في 29 يونيو/حزيران الماضي حطت طائرة تقل رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ووفدا رفيع المستوى بمطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائر. وذلك في زيارة أحاطتها التساؤلات خاصة أنها جاءت في توقيت كثر فيه الحديث عن فتور العلاقات بين البلدين مؤخرا.
ورغم أن زيارة رئيس الوزراء المصري وتوقيتها رسالة مصرية واضحة متعلقة بحرص القاهرة على تصفية الأجواء. وكذا الرغبة في توظيف القواسم المشتركة لإقامة شراكة إقليمية، فإن تفاصيلها واختيار فعالياتها التي حددها الجانب المصري بعناية فائقة جعلت من كل تفصيلة رسالة مستقلة. خاصة بعدما أعيد خلالها تفعيل اللجنة المشتركة العليا بين البلدين بعد غياب 8 سنوات.
رسائل التوقيت والفعاليات
أولى الرسائل التي حرص رئيس الوزراء المصري على نقلها كانت على المستوى الشعبي. وذلك بزيارته مقام الشهيد واستحضاره التقدير المصري لجلال تضحيات شهداء الجزائر في حرب التحرير. وكذا تضحياتهم في حرب 1973. التى شارك فيها جنود جزائريون إلى جانب المصريين في حرب أكتوبر المجيدة.
وخلال وضع إكليل زهور بمقام الشهيد شدد “مدبولي” على الثقة بأن الشعبين اللذين سطرا أعظم البطولات في معركة الاستقلال وتحرير الأرض قادران على اجتياز معركة التنمية. لا سيما في هذه الظروف الاستثنائية الصعبة التي تتطلب تكاتف الجهود، سعيا لتحقيق التكامل.
ملفات تعكر صفو العلاقات
يناير الماضي زار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مصر. مخترقا بذلك فترة الانقطاع والتذبذب في العلاقات بين البلدين والتي استمرت ثماني سنوات. ووصفت الزيارة وقتها بأنها تأتي لإعادة صياغة العلاقات بين البلدين. ولم يمر إلا نحو شهر واحد قبل أن يخيم التوتر مجددًا بسبب رؤى البلدين بشأن عدد من الملفات.
خلاف حول الأزمة الليبية
أولى ملفات الخلاف بين مصر والجزائر تمثل في موقف كلا البلدين من الأزمة الليبية. فمنذ الانقسام الذي أعقب ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا تتبنى الجزائر موقفا مغايرا لموقف مصر. ففيما تبنّت القاهرة الانحياز والدعم لمعسكر الشرق الليبي ومكوناته رأت الجزائر مصلحتها في دعم مكونات معسكر الغرب.
الجزائر تدرك أن رؤية مصر لأمنها القومي وامتداد مصالحها في ليبيا مناقضٌ لرؤيتها أمنها القومي. والأمر هنا لا يتعلق فقط بالخلاف حول دعم كل منهما لمعسكر مختلف وإنما يتعلق أيضا بالخلاف حول دور تركيا هناك.
ورغم مرور الوقت وجريان مياه كثيرة في نهر الأزمة الليبية وحدوث تحولات بالمشهد الليبي جعلت القاهرة تفتح أبوابها لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. والتي تشكلت كمخرج رئيسي لاتفاق سياسي جرى بإشراف من الأمم المتحدة. إلا أنه سرعان ما تجدد الخلاف في أعقاب خطوة مجلس النواب الليبي بتكليف حكومة جديدة بقيادة فتحي باشاغا -وزير الداخلية السابق. وهي الحكومة التي أعلنت القاهرة الاعتراف بها منذ اللحظة الأولى رغم رفض “الدبيبة” تسليم صلاحياته إليها متمسكا بموقعه. وهنا ظهرت الجزائر كداعم رئيسي له ولحكومته. وفي إجراء وصف بـ”المستفز” للقاهرة استقبل الرئيس الجزائري “الدبيبة” في أول زيارة خارجية له بعد قرار مجلس النواب بتكليف “باشاغا”.
خلال الزيارة أكد الرئيس “تبون” “دعمه الكامل لحكومة الوحدة الوطنية ولإجراء الانتخابات التشريعية في ليبيا. والتي اعتبرها الحل الحقيقي للأزمة”.
واستمر الملف الليبي في توتير العلاقات بين مصر والجزائر. فبعدما كان مقررًا عقد قمة ثلاثية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الجزائري وأمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح. وذلك خلال زيارة الرئيسين للكويت فبراير الماضي. ألغي اللقاء دون تقديم سبب واضح. فيما ذكرت تقارير أن السبب يكمن في اللقاء الذي عقده “تبون” مع “الدبيبة” المدعوم من تركيا على أرض قطر قبل وصوله إلى الكويت. واعتبر دعما مباشرا للرجل الذي يرفض التنازل عن منصبه لفتحي باشاغا -المدعوم من القاهرة.
خرج “الدبيبة” عقب لقائه “تبون” في الدوحة مؤكدا أن “الجزائر هي الدولة السند والجارة التي يعتمد عليها الشعب الليبي لدعمه واستقراره”.
استثناء مصر من “الأربعة الكبار”
لم تمر إلا أيام معدودة حتى جاء تطور جديد ليصب الزيت على النار. بعد إعلان الجزائر ونيجيريا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا تدشين تكتل جديد للتشاور والتنسيق حول قضايا أفريقيا.
التكتل الجديد الذي يحمل اسم “مجموعة الأربعة” (G4) تم التوافق لإطلاقه على هامش أعمال القمة الأوروبية-الأفريقية السادسة. والتي استضافتها بروكسل نهاية فبراير الماضي. وهي القمة التي كان يحضرها الرئيس السيسي. إلا أن التشكيل خرج مُستثنيا مصر.
ووفقا لتقارير صحفية فإن استثناء مصر من التكتل الجديد جاء كونه “فكرة إثيوبية” قادها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. وهنا كان الغضب المصري من الجزائر التي قبلت المشاركة في هكذا تجمع بالشروط التي طرحتها إثيوبيا.
حياد مصر وملف الصحراء
أما ثالث الملفات التي زادت نار الخلاف المكتوم بين البلدين. فيتمثل في قضية الصحراء. والتي تُبدي مصر الحياد بشأنها طوال الوقت. إلا أن حالة التجاذب بين طرفي الأزمة “المملكة المغربية-الجزائر” جعلت مصر كالذي يسير على حبل مشدود على جانبيه نيران موقدة يكاد يسقط فيها كلما مال قيد أنملة.
ففيما تسعى الرباط إلى إقناع القاهرة بالاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء المتنازع عليه منذ عقود مع جبهة البوليساريو. مستغلة في ذلك حاجة القاهرة إلى تعزيز موقفها في الملف الليبي. ورغبتها في امتلاك أوراق ضغط ضد الجزائر. تحاول مصر الحفاظ على الحياد بتأكيدها ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة ودعم الجهود الرامية للتوصل إلى تسوية سياسية متفق عليها.
وتصر الرباط على أحقيتها في الصحراء. وتقترح حكما ذاتيا موسعا تحت سيادتها. فيما تطالب “البوليساريو” باستفتاء لتقرير مصير الإقليم. وهو طرح تدعمه الجزائر التي تستضيف لاجئين من الإقليم.
ورغم ذلك لا ينسى صانع القرار في الجزائر الأزمة التي سببتها تصريحات السفير المصري في المغرب مصطفى كمال عثمان بأن مصر “لا تعترف بالجمهورية الصحراوية التي تعترف بها الجزائر”. وهو ما اعتبرته الصحافة الجزائرية “قلة لياقة”. خاصة أنها جاءت مواكبة لتلك الزيارة التي كان يقوم بها “تبون” للقاهرة.
مناورة الجزائر بورقة فلسطين
فيما كانت القيادة الجزائرية برئاسة “تبون” تسعى لتوسيع مساحات نفوذها في محيطها العربي والأفريقي -بعد فترة طويلة من التراجع منذ الرئيس السابق بوتفليقة. تقاطعت مساعيها مع أحد الملفات التي تراها القاهرة ملفا مصريا خالصا بحكم التاريخ والجغرفيا. وهو ملف فلسطين.
فوفقا لمسئولين مصريين لم تتفهم القاهرة دخول الجزائر على خط الأزمة الداخلية الفلسطينية. ودعوتها الفصائل الفلسطينية للتحاور على أراضيها. معتبرة أن تلك الخطوة بمثابة ضغط عليها في هذا الملف. أملا في الحصول على تنازل مصري في ملف آخر ربما يكون ليبيا. خاصة في ظل الوساطة المصرية بين إسرائيل والفصائل في قطاع غزة من جهة. والمحاولات المضنية التي بذلتها للتوصل إلى مصالحة داخلية فلسطينية بين فتح وحماس.
تفاهم من بوابة الغاز
يدرك الجانبان حاجة كليهما إلى الآخر. رغم حالة التنافس التي فرضت عليهما في ظل الدوائر المختلفة التي تجمعهما. سواء الدائرة العربية أو الأفريقية أو الإسلامية أو رابطة دول البحر المتوسط.
وخلال زيارة “مدبولي” الأخيرة للجزائر وجد مسئولو البلدين ضالتهما في ثروات الغاز. وذلك للبحث عن نقطة التقاء. وهو ما جعل رئيس الوزراء الجزائري أيمن بن عبدالرحمن يخص خلال جلسة موسعة بين حكومتي البلدين ملف الغاز الطبيعي بحديثه. إذ قال إنه “على اعتبار أن البلدين من الدول المنتجة للغاز ولهما قدرات في تسييله وتصدير الغاز المُسال. فأحرى أن يكون بينهما تشاور وتنسيق بما يضمن تعظيم استغلالهما هذه المادة الحيوية والدفاع عن مصالحهما في ضوء التطورات العالمية. والتي جعلت من الطاقة أحد الرهانات الأساسية في العلاقات بين الدول”.
وكما كانت الأوضاع الإقليمية وأبعادها الدولية سببا في فتور العلاقات. يرى رئيس الوزراء الجزائري أن “الظروف بالغة الحساسية والدقة التي تمر بها المنطقة تدفع البلدين أكثر من أي وقت مضى إلى تكثيف التعاون والشراكة. بما ما من شأنه أن يسهم في مجابهة هذه التحديات والتغلب على الصعوبات الاقتصادية”.
ختاما يمكن القول إنه رغم التنافس المحتدم بين البلدين إقليميا فإن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما. وعلى ضوء ما يشهده الإقليم من مقاربات فإن فرص الالتقاء بين مصالح مصر والجزائر ترتفع أكثر من أي وقت مضى. خاصة في ظل الجهود الدولية لتحسين مستوى العلاقات بين مصر وتركيا. والتي تعد شريكا رئيسيا للجزائر. ويمثل انفتاح الجزائر عليها في الملف الليبي حساسية للقاهرة. كما أن الحديث عن توجه خليجي ومصري لإعادة النظر في طبيعة العلاقة مع إيران. والتي ترتبط أيضا بعلاقات قوية مع الجزائر يمثل دافعا قويا للقاهرة للبحث عن نقاط التقاء مع الجزائر.