في الاجتماع الأول لمجلس أمناء الحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في شهر رمضان الماضي ظهرت خلافات واضحة بين أعضاء مجلس الأمناء في تعريف الحوار ذاته، وهل هو حوار سياسي أم حوار مجتمعي؟ وقد تبنى كل عضو من أعضاء المجلس تعريفا مختلفا عن الآخر، فالبعض رأى أنه حوار سياسي بين السلطة وأحزاب الموالاة من جانب وبين الأحزاب المعارضة من جانب آخر، بينما رأى البعض الآخر أنه حوار مجتمعي شامل يضم كل المؤسسات والأحزاب والشخصيات العامة والنقابات وغيرهم، بل وطالب البعض بمشاركة نماذج من المواطنين للتعبير عن رؤيتهم في القضايا المطروحة على أچندة الحوار، بدا الأمر في الاجتماع الأول وكأن المجلس لم يحسم رؤيته حول تعريف الحوار الذي أصبحنا على مشارف جلساته الأولى في أعقاب إجازة عيد الأضحى.

المؤكد أن خلافا من هذا النوع يضعف من ثقة المتابعين في جدوى وأهمية الحوار المنتظر، ويحيط كل ما يصدر عن الأمانة العامة بظلال من الشكوك حول النوايا والمخرجات، فالحد الأدنى الذي يجب أن يبعث برسالة اطمئنان للمتابعين للمشهد هو حسم هذا الخلاف والتأكيد على أن مصر على أعتاب حوار سياسي جاد ينطلق من أرضية مراجعة تجربة السنوات الثمان الفائتة، والانطلاق نحو مستقبل جديد يبدأ بخطوات جادة نحو تحول ديمقراطي حقيقي.

في تقديري فإن الحوار المنتظر يجب أن يكون حوارا سياسيًا في الأساس، يناقش بجدية كل الملفات الساخنة والشائكة، وتمثل أطرافه: السلطة وأحزاب الموالاة من جانب والأحزاب المعارضة، بشكل حقيقي، من جانب آخر، وأظن أن أبسط تعريف لأحزاب المعارضة هي تلك التي لم تكن شريكة للسلطة القائمة على أي نحو، بل واختلفت مع سياسات أهل الحكم طوال الفترة الفائتة، وطالبت بتغيير جاد وحقيقي يشمل الرموز والسياسات والأفكار، وطال كوادرها الحصار والتضييق والسجن -لأسباب سياسية- في بعض الأحيان.

والحوار السياسي ليس معناه بالتأكيد التركيز على الملف السياسي فقط، بل يجب أن يشمل مناقشة جادة وموضوعية حول كل الملفات، سياسية واقتصادية واجتماعية، فضلا عن القضايا الخارجية وقضايا الأمن القومي، ولكن المؤكد أن الملف السياسي بقضاياه المتنوعة هو الأصل والمبتدأ، فالسياسة هي القاطرة التي تحرك المشهد بأكمله، وبدون تغيير سياسي جاد لا يمكن الحديث عن تقدم اقتصادي أو اجتماعي حقيقي ومؤثر.

كل تعريف للحوار المنتظر لا يصفه بأنه حوار سياسي بين أطراف مختلفة طوال المرحلة الماضية هو خصم من التأثير المأمول، وأخشى أن يتحول الحوار إلى مهرجان أو كرنڤال سياسي تغيب عنه البوصلة، وتتوه القضايا الرئيسية والحاسمة وسط أجواء وتعبيرات مثل “الحوار المجتمعي”، وغيرها من التعبيرات التي ليس لها تعريف واضح أو محدد، ولا يمكن أن ننتظر منها أكثر من “مكلمة”، يضيع من ورائها الهدف الأهم في تغييرات سياسية تساهم في بناء مستقبل مختلف.

ليس لدي شك في أن الحوار المجتمعي سيحدث تلقائيًا بكل تأكيد إذا نجح الحوار المنتظر في إحداث تغييرات في المشهد السياسي القائم، فحالة “الحراك” التي أحدثها وسيحدثها الحوار السياسي ستنسحب إلى المجتمع بأكمله، وستخلق الأثر المطلوب والذي يقع في القلب منه حالة حوار ونشاط مجتمعي سيصب في نهاية الأمر في خانة تقدم البلد، والمعنى: أن الحوار المجتمعي هو نتيجة طبيعية ومؤكدة ستحدث في حالة نجاح الحوار السياسي القائم في الخروج بنتائج إيجابية تنهي مرحلة حصار السياسة، وخنق المجال العام، وتتيح فرص جديدة للمجتمع ومؤسساته للنشاط والعمل والتفكير والتعبير.

بلا مواربة فإن تقديري للحوار القائم هو أن سلطة بأحزابها ومؤيديها تتحاور مع أحزاب سياسية معارضة ولديها رؤى وبدائل للسياسات القائمة، هذا الحوار يكون المقدمة التي تفتح الباب لتغييرات سياسية جذرية، تضمن إطلاق سراح كل سجناء الرأي وكل من لم يتورط في ممارسة العنف، وتفتح المجال العام لتنافس سياسي جاد وحقيقي، وترفع القيود المفروضة على الصحافة والإعلام والمراكز والجمعيات الأهلية، وتغيّر القوانين التي تدعم الاستبداد السياسي وبقاءه مثل قوانين مباشرة الحقوق السياسية والإجراءات الجنائية ونصوص الحبس الاحتياطي، وقوانين تنظيم الصحافة والإعلام وقوانين الانتخابات البرلمانية، وتعيد الاعتبار لقيمة السياسة وتأثيرها في المجتمع، وتحترم كل الآراء ووجهات النظر مهما اختلفت مع السلطة الحالية، وتحترم نصوص وروح الدستور، وتبني المرحلة المقبلة على قطيعة تامة مع الماضي لا سيما السنوات الثماني الفائتة.

هذا التصور في تقديري لا يمكن أن يحدث دون تعريف واضح للحوار الحالي بأنه “حوار سياسي”، تشارك فيه قوى سياسية بالأساس تتحاور بمشاركة من المتخصصين، وتقدم للمجتمع رؤى وبرامج وخطط عمل، لتصل إلى نتائج تساهم في خروج البلد من أزمته المستحكمة، وتمنح الناس الأمل في أن القادم سيكون أفضل مما مضى.

إذا أردنا للحوار القائم أن ينجح فعلينا حسم الأمر لصالح التأكيد على أنه “حوار سياسي”، وإغلاق الباب تماما في وجه كل من يرغب في تحويل مساره إلى وجهات أخرى، واحترام قضايانا الرئيسية التي يجب أن يناقشها متخصصون وقوى سياسية حقيقية، والابتعاد تماما عن ثقافة “المهرجانات”، ومنح الفرصة لكل القوى السياسية التي تملك البدائل والأفكار التي تفتح طريقا جديدا لمستقبل جديد، والعمل على أن يصبح هذا الحوار هو المقدمة لمستقبل مختلف، يقيّم ما مضى بموضوعية ويناقش ما هو مقبل بشفافية، ويرسم خريطة طريق لسياسات تضمن التحول الديمقراطي المنتظر، وتحفظ وتصون العدالة الاجتماعية، وتبني دولة والقانون والمواطنة والمساواة والحرية، وتعيد النظر في السياسات الاقتصادية لا سيما سياسات الاقتراض الخارجي وبيع أصول الدولة، وتضمن التعليم والصحة والإنتاج والتصدير والبحث العلمي كأسس لبلد جديد، وتضع تصورات جادة لكيفية التعامل مع قضايا الأمن القومي لا سيما سد النهضة الإثيوبي، وترسم خطوات جديدة عن دور مصر في المحيط العربي والأفريقي والدولي، وفي هذا فإن الجميع مطالب بتقديم خطط مدروسة وعلمية تساهم في بناء المستقبل.