهرات استمع زفياجنتسيف إلى تفاصيل القصة وتابع الأساطير التي ارتبطت بها، فاستولت عليه دراما الرجل العادي الذي يحلم بحياة بسيطة وأعمال صغيرة، لكن “الدولة” تعترض طريقه وتدوس أحلامه، فيتحول إلى كائن ساخط مدفوع بقوة غامضة إلى طريق وحيد هو “العنف”.
بعد عودته إلى روسيا لم يستطع المخرج الشاب أن يتخلص من سيطرة هيمير على تفكيره، فبدأ في كتابة سيناريو لتقديم القصة بأسلوبه السينمائي. لكن الكتابة استمرت خمس سنوات؛ لأن شخصية “هيمير” الواقعية كانت عنيدة وحاضرة بقوة، بحيث يصعب تحويلها إلى شخصية سينمائية. لم يكن زفياجنتسيف يرغب في إعادة رواية قصة هيمير كما حدثت في الواقع. خاصة رد فعله العنيف، رغم شحنة الإثارة و”الآكشن” في الحادثة الأصلية. لذلك بذل مجهودًا كبيرًا لتحرير القصة من مفرداتها الواقعية، ونقلها من أمريكا إلى مكان منعزل على شاطئ بحر بارينتس.
وفي توضيحات نادرة على غير عادة زفياجنتسيف، كشف عن معلومات مهمة بشأن تطور الفكرة وبشأن المسارات المتعمقة التي ذهب إليها السيناريو. قال: كنت حريصا على تعميم قضية الفيلم للهروب من “المصير الوثائقي” أو من نوعية الأفلام الأمريكية التي تسبقها عبارة: “يعتمد على قصة واقعية”، وهذا يتطلب مني توفير مرتكزات فلسفية وإنسانية، وقصص متوازية تخص “القضية المركزية” في أي زمان وأي مكان.
(لكن ما هي القضية المركزية؟)
طرح زفياجنتسيف السؤال على نفسه بإلحاح حتى توصل إلى موضوع العلاقة بين “المواطن الفرد العادي” وبين “الدولة كوحش لا يُقهر”. وفي نقاش مع أحد أصدقائه نصحه الصديق بقراءة كتاب “ليفياثان” لتوماس هوبز. من خلال الكتاب والمناقشات مع الكثير من الأصدقاء المهتمين بالدين والسياسة والفلسفة، تعرف أيضا على قصة سيدنا أيوب في “العهد القديم”. لكنه لم يرغب في تقديم فيلم تاريخي أو ديني أو ملحمي على طريقة: كان ياما كان في “أرض عوص”(1) يعيش رجلا موسرا يدعي “أيوب”.. كان كاملا ومستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر، لكن الشيطان لم يتركه في حاله، فانهالت عليه المصائب تباعا حتى خسر كل شيء: الأرض والثروة والعائلة والصحة. وهكذا تبلورت “القضية المركزية” في رأس زفياجنتسيف:
“تملكتني رغبة شديدة أن أسرد قصة رجل يفقد كل شيء يملكه خلال مواجهة حتمية غير متكافئة مع قوة لا يقدر عليها. رسمت شخصية ميكانيكي سيارات بسيط (هذا هو التشابه الوحيد بينه وبين هيمير) يدعى نيكولاي، معروف بين أصدقائه باسم “كوليا”، يمتلك بيتا خشبيا على شاطئ البحر ويعيش مع زوجته وابنه، لكن العمدة يسعى لطرده ليهدم البيت ويبني مكانه مشروعا يخصه.
يستعين كوليا بمحام من موسكو، لكن الأمور تزداد تعقيدا، ويظهر العمدة شراسة في المواجهة، حيث يختطف المحامي ويهدده، فيهرب عائدا إلى موسكو، ثم يلقي كوليا في السجن بتهمة قتل زوجته التي انتحرت يأسا. ويتحول الابن إلى يتيم يتبناه شرطي وزوجته من أصدقاء كوليا، للاستفادة من إعانة رعاية اليتيم. ويبدو المشهد الختامي للفيلم مروعا، حيث ترتفع الأذرع الحديدية للجرافات كوحش كاسر يحطم بيت كوليا بكل ما فيه من محتويات وذكريات، في تقطيع متواز مع مشاهد الأمواج المتلاطمة التي تضرب صخور الشاطئ المنعزل، بينما تظهر في المياه الضحلة بقايا هياكل الحيتان الضخمة (ليفياثان) كأنها منحوتات أبدية مخيفة.
ليفياثان (2)
اختار أندريه زفياجنتسيف كلمة “ليفياثان” عنوانا مفردا للفيلم، وتأثر برؤية هوبز للدولة باعتبارها قوة طاغية كل ما يشغلها هو إنفاذ إرادتها وإخضاع الجميع عن طريق الصدمة المروعة ونشر الفوبيا، وتكسير أي نواة لمعارضة مشيئتها. إنها “الوحش”، كما وصفه توماس هوبز في كتابه الذي يتشابه مع الفيلم في العنوان ويختلف معه في الاتجاه. فقد كان هوبز مؤمنا أن “السلطة المطلقة للدولة” هي الضمانة لاستقرار وأمن وسعادة أي مجتمع. لذلك فإن قوة المجتمع لن تتحقق إلا بوجود سلطة حكم قوية مهابة مسيطرة، وهذه القوة لن تتحقق إلا بخوض حروب مستمرة مع أعداء البلاد، وكذلك بوضع منظومة قوانين يتم من خلالها ضبط المواطنين وإجبارهم على طاعة الدولة، وصهر إراداتهم الفردية في إرادة واحدة هي إرادة الحاكم.
فالناس يجب أن يخافوا ويطيعوا.. لا يخافون ولا يطيعون الله (كما في الأنظمة القديمة التي فشلت فيها الكنيسة في إسعاد الناس وحماية المجتمعات)، وإنما يخافون الحاكم ويطيعون الدولة ويخضعون لقوانينها وأجهزتها، ولذلك كلما ازدادت قوة وحش الدولة (الليفياثان) كلما عاش الناس في سلام، أو كما شاع المثل “الهوبزي” بين العوام: من خاف سلم!
لكن ماذا يحدث عندما يقرر مواطن مثل “هيمير” أو “كوليا” أن يخالف “عقد هوبز” ويصارع وحش الدولة في معركة انتحارية تحضر فيها الأمثولة الرمزية أكثر مما يحضر الانتصار؟
الإجابات المعروفة تقول إن الوحش يحطم حياة المواطن الخارج عن الطاعة تمامًا، ويغلق أمامه طريق الوصول لأي نجاح أو سعادة أو إحساس بالكرامة. وبالتالي، تتساوى في نظره الحياة مع الموت. عندما حدث هذا لـ”هيمير” لم يكن أمامه إلا التمرد الذي يعيد إليه بعضا من إحساسه بكرامته أو يشبع غريزة الإنسان المظلوم في الانتقام وتدمير من دمروه.
في رأيي كان “تمرد هيمير” كاشفا لفشل “الدولة” في إدارة شؤون ناسها، خاصة وأن هوبز نفسه طرح “قوة الدولة” كحل للخروج من مأساة الفرد في أزمنة ما قبل الدولة، مرددا عبارته المعروفة عن بشاعة حياة الإنسان إذا استمر في حياة الغابة، والتي قال فيها: لقد عاش الإنسان قديما حياة بائسة، منعزلة، فقيرة، عنيفة، وبالتالي قصيرة. لكن هذا يمكن أن يتغير إذا انضم لكيان اجتماعي يضمن أمنه وينظم حياته مقابل الخضوع للقوانين والطاعة التامة لسلطة الحكم.
وضع هوبز الحاكم في مكانة تشبه “القداسة”، فهو ليس طرفا في العقد، وليس خاضعا لمحاسبة الناس، بل إن رأيه هو الفيصل وكلمته هي المسموعة، ليس على الشعب وحده، بل على الوزراء والمسؤولين ومؤسسات الإدارة والدفاع
وبهذا العقد المختل استبدل هوبز شمولية الحكم الديني المطلق، بحكم شمولي مطلق آخر للملوك، وبعد عقود طويلة، تطورت أفكار هوبز الشمولية إلى نوع من ديمقراطية الناس، وتداول الحكم، وتحول الملوك إلى “رمزيات” لا تتقاطع مع إدارة شؤون الناس. لكن الطغاة في بلادٍ مثل بلادنا حافظوا على مكتسبات حكم الكنيسة ومميزات الحكم المطلق لعصر الملوك، وتمسكوا بممارستها حتى في الأنظمة الجمهورية المنتخبة؛ لأن المسألة ببساطة أن كل شيء في هذه الديكتاتوريات أو “الجمهوريات الملكية” يتم تزييفه، بصرف النظر عن الأعلام والأسماء والشعارات المرفوعة.
من لم يعرف “هوبز” من قبل، ومن لم يقرأ كتابه، سيضعه في خانة واحدة مع أسماء من نوع مصطفى الفقي وفتحي سرور ومعتز عبد الفتاح. وفي هذا ظلم لمفكر كان يعيش منذ أربعة قرون تقريبا قبل أن تتطور مفاهيم الحكم، وقبل أن تتطور المجتمعات وطبيعة العلاقات. فقد تأثر هوبز سلبا بمخاطر الفوضى، حتى سعى للربط الشرطي بين “الأمن ودعم الدولة”. لذلك بقيت نظرته لدور وقداسة الدولة هي المعضلة التي لم تتطور والتي ورثها “ببغاوات دعم الدولة”. فالدولة عند هوبز وحتى الآن لا تزال هي “ليفياثان” الذي يلتهم كل من يعترض طريقه، مع اختلاف الدوافع والمبررات.. لا فرق بين هيمير في كولورادو، وخالد سعيد في الإسكندرية، وبوعزيزي في تونس، وكوليا في روسيا.. وأعتقد أن كلا منكم أولى بتذكر ضحايا ليفياثان في بلده، لأنني أرغب الآن في العودة إلى الفيلم الذي ترشح للأوسكار ووصل للقائمة القصيرة ولم يحصل على الجائزة بسبب موضوعه المخيف للأنظمة المتوحشة.
(ما الذي تريده يا سيد سلطة؟)
الفيلم مشحون بالدلالات والمشاهد المعبرة عن هيمنة حيتان الفساد على حياة الناس، من خلال شبكة متشعبة تتحالف باتفاقات شيطانية، توظف فيها القانون والدين لخدمة أغراض الوحوش في الدولة البيروقراطية. وعلى سبيل المثال، عندما يسأل كوليا صديقه المحامي: إذا كان هذا العمدة فاسدا كما تقول مستنداتك، فلماذا إذن لم يدخل السجن؟
يجيب المحامي: لأن شخصا “من اللي فوق” يريده في موقعه.. إنهم يطلقونهم علينا كوحوش جهنمية، بينما يمسكونهم من خياشيمهم ليظلوا تحت السيطرة.
هناك مشهد التعاون الوثيق بين العمدة وبابا الكنيسة، وكذلك خطبة البابا التي جاءت كنقطة تنوير لمشهد النهاية، وقبله سؤال الزوجة للمحامي: هل تؤمن بالله؟ وإجابته التي ألقت بظلالها على الأحداث: لماذا تسألينني دائما عن الله؟.. أنا أؤمن بالحقائق. ومشهد “كوليا” عندما كان يمتلك إرادة المقاومة والأمل في النصر، حيث يخاطبه العمدة مستنكرا عناده: أنت يا كوليا.. ألا تميز السلطة عندما تراها؟
يرد عليه كوليا باحتقار: وما الذي تريده أيها “السلطة”؟
يشير العمدة إلى بيت كوليا قائلا بلهجة حادة ومقتضبة: هذا.
يرد كوليا متحديا: تعال وخذه، إذا وجدت له مكانا بداخل نعشك!.. أنتم كلكم حشرات تغرقون في القذارة.
يقول العمدة متوعدا: أنت دائما تحب أن تصعب الأمور، أليس كذلك؟
يرد كوليا بثقة: سأقف في وجهك أيها الداعر.
(هل يتغير شيء؟)
في مقابل مشهد “كوليا المقاوم” الذي يواجه العمدة بثقة ويقين، يظهر “كوليا الضائع” محطما غارقا في الفودكا والأسئلة المعذبة، وعندما يلتقي في طريقه بالأب فاسيلي قس الكنيسة الصالح، يسأله: أين إلهك الرحيم؟
يرد القس: إلهي معي، لكنني لا أعرف أين إلهك يا كوليا، فأنا لا أراك في الكنيسة، لا أراك تصوم أو تأكل القربان أو تعترف.
يسأله كوليا بأسى ويأس: إذا أشعلت الشموع وفعلت كل ذلك الذي قلته، هل ستتغير الأمور؟.. هل ستعود زوجتي من الموت وأستعيد منزلي؟
يرد القس: لا أعلم، العلم عند الله
يسأله كوليا: طالما لا تعرف، لماذا تدعوني للاعتراف؟
يتلو القس عليه آيات من العهد القديم: “أتصطاد ليفياثان بشص؟ أو تعقد لسانه بحبل، أو تثقب فكه؟ هل يمكنك أن تطلب منه الرحمة فيتحدث معك بكلمات لطيفة؟ هل يعاهدك بعقد فترتبط به إلى الأبد؟ هل تلعب معه كالعصفور؟ أو تقيده لتسلية فتياتك؟.. لا شيء على الأرض قويم أو عادل (3)
يقول كوليا معترضا: أيها الأب فاسيلي، أنا أتحدث معك كشخص عادي، فلماذا إذن كل تلك الألغاز اللعينة؟.. لماذا؟
يسأله فاسيلي: هل سمعت برجل اسمه أيوب؟ إنه مثلك، كان مشغولا بمعنى الحياة، وكان يسأل دائما: لماذا؟.. لماذا أنا من بين كل الناس؟ لقد كان قلقا بدرجة كبيرة، حتى تعب عقله، فحاولت زوجته أن تتحدث معه وتعقله، ونصحه صديقه ألا يثير غضب الله عليه، فبدأ يهيل التراب ويعفر رأسه ندما، عندها استجاب له الرب وتجلى أمامه في شكل إعصار، وشرح له كل شيء بالصور، فامتثل أيوب لقدره راضيا، وعاش 140 سنة، رأى فيها أربعة أجيال من عائلته، ثم مات شيخا قنوعا.
يسأل كوليا: هل هذه حكاية خرافية؟
يجيب القس: لا، إنها في الإنجيل.
(كلنا كوليا)
لم يستطع كوليا أن يفعل ما فعله “هيمير” (وربما لم يرغب)، كما لم يستطع أن يفعل ما فعله سيدنا أيوب (وربما لم يرغب)، ولم يستطع أن يقتنع بكلام العمدة ولا بكلام المحامي، ولا بكلام القس، وفضل على ذلك كله أن يظل “كوليا” المواطن البسيط الذي تصادمت حياته مع وحش الدولة، فلما أراد الدفاع خسر كل شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يصطاد الوحش بصنارة، ولا أن يصاحبه، ولا حتى ينتظر منه اللين والفهم والرحمة. فالدول الفاسدة لا تجيد إلا تحطيم حياة الناس، وهذه حكاية برغم خيالها ورمزيتها إلا أنها حكاية واقعية جدا، أو هي الواقع الذي نعيشه جميعا في هذه الأيام، فكلنا كوليا، وإن تغيرت الأسماء والبلدان.
وللحكايات بقية
تفسيرات:
1- أرض عوص هي المنطقة التي نشأ فيها سيدنا أيوب وتقع على الأرجح في الجزء الشمالي من مشروع نيوم الكبير جنوب الأردن شمال غربي السعودية
2- الليفياثان وحش بحري خرافي له أوصاف مختلفة، أحيانا يصفونه برأس تنين وجسد أفعى، وأحيانا في شكل حوت ضخم كما ورد في العهد القديم، ما يعنينا من الوصف أنه وحش قوي جدا وضخم جدا استعمله “هوبز” كتجسيد لقوة الدولة وسلطة الحاكم الذي يجب أن يكون قادرا على إخضاع الناس، لكن من خلال اتفاق دنيوي بعيد عن سلطة الدين وبعيد عن تدخل الكنيسة، كما جرى الحال قبل زمن هوبز، فقد كتب هوبز كتابه في مرحلة انتقالية تتسم بالفوضى والحرب الأهلية والمذهبية في إنجلترا (منتصف القرن 17)، وسعى لتكريس سلطة الحكم في يد نظام ملكي واحد مسيطر، بعيد عن ميتافيزيقا الكنيسة وتدخلاتها في إدارة شؤون البلاد والأفراد.
3- سفر أيوب، الإصحاح رقم (41)