الحديث حول الملابس في المجتمعات المختلفة من الأحاديث المشوقة، ولكنها لا تخلو من تعقيد في بعض المجتمعات وعلى رأسها مجتمعاتنا، فالملابس –كما تعلم- علامات ثقافية، وأنظمة دلالية، فنحن لا نرتدي ملابسنا لأسباب عمليّة أو وظيفية تتعلق بفكرة ستر العورة والحماية من الحَرّ والقرّ على نحو ما كان يفعل الإنسان الأول فحسب، ولكننا –إضافة إلى ما سبق- نرتدي من الملابس ما يمنحنا مزيدًا من الثقة أمام الآخرين في الفضاء الاجتماعي العام، إنها تدلّ علينا وتعبر عن هويتنا وأحيانًا ما نعتقده.
وفي كل الأحوال لدينا ما نقوله من خلال ملابسنا، فحين نرتدي الجلباب البلدي مثلًا أو حين نضع صورنا ونحن نرتديه على حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي فنحن نؤكد من خلاله على تمسكنا بأصالتنا وجذورنا، ويختلف الأمر بالتأكيد حين نرتدي ما نطلق عليه ملابس عصرية تظهر مدى انفتاحنا على العالم.. وقد نرتدي ملابس أو ألوانًا يرى المجتمع أنها تناسب الشباب والأصغر سنًا..إلخ. وهذا كله يعني أن ملابسنا أكبر من مجرد أغطية للجسد، إنها رسائل لأنفسنا وللآخرين.
اقرأ أيضًا.. جرائم الفوضى والزحام
سجال الحجاب (غطاء الرأس)..!
من الصعب أن نُحدِّد متى بدأ التفكير في الملابس على نحو اجتماعي، ولكنه فيما يبدو بدأ مع الإنسان الأول، والتفكير الاجتماعي في الملابس يعني أننا نهتم بما وراء ما نرتديه، ولعلك تابعت السِّجال الاجتماعي والديني حول مسألة الحجاب في الأسبوع الماضي، بين من يرونه فرضًا دينيًا لا شك فيه (حسب بيان الأزهر الشريف) ومن يراه مجرد استنتاج فقهي (حسب رأي الدكتور سعد الهلالي) ومن ثم فهو “جملة فقهية”، وكونه كذلك يعني أنه استنتاج بشري وليس نصًّا قاطع الدلالة، وبصرف النظر عن هذا السِّجال وموقفك منه، إلا أنك لا ينبغي أن تستبعد الفضاء الاجتماعي والسياسي من هذا الجدل االذي يبدو لك من حيث الظاهر جدلًا فقيهًا خالصًا، فالحجاب (الكلام هنا حول غطاء الرأس فقط) صار أكثر من مجرد غطاء لشعر المرأة المسلمة، إنه هوية دينية وتعبير عن توجّه عَقَديّ مُحدّد، وأن هذا الاعتقاد أو تلك الشَّارة يجب أن تهيمن وتسود وتُفصح عن نفسها في كل مكان، ويزداد الأمر أهمية بطبيعة الحال في عصر الصورة، والحضور الجماهيري للمرأة في المناسبات السياسية المختلفة خاصة بعد ثورة يناير.. ورغم أن الدكتور الهلالي لم يُرجِّح قولًا على آخر، ولم يدعُ المرأة المسلمة إلى مخالفة الشروط العامة التي وضعها الإسلام لملابسها، ولم يتجاوز حديثه غطاء الرأس فقط.. ورغم ذلك كان الهجوم عليه حادًا وعنيفًا وغير مسبوق، ولا يمكنك فهم هذا الهجوم بعيدًا عن هذا السّجال الاجتماعي والسياسي وموقع الدين منه، فالحجاب (غطاء الرأس) هو بالأساس رسالة دالة..!
الملابس الدينية..!
قد يكون من الصعب في هذه المساحة الإحاطة بأبعاد العلاقة بين الملابس والدين بشكل عام، ولكن من المهم هنا الإشارة إلى انفتاح المسلمين الأوائل على ما لدى الأمم الأخرى من تقدم صناعة في الأزياء، لقد كان انفتاحهم الحضاري هذا موازيًا في الوقت نفسه لانفتاحهم الثقافي على ما لدى هذه الأمم من معارف وفنون، فهناك بلا شك مؤثرات فارسية ورومانية ومصرية على الملابس العربية، ومن الصعب هنا الحديث عن زي إسلامي محدد، يشير إلى معتنقي هذا الدين ويميزهم عن سواهم من أصحاب الديانات الأخرى، وإن حرص الدين الإسلامي على نحْوٍ خاص على التبسط وعدم الإسراف في ذلك، بل إنه يُحرّم أنواعًا معينة على الرجال كالحرير والذهب، ويبيحهما للنساء خاصة، ومن الصعب فهم مثل هذا النهي بعيدًا عن حرص الإسلام على خشونة الرجال: “اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم”، وهو توجّه له علاقة بطبيعة الحياة في الصحراء، وجاهزية الرجال للحروب وتحمّل مشاق الحياة.
ورغم أنه لا يمكنك الحديث عن زيّ خاص يميز المسلم، إلا أن لدينا مأثورات تشير إلى حرص النبي (عليه الصلاة والسلام) على تميز شكل المسلم عن غيره من أتباع الديانات الأخرى، كما في هذا الأثر الشهير الذي ورد على لسان عبد الله بن عمر (ت74 ه) “من تشبّه بقوم فهو منهم”، ولعل مثل هذه المأثورات وراء التشدد الفقهي في إلزام غير المسلمين في الدولة الإسلامية بزي مُحدّد يُعرفون به..!
ومن السهل أن تنتقد مثل هذه الآراء اليوم، وكثيرًا ما تنتقد بالفعل، ولكننا هنا نحاول فهمها بوصفها جزءًا من نسق أعمق يتصل بفكرة التمييز داخل المجتمع العربي نفسه، قبل وبعد الإسلام، أقول ذلك بالرغم من وجود آيات كريمة ومأثورات نبوية مشرقة تدعو إلى عدم التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون أو حتى الدين، ولكنها ظلت محدودة الأثر في الوعي الاجتماعي والسياسي والفقهي. (ربما نعود إلى هذه الآيات وتلك الآحاديث في مقال لاحق).
وأنت بالتأكيد تعلم أن هذا المجتمع كان ينقسم إلى سادة وعبيد، وكما انتظم الناس إلى طبقات، فكذلك ملابسهم في طبقات، فملابس الأحرار تختلف بالضرورة عن ملابس العبيد، وعورة المرأة الحرّة تختلف عن عورة الأمة (العبدة) على ما بين الفقهاء من خلاف في حدود هذه العورة.
اقرأ أيضًا.. ترحيب بحق المرأة في “الكد والسعاية”.. كم فتوى في جعبة الأزهر تحتاج إلى إحياء؟
وبشكل عام، فإن ملابس الرجل في هذا المجتمع كانت تختلف عن ملابس المرأة، بما يسمح للنظرة السريعة من التمييز بينهما على نحو قاطع، ففكرة التباس الهوية الجنسية (الجندر) غير واردة في المجتمعات البدوية أو المجتمعات القديمة عامة، فلم يكن مسموحًا بالتّشبه أو الاشتباه قليلًا أو كثيرًا بين الجنسين على أي مستوى، فملابس الرجل يجب أن تكون واضحة دالة عليه، وكذلك ملابس الأنثى.
وكما امتاز الناس من حيث النوع والطبقة فإن الطبقة نفسها تمتاز فيما بينها، فملابس الحاكم تختلف عن ملابس المحكومين، وهي تتجاوز ما يحيط بالجسد إلى ما يوضع على الرأس (العمامة) فعمامة الحاكم تختلف عن عمامة الأمراء أو كبار رجال الدولة.
الملابس.. رسائل السياسة..!
لعلّ أدق ما وصف به عصرنا الحالي أنه عصر الصورة، بما يعني أهمية الصورة في الترويج للسياسات والتصورات وإقناع الناس بها. إنه “عصر الجماهير الغفيرة”، بما يعني أن رواج الصورة يجب أن يلتقي مع مزاج هذه الجماهير التي دخلت على خط السياسة بعد انتشار الديمقراطية، ولعلك تتذكر الصور الشهيرة للرئيس السادات وهو يرتدي الجلباب البلدي والكاميرات تحيط به في قريته “ميت أبو الكوم”، لقد تزامن هذا السلوك منه مع تحولات سياسية واجتماعية عميقة بعد حرب أكتوبر، ومع رغبته في الترويج لصورة الرئيس “ربّ العائلة”، وكما تعلم، فإن التقاليد تفرض على أبناء العائلة طاعة ربها وتقديره، إذ جرت العادة ألا يعارض أفراد العائلة كبيرهم، وقد يناقشونه إذا تكرّم عليهم، ولكنهم لا يتجاوزون الأصول المعروفة في هذه العلاقة.
وفي إحدى حوارات الأستاذ هيكل بعد انتخابات الرئاسة المصرية عام 2005 انتقد ملابس الرئيس الأسبق حسني مبارك، بعد أن ظهر الأخير أمام الشاشات وفي لقاءات نظمها الحزب الوطني دون رابطة عنق ليبدو أكثر شبابًا، واعتبر هيكل- المسكون بالأناقة الإنجليزية الكلاسيكية- أن مبارك قد ترك نفسه لشباب “لجنة السياسات بالحزب”، وهم لا يدركون بما يكفي الفرق بين الرئيس ومقام الرئاسة على نحو ما كان يحلو له أن يميز بين المفهومين، وضرورة خضوع الرئيس نفسه لما يوجبه عليه مقام الرئاسة من هيئة وملبس وبرتوكول..!
ربما لم يعش هيكل حتى يرى رئيس وزراء بريطانيا “بوريس جونسون” وهو يسير بشعر مهوّش ودون رابطة عنق، ولكنه بالتأكيد قد عاش حتى رأى الرئيس السيسي يركب دراجة ويسير بها في الصباح يرتدي “تي شيرت” رياضيًا، ولعلّه شاهده وهو يرتدي في الصيف القائظ بنطلونًا وقميصًا يفتتح أحد المشروعات..!
كان الجيل الجديد حول مبارك يدرك تحولات مفهوم الأناقة السياسية، وأن القادة الكبار في العالم يتخففون من القواعد القديمة في الملابس، وخير مثال على ذلك ما تبثه الميديا من صور مختلفة لرؤسا الولايات المتحدة المتتابعين، وأن هذه الصور تغزو عقول الشباب، بما تنطوي عليه من بساطة، ومن الضروري أن يظهر الحاكم في بعض الأحيان بملابس قريبة مما يرتديه آحاد الناس، حتى لو كان حاكمًا مستبدًا، فالاستبداد وإن لم يهتم بأصوات الناخبين إلا أنه على الأقل يريد رضاهم.
ما أريد أن أقوله تحديدًا، أن قضية الملابس ليست بالبساطة التي تبدو لك على السطح، إنها نتيجة تفاعل أنساق أعمق، وأن السِّجال حولها – بين حين وآخر – جزء من هذه التفاعلات، كما أن الجانب الديني فيها لا يدلّ على التّقوى بقدر ما يشير إلى حضور هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع في الفضاء العام.