ما الذي يحدث مع آمال ماهر؟ تابعت مثل الكثيرين الأخبار المتعلقة بـ”اختفاء” و”ظهور” المطربة المصرية آمال ماهر خلال الأسابيع الماضية ووصولاً لمداخلتها الهاتفية مع الإعلامي رامي رضوان والتي قالت فيها إن سبب اختفائها في الفترة الماضية كان إصابتها بفيروس (كورونا)، وأنها بصدد التعاقد على حفل غنائي في الفترة المقبلة.

اقرأ أيضًا.. عن جدلية علاقة الفن بالمجتمع في مصر

أعلم أنني لست محققًا بوليسيًا وبالتالي ليست مهمتي التحقق من أن هذا هو السبب الحقيقي لاختفاء آمال ماهر عن الساحة، خاصة في ظل الحديث عن احتكار شخص بعينه لصوتها “قانونيًا”. ولكن كمستمع ومتابع لفن آمال ماهر، والتي تعد واحدة من نجمات الغناء ليس فقط في مصر بل في العالم العربي، أشعر بأن (كورونا) ليست السبب في اختفائها، خاصة وأن قناتها الرسمية على يوتيوب، والتي كان قد تم إعادة فتحها خلال الأسبوع الماضي، تم إغلاقها قبل ساعات من كتابة هذه السطور وفقًا لجريدة (المصري اليوم).

ليست لدي إجابة واضحة على السؤال المرتبط بما يحدث مع امال ماهر، ولكن يمكننا طرح السؤال بشكل مختلف حتى نصل إلى إجابات منطقية. لماذا حياة المطربات في العالم العربي مأساوية؟ دعونا لا ننسى أن شيرين عبد الوهاب استنجدت بالشرطة من أسابيع قليلة بعد أن وجدت طليقها (حسام حبيب) في منزلها وطلبت منهم (الشرطة) حصولهم على تعهد منه بعدم التعرض لها.

ليس هذا فقط، فأسماء مثل أسمهان، سوزان تميم، وذكرى مجرد أمثلة لمطربات ذوات مواهب وأصوات جبارة من ناحية ونهايات مأساوية وشديدة الدرامية من ناحية أخرى. والحقيقة أنني أجد صعوبة بالغة في التعامل مع ما حدث لهؤلاء المطربات (في حياتهن وليس فقط مماتهن بالمناسبة) على أنه حوادث فردية أو عادية، في الوقت الذي يمكننا طرح تساؤلات حقيقية عن الأسباب المجتمعية والسياسية والثقافية التي ساعدت ومازالت تساعد في صياغة مأساوية حياة هؤلاء الفنانات وغيرهن من نجوم الغناء في العالم العربي على وجه التحديد (سأوضح سبب التركيز على المطربات لاحقاً).

قبل طرح هذه التساؤلات دعونا نتفق على أن كل اسم من الأسماء السابق ذكرها أو التي سيتم الحديث عنها في السطور القادمة (من نجمات الغناء في العالم العربي) هو علامة فنية في حد ذاته، والحديث عن أي تشابهات واختلافات في قصصهن لا يعني التقليل من مدى أهمية المشروع الغنائي لكل منهن على حدة، وإنما هو محاولة للإجابة على تساؤلات بخصوص العنف الواقع على النساء في كواليس صناعة الفن بالعالم العربي.

هل ترحب صناعة الفن بالنساء؟

ربما يبدو السؤال بديهيًا لكن هذا لا يعني أنه ليس سؤالًا مهمًا، على الأقل في سياق حديثنا عن المطربات في العالم العربي.

وبالمناسبة هذا ليس سؤالاً جديداً بالمرة، فالكثير من المخرجات والكاتبات بل والممثلات أيضاً تحدثن في أكثر من مناسبة عن الصعوبات التي تواجه النساء العاملات بصناعة الفن وخاصة السينما سواء في العالم العربي أو خارجه. ما أحاول قوله أننا نظرياً من المفترض أننا تجاوزنا هذا السؤال ولكن عملياً صناعة الفن على الأقل في مصر، هي من أصعب الصناعات بالنسبة للنساء، سواء من حيث مواعيد وظروف العمل، أو من حيث الهيمنة الذكورية التاريخية على أدوات تلك الصناعة وعلى المحتوى الذي يتم إنتاجه، أو من حيث التحرش والعنف الجنسي، والذي هو واقع مؤسف للنساء في مصر بشكل عام وليس فقط للمشتغلات بالفن.

ولكن ما يزيد من سوء هذا الواقع بالنسبة للعاملات بصناعة الفن هو الوصم المجتمعي المستتر أحياناً والعلني في أحيان أخرى للنساء اللائي يعملن بالفن. ذلك الوصم الذي له جذور تاريخية نتعرض لها بالتفصيل في مقال آخر.

ولست أبالغ عندما أقول إنه في اللحظة التي ستبدأ فيها النساء العاملات بصناعة الفن الحديث عن العنف الهيكلي الذي يتعرضن له في كواليس تلك الصناعة، سنجد أنفسنا أمام قائمة من الانتهاكات التي لا عدد لها ولا حصر، والتي تؤثر بالطبع على تواجد النساء في صناعة الفن وخاصة على مستوى التمثيل والغناء. ناهيك عن عدم وجود كيانات تركز على بناء قدرات النساء العاملات بصناعة الفن على وجه الخصوص، لتكون النتيجة المترتبة على حصيلة تلك المعوقات مجتمعة هي قلة عدد الاختيارات المتاحة أمام الفنانات، ولذا منهن من تقرر الاعتزال ومنهن من تفني عمرها الفني تحاول النجاح بالرغم من تلك المعوقات، وهو الأمر الذي يأخذ بالطبع من موهبتها ومجهودها. وليس أدل على ذلك من اللقاء التليفزيوني الذي جمع بين الفنانة غادة عادل وطليقها المنتج مجدي الهواري عبر إحدى منصات المشاهدة الإلكترونية. في هذا اللقاء الذي يتقابل فيه الاثنان بعد سنوات من طلاقهما، تحدثت غادة عادل بصراحة وصدق عن القيود التي طالما تم فرضها عليها كممثلة من قبل طليقها انطلاقاً من “خوفه عليها”، وكيف أن تلك القيود عطلتها فنياً لسنوات وسنوات.

صوت المرأة عورة أم ثورة أم ثروة؟

بالنسبة للمطربات، الموضوع أكثر تعقيداً، لأن ظروف صناعة الغناء (على الأقل في مصر) أكثر قسوة على النساء. لماذا؟ لأنه بالإضافة للمعوقات السابق ذكرها، فإن مهنة الغناء وما يترتب عليها من تعاقدات وحفلات وظهور إعلامي تحتاج ليس فقط إلى تفرغ تام، بل إلى قدرة استثنائية على النجاة من أفخاخ العقود الاحتكارية التي من الممكن أن تنهي المشوار الفني لأي مطرب أو مطربة.

وبالرغم من أن شبح الاحتكار يهدد المطربين بشكل عام، ولكن بالنسبة للمطربات يصبح الثمن مضاعفاً. فمن ناحية هذه العقود تمثل ضمانة اجتماعية وقانونية (حتى ولو شكلية) للنساء الراغبات للعمل كمطربات من أشكال العنف والتحرشات المختلفة التي قد يتعرضن لها (خاصة بسبب الغناء في الأفراح أو المناسبات الاجتماعية) والتي هي بالمناسبة لا تختلف كثيراً عن أشكال العنف التي تواجهها النساء في مصر بشكل عام في مجالات العمل المختلفة، ولكن من ناحية أخرى، هذه العقود الاحتكارية لا تختلف كثيراً في منطقها عن عقود الزواج من حيث تقييدها لحركة المطربات.

وهذا ليس افتراض بل واقع تم رصده على مدار سنوات طويلة. فمن السطح تبدو الخلافات بين المنتجين والمطربات في مصر وكأنها خلافات مهنية بحتة، ولكن غالباً ما يكون الجوهر أكثر تعقيداً من ذلك، طالما كان هناك المنتج الرجل الذي يرى أنه أكثر دراية من المطربة (خاصة لو كانت مشروع نجمة) بما يحتاجه سوق صناعة الغناء، والذي يحاول بكل ما أوتي من قوة وشرعية مجتمعية وقانونية أن يوجه صوت تلك المطربة في الاتجاه الذي يرغب فيه، خاصة وأنه يعلم جيداً أن البدائل المتاحة أمام النساء في هذه الصناعة حقاً محدودة للغاية.

هذه ليست مبالغة، والدليل على ذلك وجود عدد لا بأس به من الملحنين الرجال على مدار تاريخ صناعة الغناء في مصر (والتي هي واحدة من أقدم وأهم صناعات الغناء في المنطقة)، المشهورين بالزواج من المطربات الجديدات وقتها من أجل ضمان احتكار أصواتهن فنياً بشكل أو بآخر (الملحن محمد ضياء على سبيل المثال تزوج كل من جنات وأمال ماهر والمطربة السورية وعد البحري في بداية مشوار كل منهن).

ليس هذا فقط، بل أنه يمكن القول أن أنغام ولطيفة وسميرة سعيد واليسا يمثلن حالة استثنائية في صناعة الغناء بالعالم العربي من حيث كونهم مؤسسات في حد ذاتهم وليسوا فقط مطربات. ما المقصود بذلك؟ أعرف أن أنغام ولطيفة على الأقل قاموا بإنتاج ألبومات أو أغاني لأنفسهم في مراحل زمنية مختلفة، ولكن الموضوع أكبر من ذلك. فكل نجمة من هؤلاء الأربع تمثل قصة نجاح من حيث قدرتها على فرض صوتها واختياراتها الفنية على سوق الغناء في المنطقة بالرغم من الفخاخ الاحتكارية والهيمنة الذكورية على ذلك السوق.

وإن كنت مازلت مصراً أن أنغام حالة تستحق التوقف عندها بشكل منفرد ومستقل، فانفصالها الفني عن والدها الموسيقار محمد علي سليمان في نهايات التسعينيات صحبته وقتها عاصفة من الانتقادات الاجتماعية لأنغام واختياراتها الشخصية، إلا أنها حرفياً نجحت في إعادة صنع نفسها فنياً دون الوقوع في فخ الرد على ذلك الهجوم أو تلك الانتقادات الإعلامية، لتصبح أنغام كيان مستقل بذاته يتجاوز عمره الفني الـ30 عامًا.

هل تتكاسل نقابة الموسيقيين المصرية في حماية المطربات؟

يظل الدكتور أشرف زكي نقيب الممثلين حالة نقابية مختلفة عند مقارنته بنقابة الموسيقيين على سبيل المثال والأشخاص الذين ترأسوا تلك النقابة على مدار تاريخها وصولاً للمطرب (هاني شاكر) الذي لا نعرف إن كانت استقالته من نقابة الموسيقيين سارية بالفعل أم لا.

من خلال سنوات عملي بالصحافة الفنية، أستطيع القول إنه في الوقت الذي يحاول فيه أشرف زكي على سبيل المثال توفير ضمانات لحماية الممثلين والممثلات في مصر، فإن نقابة الموسيقيين المصرية اشتهرت بالاصطفاف مع المنتجين على حساب المطربين والمطربات في كثير من المواقف. أذكر الأزمة التاريخية بين النجمة (شيرين عبد الوهاب) والمنتج الموسيقي (نصر محروس) في 2007، وأذكر كيف أن عفوية وصراحة شيرين وقتها سببت لها مشكلات وقتها داخل النقابة.

ففي مكالمة هاتفية مع أحد البرامج التليفزيونية الحوارية الشهيرة وقتها، تحدثت شيرين عن طلب أحد الملحنين الكبار (وقتها) والذي كان ذو منصب نقابي مهم رشوة منها، لولا تدخل (هاني شاكر) في هذه الأزمة للتهدئة من حدة تصريحات (شيرين عبد الوهاب). 15عامًا مرت على هذه الأزمة ليجلس (هاني شاكر) على مقعد نقيب الموسيقيين، بينما يظل موقف نقابة الموسيقيين في التعامل مع الأزمات التي يتعرض لها أصحاب المواهب الغنائية بشكل عام والنساء منهن بشكل خاص (مثل الغموض الذي يحيط باختفاء المطربة الكبيرة أمال ماهر) كما هو فاتراً.

الأمر الذي يجعلني أتسائل: هل تتكاسل نقابة الموسيقيين المصرية في حماية المطربات؟ أم أنها تعيد إنتاج ثقافة الجلسات العرفية (التي تهدر فيها حقوق النساء) على مستوى نقابي؟

طارق مصطفى

كاتب وباحث في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي