بوسع المراقب المهتم للتطورات السياسية في إسرائيل أن يرى بوضوح كم أن نجم يائير لابيد رئيس الوزراء الانتقالي في صعود، وذلك منذ تحول من مهنته كمراسل وكاتب عمود سياسي، ثم كمقدم لبرنامج سياسي تليفزيوني ناجح إلى العمل السياسي، من خلال تأسيسه لحزب يش عتيد، أو هناك مستقبل عام 2013.

اقرأ أيضًا.. نصر بلا حرب! النموذج الإسرائيلي

في انتخابات الكنيسيت عام 2013 احتل الحزب الجديد المرتبة الثانية في عدد مقاعد الكنيسيت، وكانت تلك مفاجأة شكلت الانطلاقة الكبرى لصعود نجم الرجل، إذ أنها غيرت موازين القوة السياسية، وأجبرت بنيامين نتنياهو زعيم الليكود على الائتلاف الحكومي مع يش عتيد، الذي تأسس ودخل الانتخابات بغرض رئيسي هو وضع حد لهيمنة نتنياهو على الحياة السياسية في البلاد، وهي هيمنة متصلة منذ عام 1996، مع فترات انقطاع محدودة، وحتى في تلك الفترات المحدودة كان شبحه يطارد الحكومات التي لا يترأسها، أكثر من ذلك كانت مناورات نتنياهو للتخلص من مزاحمة وزير المالية لابيد له في حكومة 2013 السبب الرئيسي في سقوط الحكومة، وحل الكنيسيت وإجراء انتخابات جديدة في العام التالي مباشرة.

يقدم لابيد حزبه للناخب الإسرائيلي بوصفه حزبًا وسطيًا، يسعى إلى إنقاذ إسرائيل من مستقبل خطير إن لم يكن مدمرًا لديمقراطيتها، يقودها إليه اليمين القومي المتشدد متحالفًا مع الأحزاب الدينية شديدة الرجعية والتعصب، تحت زعامة ناتنياهو، وذلك بعد أن فشل اليسار العمالي هناك بعد اغتيال إسحق رابين عام 1995، في هذه المهمة “التاريخية“ بسبب تردد آخر رئيس حكومة من حزب العمل -وهو إيهود باراك – في إنجاز التسوية المطلوبة مع الجانب الفلسطيني، وكذلك بعد أن فشل معسكر الوسط بأحزابه السابقة في كسر هيمنة اليمين القومي واليمين الديني، أولًا باختفاء آرييل شارون -الذي كان قد اقترب من الوسط وانشق على اليمين الليكودي- بإصابته المفاجئة بغيبوبة مزمنة حتى الوفاة، وثانيًا بفشل خليفته وشريكه في تأسيس حزب كاديما الوسطي المدوي في حرب 2006 أمام حزب الله اللبناني، وأخيرًا فشل بيني جانتس وحزبه أزرق أبيض في هذه المهمة “بحرق“ ناتينياهو له عندما قرر حل الكنيسيت، وإسقاط حكومتهما الائتلافية السابقة، مباشرة قبيل موعد تولي جانتس منصب رئيس الوزراء المناوب، طبقًا لاتفاقية الائتلاف.

تحالف يش عتيد وأزرق أبيض

يستحسن هنا أن نلقي مزيدًا من الضوء على تجربة صعود وسقوط إيهود باراك باعتبارها الآن “بروفة“ فاشلة لتصنيع رابين جديد يقود إسرائيل إلى حل وسط تاريخي مع الفليسطينين وبقية الجيران، ويضع حدًا نهائيًا لهيمنة اليمين القومي والديني، تلك التي بدأت عام 1976 بقيادة مناحيم بيجين، فهذه “البروفة“ وإن كانت فاشلة فإن صانعيها يأملون أنهم تعلموا دروسها، بحيث لا يتكرر الفشل مع رابين الجديد أي لابيد.

أولئك الصناع هم أحزاب الوسط واليسار في إسرائيل، والمؤسسة الأمنية العميقة، والإعلام الليبرالي، وكذلك المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث والتفكير الاستراتيجي الليبرالية، ثم غالبية اللوبي اليهودي الأمريكي، وأخيرًا الإدارة الأمريكية خصوصًا عندما تكون تلك الإدارة ديمقراطية، وقد كان اغتيال رابين في أعقاب عملية أوسلو للسلام مع الفلسطينيين صدمة هائلة لهؤلاء جميعًا، بل وللفلسطينيين وكثير من العرب، بما أن الحادث وقع في لحظة تفاؤل غير مسبوقة وغير ملحوقة -حتى الآن- بإمكان تحقق التسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وفي قلبه القضية الفلسطينية، بفضل الروح التي انبثقت من مؤتمر مدريد لسلام الشرق الأوسط عام 1991، ثم واقعية واعتدال رابين، وثقة الإسرائيليين فيه بوصفه البطل الحقيقي للنصر في حرب عام 1967، وكان المتفق عليه بين هذه الأطراف أن حادث الاغتيال هو نتيجة مباشرة لتحريض نتانياهو و فريقه وحلفائه بين يهود أمريكا ضد عملية أوسلو، وضد رابين شخصيًا، وكما نعرف فقد هزم شيمون بيريز شريك رابين في عملية أوسلو وخليفته في رئاسة الحكومة أمام ناتينياهو في الانتخابات التالية عام 1996، وبالمناسبة لابد أن نعترف أن سلسلة التفجيرات الانتحارية التي شنتها حركة حماس في تلك الآونة كانت من أهم أسباب هزيمة بيريز وفوز ناتينياهو.

نعرف أيضًا أن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت بيل كلينتون وإدارته كانا يبديان اهتمامًا فائقًا باستثمار روح مدريد، فشاركت إدارة كلينتون بقية الأطراف التي سبق ذكرها في إلحاق الهزيمة بالليكود وحلفائه بزعامة اسحق شامير (سلف ناتينياهو المباشر) لمصلحة رابين وحزب العمل، وكانت تلك هي “البروفة“ الأولى لإسقاط المعسكر القومي /الديني في انتخابات إعادة إسرائيلية، والتي أشرنا إلى أنها تكررت مع باراك عام 1998/1999، وتتكرر الآن مع لابيد.

عرفات ورابين وكلينتون

في مثال باراك انصبت الجهود على تدبير انقلاب صامت من الدولة العميقة عل ناتينياهو، فتسربت تقارير عن ضغطه على قيادة الجيش لشن حرب على سوريا بسبب مساندتها لحزب الله اللبناني، وهو ما لم توافق عليه القيادة لأسباب استراتيجية، وأهمها أن ناتينياهو لم يحصل على موافقة أمريكية مسبقة، كذلك حكمت المحكمة العليا بإلغاء قراره بإغلاق “بيت الشرق“ الذي كان يعد مقرًا غير رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس، إضافة إلى مظاهر تمرد أخرى عليه، ما أدى إلى خسارته الانتخابات لمصلحة باراك، الذي خذل المراهنين عليه في أن يصبح (رابين) الثاني، كما سبق القول.

ايهود باراك

نعود بالحديث إلى يائير لابيد، الذي تراهن عليه قوى الوسط واليسار والمؤسسة الأمنية والإعلام الليبرالي ومراكز الفكر الليبرالية وغالبية اليهود الأمريكيين والإدارة الأمريكية لهزيمة نتانياهو في انتخابات نوفمبر المقبل، فالرجل سيبدأ حملته الانتخابية من موقع ومقر رئيس الوزراء، الذي استقبل الرئيس الأمريكي جو بايدن، القادم لزيارة إسرائيل بعد بضعة أيام، بل إن البروفسور إيتان جلباو المتخصص في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية يعتبر أن زيارة بايدن لإسرائيل ليس لها مغزى سوى دعم لابيد، أيضًا يروج المراهنون على هذا الحصان الأسود الجديد في السياسة الإسرائيلية دوره وصورته كمؤسس لمنتدى النقب الاستراتيجي مع سبعة وزراء خارجية عرب، عندما كان وزيرًا للخارجية، وبوصفه أيضًا سياسيًا متزنًا يقدم المصلحة العامة على طموحه الشخصي، ويعلي استراتيجة بناء التوافقات على تكتيك الشقاق، الذي ينتهجه خصمه العتيد ناتينياهو، بدليل أنه (أي لابيد) ترك طواعية مركز الصدارة المستحق له انتخابيًا لنفتالي بينيت رئيس الوزراء السابق لإنجاح عملية تشكيل حكومة تقصي الليكود وزعيمه، وأنه فعل شيئًا قريبًا من ذلك مع جانتس في قائمة انتخابية موحدة بين يش عتيد وأزرق أبيض في الانتخابات قبل السابقة.

ما الذي إذن سيعنيه تصنيع أو استنساخ رابين جديد في إسرائيل للدولة العبرية وللفلسطينيين وللمنطقة، في حالة نجاح ذلك الرهان على يائير لابيد، بعد أن توقفت مسيرة رابين الأصلي طويلًا باغتياله، وبعجز باراك، وبجريمة الغزو الأمريكي للعراق بتدبير الليكوديين في إدارة الرئيس الأمريكي الأحمق بوش الإبن؟

نتنياهو

بصرف النظر عن التفاصيل إنه سيعني محاولة إحياء روح مدريد، على الأقل في المسألة الفلسطينية؟ ومن ثم استكمال عملية أوسلو بالانفصال عن الفلسطينيين، من خلال حل الدولتين مع ضمانات أمنية صارمة لإسرائيل طبعًا، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى، في إطار تبادل محدود للأراضي مع الجانب الفلسطيني، كل ذلك حفاظًا على إسرائيل من الانزلاق نحو العنصرية إسمًا وفعلًا، وتمهيدًا لإحياء مشروع السوق الشرق-أوسطية، التي يوليها الوسط واليسار الإسرائيليين، واليهود الأمريكيون أولوية تسبق ما يسمى بمشروع الناتو العربي، بل أنها هي التي ستجعل الناتو العربي أشمل وأجدى من مجرد تحالف دفاعي، وهذا ما سنفصله في المقال التالي.