مرت أيام عدة على زيارة وفد حكومي مصري رفيع المستوى إلى الجزائر بقيادة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وبصحبته وزراء البترول والتجارة والصناعة والتعاون الدولي والإسكان والتعليم العالي، ورئيس هيئة الاستثمار، وتضمنت تلك الزيارة انعقاد اللجنة التنفيذية العليا المشتركة بين البلدين بعد انقطاع لسنوات عديدة، فضلًا عن تفعيل المنتدى الاقتصادي المصري الجزائري. وانتهت تلك الزيارة الهامة بتوقيع 12 مذكرة تفاهم في مجالات الصناعة والاستثمار والصادرات والري والموارد المائية والمشروعات الصغيرة والتعليم العالي، بحسب بيان مجلس الوزراء.

تأتي أهمية تلك الأخبار من حجم المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تدفع البلدين لإعادة إحياء مسار التقارب وزيادة مستويات الشراكة لمعدلات أكبر، وتطوير حجم التعاون الاقتصادي. ليس الدافع الوحيد في ذلك هو حجم العلاقات التاريخية العظيمة بين البلدين التي يعرفها الجميع عن الدعم الذي قدمته مصر للجزائر في حربها للتحرير والاستقلال، وعن الدعم والمساندة الجزائرية الكبيرة لمصر في حرب أكتوبر 1973. بل إن الواقع الحالي يحدثنا كثيرا عن المصالح الأمنية والاستراتيجية المشتركة والممتدة، والتي تزداد بفعل المتغيرات السياسية والأمنية في السنوات الأخيرة سواءً في القضية الليبية التي لم تصل لحل سلمي يضمن استقرارا أمنيا للبلد الشقيق وانتظام العملية السياسية فيه بشكل دائم، وما يمثله ذلك من قلق للبلدين اللذين يشترك كل منهما مع ليبيا بحدود تقارب ألف كيلو متر، وبرغم نجاح مصر في تأمين محيطها الجغرافي عبر تدخلات سياسية واستراتيجية عديدة مكنتها من الحفاظ على مصالحها وتصفية الجيوب الإرهابية في الغرب، إلا أن عدم الاستقرار في ليبيا لا يزال يمثل تهديدًا أمنيًا مقلقًا للبلدين، وكذلك تشارك مصر وتدعم الجزائر في رغبتها بإحداث الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء التي تعج بالتهديدات المختلفة ضد الجزائر عبر تواجد الجماعات الإرهابية بشكل مكثف، والتي لا تزال تكبد الجزائر خسائر في جنودها بين الوقت والآخر، وغيرها من القضايا والمصالح المُشتركة بين البلدين.

في ذات التوقيت فإن البلدين معنيان بشدة بتطورات الحرب الروسية الأوكرانية التي تُلقي بظلالها على العالم بأسره. حيث أدت لارتفاع قياسي في مستويات التضخم وأسعار المواد الغذائية، وأسعار الطاقة، لاسيما وأن روسيا هي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، ويبلغ حجم صادراتها من الغاز أكثر من 200 مليار متر مكعب سنويًا تتصدر به قائمة منتجي ومصدري الغاز في العالم، يشكل ما يزيد عن 40% من حجم واردات الطاقة الأوروبية.

لكن القرار الأوروبي بإعادة رسم خريطة الطاقة عبر خفض الاعتماد على الغاز الروسي، والبحث عن الموارد البديلة للغاز ورفع إنتاجية الشركاء المحتملين ومنتجي الغاز، كما فعلت أمريكا والنرويج وغيرها، حتى لا تقع أوروبا في ظلام الشتاء، وتستمر في ممارسة الضغوطات والعقوبات على بوتين أملًا في إخضاعه وفرض الإرادة الأوروبية بتطويق حلف الناتو للجمهورية الروسية.

هذه الأزمة بقدر ما تسببت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومعدلات التضخم في البلدين إلا أنها تُمثل فرصة سانحة لكل منهما ورغبة مشتركة بينهما في حسن استثمار هذه الأوضاع، ولكن بمقادير متفاوتة، مع الحرص على شراكتيهما مع طرفي الصراع الروسي والغربي. حيث سارعت مصر في استغلال هذه الفرصة عبر اتفاقيات وُقعت في الشهر الماضي لتصدير الغاز المسال لأوروبا، والتعاون مع الجانب الإسرائيلي في هذا الإطار، بعقود تمتد لـ٥ سنوات، تستطيع مصر من خلالها جذب مزيد من الدعم الأوروبي في اكتشاف حقول غاز جديدة وتطوير الاستثمارات في هذا القطاع مما يوفر هذا العبء عن الموازنة المصرية، أملًا في تحول مصر مستقبلًا لمركز إقليمي هام للطاقة تستطيع القارة العجوز من الاعتماد المستدام عليه، نتيجة تطور البنية التحتية لديها بوجود محطات إسالة الغاز، واتجاه مصر لإنشاء منتدى شرق المتوسط وبناء التحالفات في هذا الاتجاه، وتستفيد مصر في المقابل من بعض الاستثمارات الإضافية في قطاع الزراعة ودعم لتأمين الاحتياجات الغذائية، في المدى القريب، وتطوير الشراكات الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي في المدى البعيد.

أما الجزائر فوضعها يعتبر مثاليا للغاية، حيث تمتاز بالقرب الشديد من أوروبا وبالاحتياطيات الكبيرة من الغاز الطبيعي، وتتجاوز صادراتها السنوية من الغاز 45 مليار متر مكعب سنويًا وتُعتبر المصدّر الأفريقي الأول للغاز الطبيعي والسابع في العالم، وتساهم بتوفير حوالي 11% من الغاز المستخدم في أوروبا. تمثل هذه الأزمة بمثابة طوق نجاة لاقتصادها، حيث تعتمد اعتمادا كبيرا على عائدات النفط والغاز، والتي تمثل 96% من إجمالي صادراتها، و40% من إيرادات الموازنة العامة، وبالتالي مع ارتفاع العوائد من صادرات الغاز بنسبة تجاوزت الـ 70% في عام 2021، فإن ذلك دفع باتجاه تعظيم الأرباح الدولارية من صادرات البترول. فقامت مؤخرًا شركة سوناطراك الحكومية الجزائرية بإعادة التفاوض على أسعار الغاز مع عملائها الأوروبيين مقابل منحهم عقودا طويلة الأجل. وبالفعل نجحت في توقيع عقود جديدة مع شركة إيني الإيطالية ترفع من مقدار صادرات الغاز الجزائري لإيطاليا بمقدار 9 مليارات متر مكعب إضافية، في خطوة قد تتبعها خطوات مماثلة مع فرنسا وإسبانيا ودول أخرى.

اقرأ أيضًا: طموح ملتهب: عودة مصر إلى القيادة الإقليمية وكيف يجب أن تستجيب أوروبا

يتزامن ذلك مع خطط مطلوبة للإصلاح داخل البلدين تتشابه فيه لحد ما ظروفهما، حيث تبرز الحاجة الماسة والشديدة للاقتصاد الجزائري في التحول من اقتصاد “ريعي” يرتبط بأسعار الطاقة، لاقتصاد متنوع قادر على الإنتاج وجذب الاستثمارات ورفع مستويات المعيشة وخفض معدلات البطالة والهجرة غير الشرعية المتزايدة، خاصة مع ارتفاع المتغيرات والمطالب السياسية في الشارع الجزائري منذ عزل الرئيس السابق بوتفليقة، والتي تفاعلت معها الحكومة الجزائرية بالتزامات جديدة نحو حجم الأجور والمعاشات وإعانات البطالة، لكن مع وجود خطة تتمثل في تحسين مستويات الشفافية، وتحديث التشريعات الجاذبة لاستثمارات القطاع الخاص، وخفض فاتورة الاستيراد السنوية، ومحاولة تشييد طرق جديدة لربط التجارة بين القارة الإفريقية وأوروبا.

وللمفارقة فإن مصر أيضًا تحتاج وتسعى لإصلاح اقتصادي هيكلي، قائم على جعل الاقتصاد أكثر صلابة على تحمل الصدمات الاقتصادية العالمية، وأقل اعتمادًا على الأموال الساخنة، عبر رفع مستويات الإنتاجية وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة، وتنمية الصادرات للخارج ووضع قيود على الاستيراد، وجذب الاستثمارات والشراكات مع القطاع الخاص عبر وثيقة “سياسة ملكية الدولة” وغيرها من الخطط الحكومية الواعدة، التي تحتاج لمجهودات وإصلاحات ضخمة.

لذا فبالرغم من زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 787 مليون دولار خلال عام 2021 بزيادة 5% عن العام السابق، إلا أن رئيسي الوزراء بالبلدين أكدا على عدم رضاهما من ضعف حجم التبادل التجاري، وعن ضرورة خلق بدائل لحركة التجارة بين البلدين التي تأثرت بالأزمة الليبية، وزيادة حجم الصادرات بين البلدين، لذا صدرت تصريحات هامة عن التحضير لمشروع  “طريق تجارة بديل” بين مصر والجزائر، في الأغلب سيكون امتدادًا للطريق التجاري البحري بين مصر وتونس ليصل للموانئ الجزائرية، بحسب تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أملًا في تطوير وتنمية حجم التجارة.

تبلغ حجم الاستثمارات المصرية في الجزائر حوالي 3.6 مليار دولار- بحسب أرقام رسمية متداولة – موزعة على مجالات التشييد والبناء والصناعة والخدمات والاتصالات والكهرباء، جعلت من مصر الشريك التجاري الثاني عربيًا للجزائر، والثالث في مجال الاستثمارات، وجعلت الجزائر قبلة لاستثمارات شركات التشييد والمقاولات المصرية الكبرى في الجزائر، في مقابل ٥١ مليار دولار لحجم الاستثمارات الجزائرية في مصر بحسب رئيس الهيئة العامة للاستثمار، التي تتنوع بين قطاعات السياحة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات.

لذا تأتي التأكيدات الرسمية على أن هذا العام سيشهد مزيد من الإعلان عن مشروعات محددة، ونقل للخبرات المصرية في تطوير وتحديث البنية التحتية في مجالات الإسكان والبترول والطاقة المتجددة والطرق، وغيرها من المجالات.

نستطيع إذًا أن نطلق على هذه الشراكات الواعدة بين البلدين أنها نتاج لدبلوماسية البنية التحتية التي أصبحت تتميز بها الدولة المصرية، وسعت لتنفيذها مع الجانب الليبي مؤخرًا في إطار محاولة جهود إعادة الإعمار في ليبيا، لكن حالة عدم الاستقرار في الداخل الليبي تؤجل هذه الانطلاقة الهامة.

هذه التحركات الخارجية للحكومة المصرية وغيرها تمثل حسن إدراك وفهم للمصالح الوطنية، وسعي حثيث للتمدد المصري في المجال الحيوي، استطاعت فرضه في الأزمة الليبية وفي ملف غاز المتوسط، وفي إدارة الخلافات مع المشاريع الإقليمية المنافسة في علاقات قائمة على الندية، والتي أصبحت تمثل نموذجًا استرشاديًا للعديد من دول المنطقة العربية الساعية لإعادة بناء دولتها القومية، نشاهدها في تونس والجزائر والعراق وغيرها، نشاهدها في مشاريع طريق الشام والتكامل الاقتصادي مع الأردن والعراق، والسعي الحالي للاستفادة من الغزو الروسي لأوكرانيًا بدلًا من الوقوف عند حدود معالجة الأزمات الناتجة عنه وإطفاء ما سببه من حرائق وخسائر داخلية.