قبل عام ونصف عندما انتشر خبر صناعة هذا الفيلم تسرّبت نميمة تناقلها الكثيرون عن حجم الميزانية “المرعب” الذي أعُلن في ذلك الوقت لفيلم عربي، المخرج مروان حامد سيمشي إلى أبعد قدر ممكن من التجريب بعدما اكتشف نفسه قبل ذلك مع المؤلف ذاته أحمد مراد، كلاهما صانعان بمثابة نجوم عكس المعتاد، سيخلقا جو فولكلوري من رواية 1919 للكاتب ذاته بعدد أكبر من النجوم لمحاولة صناعة ملحمة، لن تنجح لأسباب سنحاول الوقوف عليها مع الحديث عن فيلم “كيرة والجن” الذي طُرح في السينمات قبل أيام.
سينتظر الجميع النتيجة من خلال فيلم ترصد قصته حالة الغليان التي كانت يموج بها الشارع المصري بالتزامن مع اندلاع ثورة 1919، وهو الحدث الكبير الذي يوحد مصائر أحمد عبدالحي كيرة (كريم عبد العزيز) وعبدالقادر الجن (أحمد عز) ليشتركا في النضال ضد المحتل اﻹنجليزي مع أبطال آخرين.
قصة تاريخية مُعاد تدويرها من وجهة نظر كاتب معاصر يبدو أنها أكبر من إمكانيات ما اشتهر به من كتابات خفيفة لكنها على كل حال أبهرت صديقه المخرج وجعلته يطلب تحويلها، ستجعل الأخير أمام تحدي بصري وتسلط الضوء أكثر على إمكانيات كاتب على مستوى تاريخية التناول ومدى قدرته في صناعة حبكة مقنعة، وبطولة جماعية تحتاج مجهود من كل نجم لإثبات أهليته، هل حدث ذلك؟
اقرأ أيضًا.. عن “برمجة” السينما ومنطق الشهرة.. كيف يختار العرب الأفلام في مهرجاناتهم؟
سياق توضيحي لخطاب مكرر غير ملفت للنظر
دخلت مصر العشرينيات على أعتاب اضطرابات سياسية كبرى شهدت مطالب بالاستقلال عن الحكم الاستعماري البريطاني على نطاق واسع. وبين ثورة 1919، وبداية حركة جديدة مناهضة لأوروبا في الهندسة المعمارية وبدء حياة ليلية صاخبة ومفعمة بالنشاط في العاصمة، كان الشعور بالتمرد هو السائد خلال هذا العقد.
اندمجت الموسيقى المزدهرة والرقص ومشهد الحياة الليلية لتخلق قوة ثقافية لا مثيل لها في تاريخ البلاد. كانت العشرينيات من جوانب كثيرة حقبة احتضنت الكوزموبوليتانية (الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد بناء على الأخلاق المشتركة)، على الأقل في المناطق الحضرية من البلاد، وشق إحساس بالتمرد طريقه إلى جوانب معينة من المجتمع المصري، ولّد مشهد الحياة الليلية الصاخبة في عشرينيات القرن الماضي بفضل جهود عدد قليل من الفنانات الجريئات وضعت مجموعة من الراقصات والمطربات والفنانات الاستعراضيات تعملن في وقت متأخر من الليل، الأساس لمهن واعدة في القاهرة وكسرن حواجز ما يعنيه أن تكوني امرأة في المجتمع المصري المحافظ تقليديا.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، توافد الراقصون وفنانو الملاهي الليلية الأوروبيون لبناء حياتهم المهنية في ذلك المجال المتنامي. غادرت نساء أوروبا الشرقية تحديدا القارة التي مزقتها الحرب للغناء في صالات الرقص بالأزبكية، والتي كانت واحدة من أبرز أماكن الترفيه الليلي في المدينة. ومن أشهر الشخصيات في عالم الحياة الليلية في تلك الموجة من الفنانين المهاجرين كانت راقصة أوروبية تدعى دينا ليسكا التي افتتحت صالتها الخاصة في شارع عماد الدين وأطلقت عليه اسم بار ليسكا.
حتى الموسيقيين الأمريكيين جاءوا بحثًا عن موطن لهم في أم الدنيا: كان موسيقيو الجاز مثل بيلي بروكس وجورج دنكان من بين أولئك الذين اختاروا الاستقرار في القاهرة بعد أن اختبروا مزيجًا من النجاح والعنصرية خلال جولاتهم في أوروبا ضمن عرض فني. شكل بروكس ودنكان فرقة اسمها ديفيل جاز وكثيرا ما قدما عروضا في أماكن في شارع عماد الدين في مطلع العشرينيات مع قائمة متناوبة من الأوروبيين المقيمين في مصر وبعد ذلك مع عازف إيقاع مصري. كان بروكس ودنكان جزءا من عدد قليل من الموسيقيين الأمريكيين من أصل أفريقي الذين استوطنوا في مصر خلال العقد، مما أجج مشهد الجاز المحلي الذي أصبح محبوبا بين الشعبيين والنخبويين على حد سواء.
في الوقت نفسه، ترسخ الافتتان بالثقافة المصرية القديمة في الخارج: بعد فترة قصيرة من اكتشاف مقبرة توت عنج آمون في عام 1922، صار الهوس الغربي بالثقافة المصرية القديمة مفرطا. استلهم مصممو الأزياء في لندن والولايات المتحدة كثيرا من القطع الأثرية التي نشرت صورها في الصحافة الأجنبية وبدأت شركات صناعة الأفلام في إنتاج أفلام توت عنخ آمون.
اتسمت العشرينيات بموجة من المقاومة المناهضة للاستعمار والمشاعر القومية التي سعت إلى مواجهة الحكم البريطاني وزعزعة سطوة الإمبراطورية. أدت الحماية البريطانية على مصر – التي فرضت في عام 1882 ردا على حركة أحمد عرابي القومية التي هددت مصالح حاملي السندات الإنجليز والفرنسيين، إلى وضع البلاد تحت سيطرة لندن عسكريا واقتصاديا وخلفت استياء واسع النطاق بين المواطنين.
اشتدت التوترات مطلع القرن العشرين: ولدت عقود من الاختناق السياسي والاقتصادي، الناجم عن السيطرة البريطانية على شؤون البلاد بما في ذلك إعلان مصر كمستعمرة بريطانية في عام 1914، استياء جماعيا. وساعدت البطالة المتفاقمة وارتفاع التضخم والأحكام العرفية القاسية في غرس بذور الثورة، وأججت الحراك من أجل الاستقلال.
بحلول عام 1919، وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار: اندلعت انتفاضة شعبية في عام 1919 بعد رفض مطالب وفد من السياسيين، ضم الزعيم سعد زغلول الذي شكل فيما بعد حزب الوفد، بالاستقلال من قبل المفوض السامي البريطاني الجنرال فرانسيس ريجنالد وينجيت، والذي قرر نفيهم إلى جزيرة مالطا. استمرت الثورة على مدى عدة أشهر شن خلالها الطلاب والعمال والمهنيون إضرابا عاما على مستوى البلاد مما أصابها بالشلل التام.
وانتزعت البلاد شكلا محدودا من الاستقلال: في مواجهة الضغوط من الفاعلين المحليين في أنحاء البلاد، والذين استمروا في تنظيم الإضرابات والمقاطعات والمظاهرات، أعلن البريطانيون استقلالا محدودا لمصر في عام 1922 وأقروا دستورا جديدا في وقت لاحق من العام ذاته، من شأنه أن يحدد الانتخابات البرلمانية. بموجب هذا الترتيب السياسي الجديد، جرى تقاسم السلطة بين (حتى وإن لم يكن بالتساوي) بين النظام الملكي، والإنجليز والبرلمان المنتخب. وبحلول عام 1924، حصل حزب الوفد على أغلبية المقاعد البرلمانية وظل سعد زغلول في منصب رئيس الوزراء لفترة قصيرة قبل وفاته في عام 1927.
شهد هذا العقد أيضا صعود الملك فؤاد الأول: بمجرد أن أعلنت بريطانيا استقلال مصر جزئيا، قام فؤاد الأول الذي كان يشغل منصب سلطان مصر، بتنصيب نفسه ملكا للبلاد في عام 1922. في بداية حكمه، منح الملك فؤاد الأول لنفسه سلطات واسعة مثل تعيين أعضاء مجلس الشيوخ وتعيين الكثير من الموالين له وزراء في الحكومة بما يمكنه بسهولة من الحفاظ على مستوى معين من السيطرة. هذه المناورات، إلى جانب انحيازه إلى الأزهر، كانت نوعا من الموازنة لمواجهة شعبية سعد زغلول المتنامية، والتي اعتبرها فؤاد الأول تهديدا وجوديا للنظام الملكي.
السيطرة على السودان كانت نقطة الخلاف الرئيسية خلال تلك الفترة: بعد فترة وجيزة من حصول مصر على استقلال محدود عن بريطانيا، بدأت نوبات من الاضطرابات في الظهور في السودان وبحلول عام 1924 كانت الاحتجاجات المناهضة لأوروبا تجتاح البلاد، مدفوعة بمجموعة من ضباط عسكريين يطلقون على أنفسهم رابطة الراية البيضاء. منذ عام 1899، سيطر الاحتلال الإنجليزي المصري على السودان لكن البريطانيين كانوا هم من يتخذون القرارات في الحكومة. أثار التحرك من أجل الاستقلال في مصر صراعا على السيادة على السودان، إذ طالبت حكومة سعد زغلول الإنجليز بتسليم السلطة إلى القاهرة. بالنسبة لحكومة زغلول، كانت السيطرة على السودان مسألة تخص ضمان تدفق مياه نهر النيل إلى مصر بشكل مستمر من بين العديد من الموارد الرئيسية الأخرى، أما بالنسبة للبريطانيين فمسألة الاحتفاظ بالسيطرة على السودان كانت ضرورية لكبح جماح المد القومي والحفاظ على موطئ قدم في المنطقة.
الاغتيال الذي تسبب في تغيير كل شيء: أثبت مقتل الحاكم العام البريطاني للسودان السير لي ستاك على يد قوميين مصريين في القاهرة إلى انهيار الطموحات المصرية في السودان. طالبت الإدارة البريطانية في القاهرة والخرطوم بانسحاب الحكومة المصرية من السودان، وإنهاء تواجدها في البلاد.
من تلك المنطلقات العديدة المكررة التي نقلناها من كتابات تاريخية خرجت بذرة الفيلم وقصته، وبٌني السيناريو عليها، كيف كان نتيجة ذلك فنيًا؟
أخطاء درامية ومميزات إخراجية
من اللحظة الأولى تتشابك نظرتك إلى الفيلم مع مساحات الخوف الشديد من إعطاء أحقية لنجم على حساب الآخر، نحن لسنا متورطون في القصة بقدر ما نحن أمام حالة من عدم تجاوز نجومية أحمد عز أو كريم عبد العزيز، إذا ضرب أحدهم الآخر لا بد من ردها إذا طالت نسبة تواجد أحدهم على الشاشة سنجد الآخر بنفس القدر، القدر ذاته من القوة والرومانسية المبررة وغير المبررة، إلى جانب تجاهل الجميع أمام نجوميتهما فقط بالرغم من كل شيء.
أصبح معروف لدى مراد اختياره للقصص التي تبيع نفسها بالفعل، قصص بالتأكيد سيتبعها أكبر قدر ممكن من الجمهور، لا يشذّب الرجل قصصه، يتركها مترهله، غير محمّلة بتفاصيل غير مبررة دراميًا، قصة مثل هذه لا بد من وجود مسيحي أو يهودي، يوجدهم دون سياق مفهوم، تمامًا مثلما يظهر أحدهم أبكم دون فهم السبب، خائن دون مقدمات أو منطق، يترك النتائج تهجم عليك كمشاهد دون أساس.
موسيقى مصاحبة للأحداث بشكل ملفت للنظر الأمر الذي حولها من نقطة قوة إلى نقطة ضعف ربما كانت الغطاء الأكثر إحكامًا على مساحات التبريرات الدرامية بشكل عاطفي أكثر من عقلي.
يعوّض مروان حامد المخرج ذلك، كل تلك الملايين الإنتاجية لم تغر المخرج للاستعراض البصري على حساب خطاب درامي متوقع تواضع إمكانيات كاتبه، مساحات تأويل محببة في تصوير كل المعارك في كيرة والجن بعدسات قريبة من الأوجه، لا يبدو استسهال أو صدفة كما لا يبدو تأويله تفلسف، ربع كوب ممتليء بجانب عيوب تحدثنا عنها؛ درس إخراجي لأهل الصناعة كبصمة تحاول تبسيط الحدوتة بشكل مذهل وأنسنتها، نقطة نور تجاوزت محاولات ظاهرة لإرضاء نجومية كيرة والجن (كريم عبد العزيز وأحمد عز) على حساب الحبكة والجمهور وعضم التربة، عدسات قريبة من الأوجه؛ انفعالاتها وضعفها وتوترها دون بطولة مستمرة من بعيد.
هل يجعلنا هذا الفيلم ببطولته الجماعية نعيد تساءلنا حول غرور النجوم؟ هذا ما نتمناه، يدخل نجومنا إلى الفيلم كشخصيات من لحم ودم لا من أجل استعراضات يمكنهم استغلالها على إنستجرام، ربما يصبح نقطة أخيرة في قصص تفصيلات بعض المشاهد على مساحات إعجاب النجوم وتجاهل الجمهور.
بالرغم من اعتبار مروان حامد نقطة القوة في الفيلم لا يغفل له على الإطلاق الاختيار الخاطيء لبعض الأدوار حتى على المستوى التاريخي لم تكن هدى المفتى بجسدها النحيل تصلح لتأدية دور راقصة في العشرينيات.
“كيرة والجن” فيلم راهن على جمهور صغير نسبيًا، توقع كاتبه أن مقامرته على الإبهار فقط، دون سياق، تمامًا كمقاطع التيكتوك، لزمات غير مفهومة وتفسير أكثر من اللازم وتناول لا يحمل أي وجهة نظر للأحداث، لم ينقذه سوى مخرج يفهم حرفته بالفعل تمكن بسبب ذلك أن يصنع من الفسيخ شربات يمكن تناوله دون إزعاج نوعًا ما.