ليست الأحاديث التي جرت مؤخرًا عن علاقة السينما والدراما وحتى الأغنيات بجرائم العنف المجتمعي هي الأحاديث الأولى من هذا النوع، ولن تكون الأخيرة، وهي ليست كذلك محلية الطابع، فنقاش التأثير الفني قديم ومتشعب، ومن أجله وبسببه نشأت فيما مضى إدارات الرقابة على العرض ومن قبلها الرقابة على النصوص والكتب، وبسببه أيضًا كافح الفنانون والكتاب ضد الرقابة كمؤسسة وكفكرة، وحين يزداد العنف في المجتمع تنعكس زيادته في الأعمال الفنية والتي تعيد بدورها التأثير في المجتمع، فتنشأ الاتهامات، بعضها واقعي وبعضها مبالغ فيه، بأن الـتأثير الضار لهذا الفيلم أو هذه الأغنية هو السبب في وقوع هذه الجريمة أو تلك، خصوصًا إذ كنا نرى في الشارع باستمرار الظاهرة القديمة الجديدة (والطبيعية)؛ تقليد الفنانين، من حيث الملابس أو الهيثة والألفاظ، وصولًا في بعض الأحيان إلى الحالات التي يعيد فيها الواقع تقليد الفن، كما تقلد – أحيانا – الطبيعة الإنسان.

اقرأ أيضًا.. تعليمنا.. واعترافات قاتل نيرة

لكن يحدث أحيانًا، كما رأينا مؤخرًا، أنه حين تزداد الاتهامات للأعمال الفنية بأنها وراء زيادة العنف، أن يلجأ صناع الفن دفاعًا عن أنفسهم إلى عملية عكسية، هي التنصل من تأثير الفن على المجتمع، الأمر الذي لا يخالف الحقيقة فحسب، بل يؤدي إلى ما هو أخطر، وهو تصوير الفن، كشيء لا لزوم له، يتساوى فيه الحضور بالعدم. ومن ثم، يمكن حتى الاستغناء عنه.

لقطة من فيلم عبده موتة

وبالطبع ليست هذه المساحة كافية لنقاش قضية هائلة كمسألة التأثير الفني، لكن نكتفي بالقول إن الفن، في مخاطبته للعاطفة، ثم العقل، يصنع التأثير البطيء الممتد، تأثير الموجة في الصخر، وهو في علاقته الجدلية بالمجتمع، يأخذ صورة الناس ليجري عليها عملياته البلاغية، ثم يعيد تقديمها إليهم، يستوي في ذلك الأدب العظيم، كما في ثلاثية محفوظ التي صوّرت لنا أن “سي السيد” و”أمينة” شخصيات حقيقية عاشت بيننا لا كمجرد خيال في خواطر المؤلف، والسينما التجارية التي ما إن قدّمت “عبده موته” و”اللمبي” حتى عرفنا فيهما نماذج متعددة قابلناها في العشوائيات ومواقف الأجرة، إن أحدًا لا يشاهد فيلما أو أغنية فـ”يتغير” فجأة، لكن كلما اقترب الفن من الواقع كلما اختلط الأمر على البعض، فظنوا أن الفن هو الذي يخلق الواقع لا العكس.

وبالطبع لا يقتصر التحذير من “الأثر الضار” المفترض للفن على العقليات المحافظة أو الرجعية، فقد شاهدنا كيف طال الهجوم أغنية “عشان تبقى تقولي لأ- تميم يونس” من قبل المجموعات النسوية، وشاهدنا كيف كان النقاش حول تلك الأغنية معقدا، فتصوير الأغنية للشاب الذي “يرفض الرفض” على أنه شخص صبياني أو مراهق سخيف لم يكن كافيا في رأي المهاجمين لها، لأن تأثير “التقنيات الدعائية” في رأيهم كان أقوى، وبصيغة أوضح، فإن الشبان، أو كثيرا منهم، سوف يتوحدون مع ذلك الشاب “الرزل” في الأغنية، لأنه ببساطة “بطل الأغنية” خفيف الظل، “المثابر”، حتى لو كان مضمون الأغنية يقول العكس، تماما كما يتوحد المتفرج مع عادل إمام حتى لو كان يلعب دور “مسجل خطر” أو “إرهابي”.

إلى هذا الحد، وما سبق مجرد لمحة بسيطة، يبلغ تعقيد مسألة تأثير الفن، وإذا كان هذا التعقيد أشد ثقلا من قدرة جدالات “التريند” على تحمّله، فإن البديل لا ينبغي أن يكون التنصل من التأثير الفني، لأننا تعلمنا أن ما تحاول أن تتفاداه اليوم عبر الطرق المختصرة، سيعود ليدهسك على الطريق الرئيسية.