1971-1973

بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر تولى نائبه السيد أنور السادات السلطة مؤقتًا إلى أن تم ترشيحه رسميًا من قِبَل مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية. حيث أُجرى استفتاء في أكتوبر 1970 تمت فيه الموافقة على رئاسته للجمهورية بنسبة 90%. أبقى الرئيس أنور السادات على تركيبة الهرم الاجتماعي الذي تركه الرئيس جمال عبد الناصر قائمة -في هيكلها البنيوي فقط- فلم يتغير إلا أفراد النخبة في أعلى هذا الهرم مِمَن أُطلِقَ عليهم وصف “مراكز القوى”. ليحل محلهم أفراد آخرون يتمتعون بتصورات وأفكار مغايرة تتسق مع سياسات الرئيس الجديد المبنية على رؤيته الخاصة لبؤر الدعم الاجتماعي التي يحتاج إليها لبناء دولته ذات الملامح المختلفة التي تشكلت على مراحل زمنية متعاقبة.

كان الرئيس السادات يسعى في ذلك الوقت لحيازة شرعيةٍ شعبيةٍ صعبة المنال. فوجد ضالته في شرعية “دولة القانون والمؤسسات”. ليقوم حين تخلص من خصومه الذين لم يكن أغلبهم يتمتع بشعبية جماهيرية تدعمهم بتشكيل النخبة الجديدة بأعلى الهرم الاجتماعي من أفراد ينتمون إلى فئات لم تكن متجانسة بالكُلية من بيروقراطيين تنفيذيين ورموز من اليسار وبعض مِن أغنياء الريف. لتترسخ تلك الشرعية بدرجةٍ أكبر حين أعاد القضاة الذين غادروا إثر مذبحة القضاء في 1969 إلى منصاتهم. وأطلق سراح مجموعات من المُعتقلين السياسيين وفرض القانون رقم 65 لسنة 1971 في شأن الاستثمار العربي والمناطق الحرة.

ثم قام لاحقًا بإلغاء الحراسات والمصادرات عن كثير من بورجوازيي عهد ما قبل يوليو 1952.

في الوقت نفسه كان الرجل -اتفقت معه أم اختلفت- يحمل على كتفيه مسئولية استمرار التجهيز لحرب تحرير الأرض بما كانت تفرضه من ضرورات لم يكن يحبذها. كالتعامل مع السوفييت باعتبارهم أساس الدعم السياسي الدولي الأول ومصدر السلاح الأوحد. وقد أرهقوه مَليًا كما فعلوا مع الرئيس جمال عبد الناصر من قبله حسبما روى الأستاذ محمد حسنين هيكل ذاته*.

لم يدع ذلك الأمر للرئيس السادات مجالًا أوسع للمناورة. لذا لم يكن هناك بُدٌ من التفكير في تعديل المواقف الاستراتيجية. فكانت المهام السياسية ذات الأهداف الاستطلاعية مع الأمريكان. حيث جَرت مكاتبات واجتماعات سرية بين ممثلي الرئيس السادات كالأستاذ محمد حسنين هيكل والسيد حافظ إسماعيل وبين ممثلي الإدارة الأمريكية. وقد كان الوزير هنري كيسنجر هو أهمهم*. ليضاف إلى الهدف الاستطلاعي لتلك المهام هدف آخر وهو تسويق مبدئي لصورة رئيس مصر الجديد لدى الأمريكان باعتباره الأكثر مرونة والرافض لتعنت الشرق والمُنفتح غربًا. الأمر الذي كان يقتضي توظيفًا لأدوات أجاد الرجل استخدامها كمسألة الحريات السياسية التي كانت تستدعي بدورها درجة محسوبة -في ظل الظروف الاجتماعية القائمة- من الحريات الاقتصادية تمت ترجمتها فعليًا وبشكل مسبق إلى واقع ملموس تمثل كما أسلفت في فرض قانون جديد للاستثمار الذي كان البداية الحقيقية لقانون 1974 المعروف باسم قانون الانفتاح كما سيرد ذكره لاحقًا في الأجزاء التالية من هذا المقال المُطَوَل.

استدعى الأمر -كما جرت العادة- دستورًا جديدًا يتسق مع تصورات مؤسسة الحكم الجديدة بعدما تخلص الرئيس السادات من خصومه السياسيين في مايو 1971.

قبل إقرار الدستور الجديد ببضعة أيام كان هناك إعلان دستوري تحول بموجبه اسم البلاد من “الجمهورية العربية المتحدة” -وهو الاسم الذي ظلت دولة يوليو محتفظةً به تأكيدًا لإيمانها بـ”الوحدة” رغم انفضاضها (الوحدة) رسميًا قبل ذلك التاريخ بنحو عشر سنوات- إلى “جمهورية مصر العربية”.

أتى الدستور الجديد لجمهورية مصر العربية في سبتمبر 1971 بلا تعديلات “جوهرية” فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي لجمهورية مصر العربية.

فقد نصت المادة الأولى منه على أن “جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة”.

كما نصت المادة الرابعة منه على أن “الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي الديمقراطي القائم على الكفاية والعدل. بما يحول دون الاستغلال ويؤدى إلى تقريب الفوارق بين الدخول. ويحمى الكسب المشروع ويكفل عدالة توزيع الأعباء والتكاليف العامة”.

ونصت المادة الثالثة عشرة على أن “العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع. ولا يجوز فرض أي عمل جبرا على المواطنين إلا بمقتضى قانون ولأداء خدمة عامة وبمقابل عادل”.

كما نصت المواد السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة على كفالة الدولة للخدمات الثقافية والاجتماعية والتأمين الصحي ومعاشات العجز والشيخوخة والبطالة والتعليم. وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية. حيث تشرف الدولة على التعليم كله وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي. وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج.

بينما نص في مادته العشرين على كون التعليم مجانيًا بمراحله المختلفة. كما نص دستور 1971 في فصله الثاني المتعلق بالمقومات الاقتصادية بدءًا من المادة الثالثة والعشرين للمادة التاسعة والثلاثين على أن “ينظم الاقتصاد القومي وفقا لخطة تنمية شاملة تكفل زيادة الدخل القومي وعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة والقضاء على البطالة وزيادة فرص العمل وربط الأجر بالإنتاج وضمان حد أدنى للأجور ووضع حد أعلى يكفل تقريب الفروق بين الدخول”. على أن “يسيطر الشعب على كل أدوات الإنتاج وعلى توجيه فائضها وفقا لخطة التنمية التي تضعها الدولة”. وعلى أن “للعاملين نصيبا في إدارة المشروعات وفي أرباحها ويلتزمون بتنمية الإنتاج وتنفيذ الخطة في وحداتهم الإنتاجية وفقا للقانون. والمحافظة على أدوات الإنتاج واجب وطني. ويكون تمثيل العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام في حدود خمسين في المائة من عدد أعضاء هذه المجالس. وتعمل الدولة على أن يكفل القانون لصغار الفلاحين وصغار الحرفيين ثمانين في المائة في عضوية مجالس إدارة الجمعيات التعاونية الزراعية والجمعيات التعاونية الصناعية”. وعلى خضوع الملكية بأنواعها الثلاثة العامة والخاصة والتعاونية للرقابة الشعبية. حيث يقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية.

وعلى أن الملكية العامة للملكية العامة حرمة وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقا للقانون. باعتبارها سندا لقوة الوطن وأساسا للنظام الاشتراكي ومصدرا لرفاهية الشعب. وعلى أن الملكية التعاونية هي ملكية الجمعيات التعاونية. ويكفل القانون رعايتها ويضمن لها الإدارة الذاتية. وعلى أن الملكية الخاصة تتمثل في رأس المال غير المستغل. وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية في خدمة الاقتصاد القومي وفي إطار خطة التنمية دون انحراف أو استغلال. ولا يجوز أن تتعارض في طرق استخدامها مع الخير العام للشعب. وعلى أن تلك الملكية الملكية الخاصة مصونة ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي. ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض وفقا للقانون.

وعلى أن حق الإرث فيها مكفول وعلى أن القانون يعين الحد الأقصى للملكية الزراعية بما يضمن حماية الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال. وبما يؤكد سلطة تحالف قوى الشعب العاملة على مستوى القرية. وعلى أن النظام الضريبي يقوم على أساس العدالة الاجتماعية.

لم يكن دستور 1971 من الزاوية الاقتصادية إلا تأكيدا لاستمرار النهج الاشتراكي للدولة. إلا أن تعديلًا جوهريًا استُحدِث في إحدى مواده -غير ذات الصلة “المباشرة” بالشأن الاقتصادي- كان سببًا في صراعات ما زالت قائمة حتى تاريخ كتابة هذا المقال بعدما تحولت تلك المادة إلى ما يشبه النص المقدس الذي لا تجوز مجرد مناقشته فما بالك بتعديله. وهو ما يتنافى مع طبيعة الدساتير باعتبارها عقدًا اجتماعيًا يخضع للنظر والبحث ومن ثَم للتعديل في ظل تغير الظروف حسب توافقات أفراد المجتمع التي تُمليها توازنات الواقع المُعاش وطموحات المستقبل الآتي.

كان الدستور السابق يشير في مادته الخامسة إلى أن “الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية”. إلا أن دستور 1971 أشار في مادته المقابلة “الثانية” إلى أن ” الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية -ثم أضيفت عبارة- ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع”.

وعلى الرغم من كون “دين الدولة” هو في ذاته أمر جدلي تنبغي دراسته وتمحيصه بِرَويَّةٍ  في سياق التطور العام لضمان عدم انحياز الدولة لطائفة دون أخرى من المواطنين فإن ممارسات دولة يوليو والمعارك التي خاضتها كانت حَاكمةً في هذا الشأن. حيث توافرت منظومة من القيم غير المكتوبة حالت دون تَبَدي أي احتمالات للتفرقة والتمييز. أما ما استُحدث في دستور 1971 بشأن أن “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع” فقد كان فاتحة لتغيرات جوهرية ذات ظل سوسيوبوليتيكي استفحلت يومًا وراء يوم كما سيردُ لاحِقًا.

ثم كان أكتوبر 1973.

للحديث بقية إن كان في العمر بقية.

 

*انظر كتاب “أكتوبر 1973- السلاح والسياسة” -محمد حسنين هيكل- طبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر 1993.