تعد تجربة التحول في إسبانيا واحدة من أفضل وأنجح تلك التجارب، إن لم تكن أنجحها على الإطلاق، من حيث الأخذ بأسباب النجاح، والتعامل مع عوامل الفشل وتحييدها، ومن حيث شمولها واتساع نطاقها وما بها من تركيب وتعقيد، مما يجعلها من أثراها بالدروس المفيدة. فهذه التجربة لم تقتصر على التحول من نظام دكتاتورى مغلق إلى ديموقراطية حديثة مكتملة الأركان فحسب، وإنما اتسعت لتكون مشروع تحديث وتنمية شاملة يتضمن أيضا إنجاز خطوات كبرى على صعيد التقدم الاقتصادي والاجتماعي والأمني والمؤسسي والوطني، كما سيتم تبيانه لاحقا، وأنها أحدثت هذا التحول العملاق خلال سنوات قليلة رغم ما تحمله إسبانيا من تراث من الانقسام والاستقطاب السياسي والقومي الدامي والتخلف الاقتصادي والارتباك الوطني.

ويتميز التحول الذي شهدته إسبانيا بأنه لم يكن ثوريا، وإنما تم من داخل النظام الحاكم، فى إطار رؤية رأس النظام نفسه الملك خوان كارلوس، ورئيس الحكومة أدولفو سواريث، بأنه لم يعد هناك مفر من تحديث الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حماية لها، ولمواكبة تطلعات المجتمع وأجياله الجديدة، والتطورات التي يشهدها العالم آنذاك، باعتبار أن هذا أصبح البديل الوحيد الذي يضمن الحفاظ على تماسك الدولة ومؤسساتها، وحمايتها من أن يجرفها العصر بتطوراتها، أو أن تعصف بها النزعات الانفصالية ومن موجة الإرهاب التي كانت قد بدأت تهددها، وإنقاذ اقتصادها من تراكم المشاكل الهيكلية والأزمات المستجدة التي أصابتها وقتها.

لا شك أن ظروفا مواتية ساعدت إسبانيا على تحقيق ذلك، في مقدمتها السياق الإقليمي الداعم سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وكذلك الارتفاع النسبي لمستوى المعيشة والتعليم (رغم أن إسبانيا ظلت متأخرة جدا عن باقي أوروبا). لكنها، فى نفس الوقت، كان عليها تخطي تحديات كبيرة، فى مقدمتها النزعات الانفصالية، خاصة الباسكية والكتالونية، التي ارتبطت بأنشطة إرهابية متزايدة؛ وكذلك الجروح الغائرة التي خلفتها الحرب الأهلية والدكتاتورية، وما سبقها من شقاق ترجع جذوره إلى ما يقارب قرنين، ونتج عنها شروخ وانقسامات عميقة بين القوى التقدمية (الجمهورية، الديموقراطية، العلمانية) والقوى المحافظة (الملكية، الأقرب للحكم المطلق، والقريبة للكنيسة)؛ فضلا عن الدور السياسي والمصالح المالية والاقتصادية الواسعة للكنيسة، التي لم يكن لها نظير في أوروبا، ونفوذها القوي في الدولة والمجتمع.

إلا أن هذه الخصوصيات لا تنتقص من قيمة تجربة التحول الديموقراطي الإسباني وما بها من عناصر مفيدة للغاية، تصلح للاسترشاد بها في غير إسبانيا من الدول التي تتلمس طريقها إلى التحديث، وفى مقدمتها أن الدولة ذاتها -ممثلة فى الملك ورئيس الوزراء- هي التي قادت عملية التحول، وأنها أدارته بطريقة أقامت نظاما ديموقراطيا، وحافظت على تماسك الدولة وعلى مؤسساتها، وأعطت إسبانيا دفعة كبرى، جعلتها من بين الدول الأكثر تقدما في العالم.

نقطة البداية:

صحيح أن حقبة فرانسيسكو فرانكو تمكنت فى بدايتها من الحفاظ على الدولة، وتحقيق استقرار وتطوير نسبى بعد فوضى الحرب الأهلية (1936-1939)، إلا أنه رحل في نوفمبر 1975 تاركا إسبانيا في حالة ركود وتراجع عام وضعها فى مكانة متأخرة عن باقي أوروبا، وفي مواجهة مجموعة تحديات جسيمة:

  • فالملك الجديد، خوان كارلوس، تم تتويجه -بترتيب من فرانكو- بعد انقطاع الحكم الملكي لأكثر من أربعة عقود منذ إقصاء جده عام 1931، مما أدى لغياب الخلفية المعتادة فى التوارث الطبيعى للحكم، فى مجتمع لم يزل معارضو الملكية فيه أكثر من مؤيديها.
  • كما بدأ العهد فى ظل طبقة مثقفة وجيل جديدين، أكثر اختلاطا بغرب أوروبا بسبب الإعلام والسياحة وهجرة العمالة (خاصة إلى ألمانيا وفرنسا)، مما ترتب عليه تصاعد المعارضة للنظام الاستبدادي والرغبة فى اللحاق بباقى أوروبا، الأمر الذي تصاعد بإلهام ثورة القرنفل في البرتغال التي أنهت الديكتاتورية (1974)، ووضعت البلاد على طريق الديموقراطية.
  • جاء ذلك على خلفية حالة تصلب الشرايين التي أصابت نظام فرانكو كما هى طبيعة هذا النوع من الأنظمة، نتيجة تقدمه فى السن، وانطفاء جذوة الحماس والحيوية لمشروعه، وتكلس المجتمع.
  • فى نفس الوقت عانت إسبانيا من أزمة اقتصادية شديدة بتأثير صدمة أسعار البترول الأولى (التي أعقبت حرب 1973)، فضلا عن تخلف اقتصادها آنذاك (المعتمد أساسا على الزراعة والسياحة والمقاولات).
  • يضاف إلى ذلك موجة الإرهاب التي بدأت قبل بضعة سنوات على يد حركة إيتا الباسكية الانفصالية، وراح ضحيتها عدد من رجال الأمن والسياسة بينهم الأدميرال لويس كارريرو بلانكو الذي كان فرانكو قد اختاره ليخلفه فى الحكم واغتيل سنة 1973، قبل أن يقرر العودة إلى تنصيب ملك من أسرة البوربون التي كانت لا تزال تحكم إسبانيا اسميا.

إزاء ذلك اقتنع خوان كارلوس، حتى قبل تنصيبه ملكا، أنه لا توجد فرصة لعودة الأوضاع السابقة، وأن الاصطدام بمطالب التغيير يمكن أن يهدد كيان الدولة، ومن ثم اعتبر -مدعوما برئيس الحكومة أدولفو سواريث الذي اختاره من الجناح الإصلاحي في حزب فرانكو (الحركة الوطنية Movimiento Nacional)- أن لديه مهمة مزدوجة هي: أولا، قيادة تحول ديمقراطي يؤدى إلى تصفية التوترات السياسية والجيلية التي تعانى منها إسبانيا، وتفادي الانزلاق مجددا إلى حرب أهلية لم يعد ممكنا منعها بقوة الدولة وحدها، وفى نفس الوقت؛ وثانيا، المحافظة على وحدة إسبانيا في مواجهة النزعات الانفصالية التي تصاعدت بحدة، وتثبيت أركان الدولة بتحديثها مع تعزيز تماسك مؤسساتها الرئيسية، وفى مقدمتها المؤسسة الملكية التي كانت تلاقى رفضا واسعا يعود لأكثر من قرن، وغيرها من مؤسسات الدولة، وإنهاء الجفاء العميق بين قطاعات مهمة من المجتمع والمؤسسات العسكرية/الأمنية، لتستطيع مواكبة الظروف الداخلية والخارجية المستجدة.

منهج التحول: الإصلاح من أعلى والمشاركة الشاملة:

ولإنجاز هذه المهمة المعقدة، اختار الملك ورئيس حكومته منهج التفاوض المُبَاِدر لرسم مسار التحول، بديلا عن منهج رد الفعل تحت وطأة الضغوط والمطالب، وعن منهج الإصلاح من أعلى الذي تصيغه رؤية القيادة منفردة، تاركة للفاعلين السياسيين دور رد الفعل على ما يتقرر من إصلاحات فى غيبتهم. وفى هذه المفاوضات، عرض الملك ورئيس الحكومة على مكونات المجتمع ما يمكن وصفه بصفقة كبرى، يتنازل بمقتضاها الملك عن السلطات الاستبدادية المطلقة التي ورثاها عن فرانكو لصالح نظام ديمقراطي، مقابل الحصول على التزام جماعي بوحدة البلاد، واستمرار النظام الملكي، ومحاربة الإرهاب (خاصة من حركة إيتا)، وتطبيق إجراءات اقتصادية قاسية تخرج البلاد من الأزمات التي تواجهها، بما فيها تحدي غياب العدالة الاجتماعية.

ومن الهام هنا إبراز أن الملك ورئيس حكومته أدركا أن المطالبات بتحديث الدولة ومؤسساتها، بما فى ذلك الأمنية، هى بالفعل مطالب ملحة، بعدما شاخت وأصابها الكثير من الجمود والفساد، وتخطاها الزمن فى سنوات حكم فرانكو، وبالتالي لم يسمحا بتحويل مسألة الإصلاح والتحول إلى قضية خلافية، بل اختارا أن تقودها السلطة بنفسها ولا تترك الأمر لثورة شعبية، وهو ما ساعد من ناحية على طمأنة المجتمع تدريجيا إلى جدية القيادة وصدق نيتها فى الإصلاح، ومن ناحية أخرى طمأن مؤسسات الدولة أن الإصلاح لن يكون على حساب الدولة وقوتها، ولن يسعى إلى هدمها أو الانتقاص منها أو تصفية الحسابات معها. وكانت النتيجة أنه، بعد سنوات قليلة من التحول الديمقراطي، تصاعدت شعبية مؤسسات الدولة التي كانت محل انتقاد أو رفض قطاعات واسعة من المجتمع، وفى مقدمتها العائلة المالكة والجيش والشرطة، حتى أصبحت من بين أكثر المؤسسات شعبية، وفقا لاستطلاعات الرأي.

من ناحية أخرى، اعتبر الملك ورئيس الحكومة أن إنجاز التحول المأمول يتوقف على تعزيز الحياة السياسية وتقوية الأحزاب والقوى المختلفة، ليكون لدى البلاد كيانات قوية قادرة على الاضطلاع بمسئولية الدولة، سواء من موقع الحكم أو المعارضة، واجتذابها من منفى حالة المعارضة الدائمة، إلى قلب الدولة والمسئولية، وهو ما يعني تنازل رئيس الحكومة عن موقع حزبه المسيطر، ليصبح مجرد منافس فى عملية سياسية تعددية. ولتحقيق ذلك تم وضع سياسات محددة لدعم الأحزاب السياسية دون تمييز، لجعلها قناة جاذبة للعمل السياسي كبديل عن الحركات السياسية الصغيرة الأكثر مثالية وتطرفا سواء اليسارية أو اليمينية، والحركات القومية الانفصالية، وجماعات الضغط التي تعطى أولوية لقضايا محددة بصورة قد لا تأخذ في اعتبارها التوازنات التي تفرضها عملية إدارة شئون المجتمع بتعقيداتها.

لاقى هذا الأمر في البداية عقبة هامة، هى التخوفات من الحزب الشيوعي، الذي كان القوة السياسية الوحيدة المنظمة على الأرض رغم أنه كان محظورا، وما يمكن أن يترتب على منحه الشرعية من وصوله إلى الحكم، وتهديد عضوية إسبانيا فى حلف شمال الأطلنطي، وهز التوازن الدولى فى أوج الحرب الباردة؛ الأمر الذي كان محل معارضة شديدة من قيادات القوات المسلحة الإسبانية والولايات المتحدة، التي مارست ضغوطا شديدة على الملك لكي لا يعطى الحزب شرعية. إلا أنه أدرك فى النهاية أن إدماج الشيوعيين فى العملية السياسية أفضل من تركهم خارجها، وأن مواجهة أي خطر يكون بتقوية الأحزاب الأخرى، لتحقيق توازن صحي في الساحة السياسية.

واستكمالا لتهيئة المناخ، أصدرت الحكومة عفوا شاملا عن الجرائم السياسية، بما فيها “جرائم الدم”، شمل الشيوعيين، وأعضاء الحركات الانفصالية، وأيضا المنتمين لنظام فرانكو، فى خطوة كانت ضرورية لاحتواء أى مقاومة للتحول. كما تم حل الشرطة السرية، وتقنين الحق فى تكوين الأحزاب والإضراب وإطلاق حرية تكوين نقابات عمالية.

إلا أنه متى تم فتح باب تكوين الأحزاب نشأت المئات منها، كان معظمها صغيرا للغاية، كثير منها له توجهات سياسية متشابهة، بينما خلا بعضها من أى رؤية حقيقية. إزاء ذلك، وفى ضوء اقتناع الملك ورئيس الحكومة أن إدارة التحول بشكل منضبط ومستقر يتطلب أن تُجرى المفاوضات مع شركاء يملكون المكانة والقواعد الشعبية التي تمكنهم من التوصل لتفاهمات ناضجة ومتوازنة، وفى نفس الوقت لهم من المصالح ما يجعلهم حريصين على نجاح التجربة، فقد تم صياغة القواعد المنظمة للنظام الحزبي بحيث تساعد على تقوية الأحزاب، واتحادها كان من أهمها:

  • تبني نظام انتخابي يقوم على القوائم الحزبية، لتوجيه الناخبين والسياسيين نحو التركيز على البرامج والأحزاب وليس الأفراد.
  • وضع عتبة انتخابية مرتفعة نسبيا لدخول القوائم للبرلمان وتبني صيغة توزيع للأصوات تميل إلى الأحزاب الأكبر، وتدفع الأحزاب الأصغر نحو السعي إلى الاندماج في أحزاب أكبر.
  • وضع آليات قانونية لتمويل الأحزاب من الموازنة العامة ومساعدتها على توسيع مساحة تدبير التمويل الخاص.
  • إتاحة الفرصة للأحزاب الإسبانية للاستفادة من خبرة وتجربة الأحزاب الأوروبية المناظرة، لاختصار مسيرة التعلم والتجربة والخطأ التي لا تحتملها الدولة، وهو ما أسفر بوجه خاص عن روابط قوية بين الأحزاب الإسبانية ونظيرتها الألمانية، وترتب عليه تطوير سريع لأداء الأحزاب وكوادرها.
  • هذا إلى جانب اعتبار القيادة أن قادة الأحزاب محاورون أنداد لرئيس الحكومة والملك نفسه، بما أعطى هؤلاء السياسيين مكانة أكبر في عيون الرأي العام، وشجعهم على التصرف بمسئولية كشركاء في النظام السياسي، بعد أن كان أغلبهم يسعى لسنوات طويلة إلى مقاومة النظام لتغييره من خارجه، وفى نفس الوقت سحب البساط من تحت أقدام الحركات الراديكالية.

بهذا وضعت الأسس التي قامت عليها عملية التحول الإسبانية، التي شكلت تفاعلاتها تجربة متميزة وثرية، وهو ما سيتم استعراضه في الجزء الأخير من هذا المقال.