لا دولة حديثة دون إخضاع الحاكم للمساءلة والمحاسبة والنقد والمراجعة بل والمحاكمة إذا لزم الأمر وربما الخلع والعزل إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، وبهذا المعنى فإن مصر مازال أمامها نضال طويل حتى تبلغ مشارف الدولة الحديثة، حيث السلطة محكومة بالدستور، وحيث الحاكم خاضع للقانون، وحيث المواطنون سواء فيما عليهم من واجبات ثم فيما لهم من حقوق ثم فيما يتمتعون به من حريات عامة وخاصة يكفلها الدستور ويحميها القانون وتعمقها الممارسة الواقعية.

الحاكم فيما يسمى الدولة الحديثة -في مصر-  هو المالك، والمالك لا يملك أحد الحق ولا السلطة في محاسبته، اتفاقية لندن 1840 جعلت مصر ملكية عائلية لمحمد علي باشا ثم ورثته من بعده، وظلت في ملكيتهم مائة وخمسين عاما، ثم ثورة 23 يوليو 1952 نقلت ملكية مصر من سلالة محمد علي باشا إلى جيش محمد علي باشا، ومن أنجاله وأحفاده من صلبه إلى ضباط الجيش من صلب مؤسسته التي كان عليها المدار في تأسيس دولته، كان الحاكم المالك من سلالة محمد علي باشا يلتمس الشرعية من فرمان عثماني أو من قرار بريطاني، والحاكم المالك من ضباط جيش محمد علي باشا يلتمس الشرعية من استفتاءات مفبركة على شخصه دون منافسة، أو من انتخابات لا تختلف عن الاستفتاءات المفبركة إلا في الاسم فقط.

الحاكم المالك سواء من محمد علي وسلالته أو من ضباط الجيش يملك حرية تصرف واسعة في بناء وصياغة مؤسسات الدولة بما يسمح له بأمرين: الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من السلطة المطلقة ثم البقاء على مقعد السلطة منفردا بلا شريك ولا حسيب لأطول فترة ممكنة، ولم يكن من قيد على سلطته إلا الضغوط من الخارج في أكثر الأحيان أو الضغوط من الداخل في القليل منها.

الضغوط من الخارج أفقدت محمد علي باشا إمبراطوريته، وفككت نظامه الاقتصادي الاحتكاري، وقلصت جيشه إلى الحد الأدنى، وحولته من قوة استعمارية جبارة إلى صاحب ضيعة كبيرة على ضفاف النيل في مصر والسودان، ثم هذه الضغوط الخارجية كذلك عزلت حفيده إسماعيل 1879، ثم عزلت حفيده عباس حلمي الثاني 1914، وبالبديهة، فإن هذه الضغوط ذاتها عينت الخديوي توفيق في مكان أبيه، ثم عينت السلطان حسين كامل في مكان ابن أخيه، وبهذا المعنى صارت قوى الاستعمار الأوروبي حاكمة مهيمنة فوق قوى الاستعمار المحلي. ثم هذا الاستعمار الأوروبي -القديم منه والحديث- هو الوصي على الدولة الحديثة وولي أمرها في كل أو بعض شؤونها بدرجات متفاوتة تختلف من حاكم إلى آخر.

الضغوط الداخلية مع قدر من الضغوط الخارجية عزلت حسني مبارك 11 فبراير/شباط 2011، ثم عزلت الدكتور محمد مرسي 3 يوليو/تموز 2013، الضغوط الخارجية في عزل مبارك كانت أمريكية أوروبية تركية قطرية، ثم الضغوط الخارجية في عزل مرسي كانت خليجية وبالتحديد إماراتية – سعودية.

****

نضال الشعب المصري من أجل الاستقلال عن الاستعمار الخارجي ثم من أجل التحرر من الاستبداد المحلي هو نضال سابق على ما يسمى الدولة الحديثة التي يُقال إن محمد علي باشا قد أسسها.

بدأ المصريون نضالهم من أجل الاستقلال عن العثمانيين قبل اندلاع الثورة الأمريكية 1776 من أجل الاستقلال عن البريطانيين، ففي عشر سنوات من 1763- 1773 استقلت مصر تماما عن كل ارتباط عثماني، تم طرد الوالي العثماني، وتم منع استقبال ولاة عثمانيين، وتم إيقاف الدعاء للسلطان العثماني في خطبة الجمعة، وتم سك عملة نقدية مصرية مستقلة، وبسطت مصر نفوذها على البحر الأحمر واليمن والحجاز وشرق المتوسط والشام.

كما بدأ المصريون نضالهم من أجل الحكم الدستوري والحقوق والحريات ودولة القانون غير بعيد من نضال الثورة الفرنسية ذاتها، فقط أقل من خمسة عشر عاما، تفصل بين ثورة الفرنسيين على حكم آل بوربون 1789 وثورة المصريين على مزدوج المماليك والعثمانيين معا 1803 – 1805، حيث أثبتوا -قبل الأغلبية الغالبة من شعوب العالم- حقهم غير القابل للنقاش في إخضاع الحاكم للمساءلة والمحاسبة والنقد والمراجعة ثم إذا لزم الأمر حق الشعب في محاكمة الحاكم ثم عزله وخلعه إذا اقتضت المصلحة العامة عزله وخلعه، وعلى هذا الأساس عزلوا الوالي الشرعي المعين من السلطان العثماني، ثم عينوا محمد علي باشا واليا بمحض إرادتهم ووفق شروطهم وليكون مصدر الشرعية هو الوالي الشعب المالك لبلده ولمصيره ولإرادته وليس السلطان العثماني الذي يعتبر نفسه المالك الشرعي للبلد بحق السيف والغزو والفتح ووضع اليد كأمر واقع.

هذا النضال المبكر والملازم من اللحظة الأولى لنضال أعظم ثورتين تأسس عليهما الفكر السياسي الحديث: الثورة الأمريكية ثم الثورة الفرنسية تم إجهاضه ولا يزال يتم إجهاضه عبر مستويين متعاونين متضافرين من الاستعمار الخارجي ووكيله الاستبداد المحلي، أعاقته حملة بونابرت، ثم استعمار محمد علي وسلالته، ثم أعاقه الاحتلال البريطاني مع أسرة محمد علي، ثم أعاقته أمريكا مع حكام ما بعد ثورة 23 يوليو 1952.

هذه الدولة المصرية الحديثة -في كل عهودها دون استثناء- أهدرت نضال المصريين من أجل الاستقلال الوطني الحقيقي وكل ما أنجزته -للأسف الشديد- أنها صغرت وقزمت ونزلت بوزن مصر من محل للصراع والتنافس والنفوذ بين إمبراطوريات عظمى إلى محل للصراع والتنافس والنفوذ بين دويلات خليجية لا تكاد تُرى على خريطة الحضارة والتاريخ والجغرافيا لا بالعين المحردة ولا بتلسكوب حديث عالي الجودة.

ثم هذه الدولة المسماة بالحديثة أهدرت نضال المصريين ولاتزال تهدر نضالهم في سبيل الحكم الدستوري ودولة القانون وترى أن وظيفتها الأساسية هي الوأد الفوري المباشر لأي إمكانية نضالية يترتب عليها حكم دستوري ينشأ منه دولة قانون تحمي ما للمصريين من حقوق وواجبات وحريات عامة في مقدمتها حقهم في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله وفقا لمقتضيات المصلحة العامة.

ثم هذه الدولة المسماة بالحديثة أهدرت ولا تزال تهدر حق المصريين في الحياة والسعادة والعدالة حيث يعيش ثلثهم على الأقل تحت خط الفقر.

****

النخبة المصرية لها دور في إهدار وتبديد نضال الشعب المصري المبكر والمتجدد من أجل الاستقلال والحرية والعدالة، من نخبة الخيانة التي أضاعت استقلال علي بك الكبير ومشروعه، إلى نخبة الخذلان التي باعت نفسها لمحمد علي باشا حتى تمكن من وأد كل أثر لمعنى الشعب، ثم نخبة كبار الملاك والعسكريين الذين أهدروا الثورة العرابية، ثم نخبة الأعيان والأفندية الذين أهدروا ثورة 1919م، ثم نخبة ضباط الجيش الذين جعلوا من دولة 23 يوليو – في كل أحقابها – خلاصة معتصرة ومقطرة ومكثفة ومركزة لكل ما سبق ومر على مصر من تزييف لوعي الشعب ثم إسكات لصوته ثم تعطيل لإمكاناته ثم شل لقدراته ثم تقزيم لأحلامه ثم إخضاعه لمنطق الاحتياجات الأساسية الضرورية التي تثقل كاهله وترهق أعصابه من مولده حتى وفاته.

الظروف التي نشأت فيها النخب وضعت مسافة بينها وبين الشعب، هذه الظروف جعلت النخب مدينة ثم رهينة في نشأتها لغير الشعب:

– نخبة الأزهريين والتجار في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر كانت مدينة في نشأتها ومصالحها للمماليك.

– نخبة كبار الملاك والعسكريين في الثورة العرابية كانت مدينة في نشأتها ومصالحها لمحمد علي باشا وسلالته.

– نخبة ثورة 1919 من الأعيان والأفندية كانت موزعة ومنقسمة في نشأتها ومصالحها بين الاستعمار وسلالة محمد علي والشعب.

– نخب 23 يوليو حتى لحظة كتابة هذه السطور رهينة لقبضة دولة مركزية غير مسبوقة لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ الحديث حيث الدولة قفص من حديد والنخب أسرى داخله، لا فرق بين نخبة الحكم والمعارضة ولا فرق بين نخبة طليقة ونخبة في السجون، ففي النهاية القفص يحتوي الجميع، وقد تكرر كثيرا أن يخرج فرد النخبة من الحكم إلى السجن أو يخرج من السجن إلى الحكم كما تكرر كثيرا أن يخرج من المعارضة إلى الحكم أو يخرج من الحكم إلى المعارضة وكل ذلك داخل القفص غير المسبوق حتى في عصور الظلام والاحتلال.

كل النخب – باستثناء الوفد 1918 – 1953 -إما مأمور أو موحى بها من الاستعمار الأجنبي وإما مأمور ومسموح بها من الاستبداد المحلي وهذا مما باعد بينها وبين الشعب بمساحات تختلف مقدار فجوتها بين نخبة وأخرى.

****

صحيح أن نشأة الوفد الأولى -في الفترة من 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 إلى نفي سعد زغلول 8 مارس/آذار ثم اندلاع الثورة بعد 24 ساعة في 9 مارس/آذار 1919- كانت من رحم حزب الأمة الذي تأسس 1907، وحزب الأمة في أغلبه من كبار الملاك ثم من أبناء كبار الملاك، وكبار الملاك كانت مصالحهم مع الانجليز، وأبناء كبار الملاك كانوا من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده 1849- 1905، والأستاذ الإمام كانت وجهة نظره أن التقدم ممكن في ظل التفاهم مع الاحتلال، كل ذلك صحيح، لكن اندلاع الثورة في 9 مارس/آذار 1919 أملى واقعا جديدا، وكان على قيادات الوفد من كبار الملاك أن تختار بين الشعب أو الاحتلال، اختار سعد زغلول صف الشعب، وذهب الآخرون إلى صف الاحتلال، والاحتلال يعمل من خلال الملك، والملك يعمل من خلال كبار الملاك،  فأسسوا من الأحزاب ما يناهض الوفد ويعاديه ويقوم بدور الإعاقة لمطالب الاستقلال والحكم الدستوري بالإنابة عن الملك ومن وراء الملك الاحتلال ذاته، فجاءت أحزاب الأحرار الدستوريين ثم حزب الاتحاد ثم حزب الشعب ثم الهيئة السعدية ثم الكتلة الوفدية.

الوفد 1918 – 1953 باعتباره وعاء النضال الشعبي كان يلزم تصفيته على مراحل وبكل الأدوات الممكنة، حيث لم يكن من شاغل للدولة ممثلة في الملك ومن ورائه الاحتلال إلا استخدام وتوظيف كل تلك الأحزاب لإنجاز عدة أهداف: إعاقة الحكم الدستوري بتعطيل الدستور أو كتابة دستور مضاد، إعاقة مطلب الاستقلال وانجاز التحرر الوطني.

وفي هذا السياق جاءت جماعة الإخوان المسلمين 1928 لتكون نقيض الوفد في كل شيء، بعيدة من الوفد، قريبة من الملك، قريبة من أحزاب الأقلية، قريبة من الاستعمار، استفادت من كل ذلك، وانتشرت وازدهرت وتضخمت على حساب الجميع حتى إذا كانت ليلة 23 يوليو 1952 وضعت يدها في يد ضباط الجيش ليتم تصفية الوفد بصورة نهائية وحاسمة بعد ثلاثين عاما من ولادته من أعظم ثورة شعبية حقيقية أنجزها المصريون.

مع تصفية الوفد 1953 انتهت -إلى أجل لا يعلمه إلا الله- أي إمكانية لتأسيس وعاء شعبي نضالي غير مأذون به من استعمار خارجي وغير مسموح به من استبداد داخلي.

****

لم نعرف خبرة النضال الشعبي من أجل الاستقلال الوطني والحكم الدستوري إلا مع الملكية الخاصة وبزوغ رأسمالية مصرية سواء من كبار الملاك أو من الصناعيين والتجاريين، حدث ذلك في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، ثم حدث في مطلع القرن التاسع عشر، ثم في ثورة العرابيين، ثم في ثورة 1919.

وتنسد السبل أمام النضال الشعبي كلما توسعت الدولة في النشاط الاقتصادي مثلما حدث في احتكار محمد علي باشا ثم رأسمالية الدولة الناصرية ثم فيما يسمى الجمهورية الجديدة 2014- 2022.

في احتكار محمد علي باشا كان هو المالك والزارع والصانع والتاجر حتى ألزمته اتفاقية لندن 1840 بتفكيك منظومته الاحتكارية فأذعن ولكنه التف حول القرار بأن اصطنع من أقاربه ومحاسيبه نخبة من القطاع الخاص تحت هيمنته وإشرافه بحيث ظل محتكرا لكن في شكل جديد للاحتكار، ثم استلهم عبدالناصر 1954- 1970 تراث الباشا ونسف الرأسمالية من كبار الملاك والصناعيين، وبسط هيمنة الدولة على النشاط الاقتصادي، ثم إن البنك الدولي وصندوق النقد أرغما السادات 1970 – 1981 ثم مبارك 1981- 2011 على تقليص هيمنة الدولة وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص فاستلهما تراث محمد علي باشا وأسسا رأسمالية أقارب ومحاسيب فاسدة، وتكرر الأمر مع ما يسمى الجمهورية الجديدة حيث بسطت يد الجيش على النشاط الاقتصادي ثم طُلب منها أن تعطي الأولوية للقطاع الخاص ولما كانت سحقت القطاع الخاص فلم يكن لها من خيار إلا فتح الابواب أمام المال الخليجي.

ثورة 25 يناير 2011 كانت -من بعض وجوهها- من ثمرات التطور الرأسمالي المشوه الذي جرى في العقدين السابقين عليها، كثيرون من الطبقة الوسطى باتت لديهم مقدرة على الاستقلال المادي عن الحاكم وفي الوقت ذاته باتت لديهم طموحات في الحرية والعدالة أكبر من قدرة النظام على الاستجابة، ومن هذا التناقض انفجرت الثورة.