يثير تعامل الدولة مع الأرض التابعة لهاء سواء أكانت زراعية أو مقاما عليها منشآت وكذلك المناطق غير المخططة تساؤلات مستمرة بشأن المحرك للحكومة في التعامل مع المنتفعين بالأراضي الخاضعة لولايتها؟. وهل سعر الأرض أحد المعايير الحاكمة؟ ولماذا لا يتم إعادة توطين جميع القاطنين بالمكان ذاته؟. وهل توجد بدائل أخرى للتعاطي معهم؟
تدور تلك الأسئلة في عقول المتابعين حاليًا لأزمة عوامات النيل التي أوشكت الأجهزة التنفيذية على إنهاء هدمها. بعد وضع خيارات أمام أصحابها كلها مُرة. إما أن يتم بيعها بالمزاد العلني بعد سحبها من قبل وزارة الري لمكان آخر. وإما تفكيكها وبيعها خردة. وإما الهدم بعد جمع المتعلقات الخاصة بقاطنيها وكان الخيار الأخير هو الغالب.
اقرأ أيضًا.. شريف العصفوري يكتب: 400 مليار دولار أنفقناها على البنية التحتية
تعامل الدولة والأفراد
حوار مسئولي وزارة الري مع أصحاب العوامات يوضح مبدأ اتبعته الوزارة في التعامل مع المناطق الخاضعة لولايتها: “إنت مأجر مني. وأنا مش عايزك خلاص”. وهو أمر يعني أن العلاقة أصبحت كطريقة الأشخاص الطبيعيين (الأفراد). صاحب الملك (بكسر الميم) هو المهيمن على العلاقة. أو بمعنى آخر “مالي وأنا حُر فيه”.
وردت الوزارة الإزالة إلى “تشويه المظهر الجمالي” وعدم حمل ترخيص للرسو بالنهر. وربط البعض إزالتها بمشروع ممشى أهل مصر. الذي يحمل شقًا تجاريًا سياحيًا بردم أجزاء من شط النيل وتحويلها إلى مقاهٍ ومطاعم بداية من وسط القاهرة “التحرير” انطلاقًا إلى الشمال باتجاه شبرا الخيمة وفي الاتجاه المقابل نحو المعادي جنوبًا.
المنطقة التي تقع فيها العوامات “32 عوامة” تدخل ضمن خطة أكبر لتطوير المناطق غير المخططة بالجيزة. إذ يتم حاليًا تطوير منطقة كورنيش النيل بدءا من ميدان الجيزة حتى ميدان الكيت كات بطول 6 كيلومترات لتوحيد النسق العام للشارع. والحفاظ على الطابع السياحي لتحقيق وعودة المظهر الجمالي والحضاري له.
تطوير كورنيش الجيزة.. الأمر أكبر من العوامات
طبقًا لمخطط تطوير محافظة الجيزة تشمل الأعمال قطاعين. القطاع السياحي بطول 2.5 كم يبدأ من نفق الجلاء الذي يعلوه فندق سياحي شهير وحتى ميدان الكيت كات. ويشمل مسارا سياحيا مؤهلا للمشاة وتوحيد شكل الأسوار والبوابات الحديدية للنوادي والمطاعم المطلة على كورنيش النيل. أما القطاع السكني بطول 3.4 كم يبدأ من ميدان الجيزة وحتى نفق الجلاء.
المهندس أيمن أنور -رئيس الإدارة المركزية لحماية نهر النيل بالقاهرة- قال في تصريحات صحفية إن منطقة العوامات ستخضع للتطوير. وأن أصحابها يمكنهم تغيير نشاطها إلى تجاري أو سياحي. وهو أمر يثير تساؤلا حول سبب الإزالة. فتغيير نشاط العوامات من سكني لسياحي “هل يغير تشويهها للنيل؟”.
بالتزامن مع تطوير الكورنيش لدى صندوق تطوير المناطق العشوائية خطة إضافية تشمل تطوير عدد من المناطق العشوائية بمنطقة إمبابة بالجيزة. على رأسها “أرض عزيز عزت” التي تقع بجانب “الكيت كات” على نهر النيل. ومنطقة الشوربجي التي تقع خلف مصنع الشوربجي قرب منطقتي “مطار إمبابة” و”بشتيل”. على أن يتم التطوير على غرار منطقة “روضة السيدة” بحي السيدة زينب بالقاهرة. أي تطوير يتضمن إعادة التوطين.
خيارات التعامل مع الإزالات.. هل تنطبق على العوامات؟
تضع الدولة ثلاثة خيارات في التعامل مع ملف إزالات العشوائيات. أولها التعويض المالي وحصل عليه قطاع من المتضررين من مشروع الدائري وتوسعة شارع النزهة. أو توفير شقة سكنية بديلة في مشروعاتها خاصة بمنطقة المقطم لأهالي ماسبيرو ومجرى العيون وبطن البقرة بمصر القديمة بالقاهرة.
بينما كان الخيار الثالث استئجار شقة في المكان وإعادة التوطين مجددًا بعد نهاية بناء المشروع وتم تطبيقه جزئيًا مع عدد قليل من ساكني ماسبيرو والحيين السادس والسابع بمدينة نصر. وسيتم تكراره مع بعض مناطق الكيت كات التي سيتم نقل سكانها إلى حي السادس من أكتوبر في مشروعات خصصتها الدولة.
يُقسم قانون البناء الموحد المناطق العشوائية إلى مناطق خطرة وغير آمنة كالمساكن ذات المنشآت المتهدمة أو المتصدعة أو المعرضة لحوادث السكة الحديد أو التي تم بناؤها على أراضي دفن القمامة. أو تحت خطوط الضغط العالي. والثانية مناطق غير مخططة ومناطق غير صحية تفتقد المساحة الكافية للمعيشة.
تعاطي الدولة مع العوامات لا ينطبق عليه التقسيمات السابقة. والأمر شبيه بنزع الملكية للمنفعة العامة الذي يتضمن الهدم والتعويض. لكن الاختلاف في أن أصحابها عليهم غرامات تتراوح بين 500 ألف و900 ألف جنيه (الدولار الأمريكي يساوي 18.86 جنيه مصري) -بحسب الرواية الرسمية التي يرفضها القاطنون. وبالتالي قد يكون التعويض ذاته غير متاح لهم باستثناء حالتين تم التعامل معهما لـ”أسباب إنسانية”.
المنفعة المشتركة تحكم!!
قبل شهور أثار إزالة أجزاء من الحيين السادس والسابع بمدينة نصر جدلًا شبيهًا بملف العوامات لأسباب تتعلق بالخلاف حول مدى احتياج المنطقة إلى التطوير من الأساس. فضلا عن القيمة العادلة لتسعير المتر بها للراغبين في الحصول على وحدات أخرى في المشروع ذاته بعد تطويره.
محافظة القاهرة بررت حينها القرار بتوصيف المنطقة كمنطقة “خطرة” بعدما مر عليها 70 عامًا منذ تأسيسها على يد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر. ووضعت مخططًا مكانه لإنشاء أبراج عليها شبيهة بمثلث ماسبيرو بوسط القاهرة التي تصل الارتفاعات بها إلى 23 طابقًا بما يعادل 130 مترًا.
سياسة الدولة في ملف الأراضي بقلب القاهرة تعتمد على “الاستغلال الاقتصادي” الرأسي. أو بمعنى آخر فإن عقارا مكونا من أربعة أدوار -الدور الواحد عبارة عن شقة بمساحة 200 متر- يضم أربعة أسر يمكن استثمار المساحة ذاتها في إنشاء عقار 23 طابقًا يضم الطابق الواحد شقتين ليضم 46 أسرة.
على غرار ماسبيرو
في مثلث ماسبيرو خصصت الدولة برجين للأهالي الذين فضلوا البقاء دون الحصول على تعويض أو الانتقال إلى أماكن بديلة. وأعادت استثمار باقي المساحة في بناء أبراج أخرى تتضمن وحدات إدارية وتجارية وسكنية. وسيتم بيعها بأسعار مرتفعة. فالمتر التجاري يصل إلى 110 آلاف جنيه والإداري إلى 35 ألف جنيه.
حزام العشوائيات الذي يطوق المدن بمصر غالبيته بمناطق استراتيجية. سواء على النيل أو واقعة ضمن مزارات دينية أو في طريق المشروعات العقارية الضخمة. وغالبية قاطنيها لا يملكون عقود ملكية للأرض. بل بقوا عليها لعقود كوضع يد وهو ما يضعف موقفهم في التعامل مع الحكومة حال التطوير.
مجرى العيون بالقاهرة على سبيل المثال كانت منطقة عشوائية من الطراز الأول تتخللها مجار للصرف الصناعي الخاص بورش دباغة الجلود تخترق الشوارع حتى تنتهي بسور تاريخي تم بناؤه عام 1169 ميلاديًا. فتم نقلها إلى ورش منطقة الروبيكي “منطقة تابعة لمدينة بدر تمتد من طريق القاهرة-الإسماعيلية الصحراوي حتى طريق القاهرة السويس الصحراوي”. وإنشاء مشروع عقاري بديل ينتمي للإسكان فوق المتوسط الذي يربو إلى الفاخر.
بلغ إجمالي الاستثمارات التي ضختها الحكومة في مشروع الروبيكي المقام على مساحة 490 فدانًا نحو 2.5 مليار جنيه. شاملة محطة الصرف الصناعي بالمدينة. فيما قطاع منها موجه نحو النشاط الصناعي. إذ تضم 195 مصنعًا للجلود والورش التي يتوقع أن يصل عددها لما يقرب من 17 ألف و600 ورشة منتجة للمصنوعات الجلدية.
سبب رفع سعر قيمة الأراضي
بحسب خبراء فإن تطوير العشوائيات يحقق منفعة مشتركة. فالدولة تنفق على إنشاء مشروعات جديدة وتوفر الأثاث لقاطنيها بعد نقلهم. لكنها تربح أيضًا من عائد بيع المشروعات البديلة التي يتم تأسيسها بدلاً منها. ففي مجرى العيون يتم بيع المتر بنحو 16 ألف جنيه.
بعض المطورين العقاريين يقولون إن الأراضي أصبحت عنصرًا ذا قيمة في مصر. أو بمعنى آخر فالدولة حولت الأرض لوسيلة إيراد بالنسبة لها. وطالبوا بإعادة النظر في أسعارها والتي تمثل حالًيا 40% من تكلفة المشروع العقاري. وهى نسبة مبالغ بها للغاية ويجب ألا تتخطى النسبة العادلة والمنطقية 20% من التكلفة الكلية من وجهة نظرهم.
بحسب البنك الدولي فإن أكبر العوائق أمام القطاع الخاص عالميًا تشمل صعوبة الحصول على الأراضي. بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بتملك الأراضي وتسجيلها. وغالبًا ما تستخدم الشركات سندات ملكية الأراضي أو الممتلكات كضمان لتمويل تكاليف التشغيل ولتوسيع نطاق الأعمال التجارية القائمة أو فتح شركات جديدة. وبالتالي توفير مزيد من فرص العمل.
في ملف أراضي طرح النهر التي تقدر بـ500 ألف فدان تقريبًا. قررت وزارة الأوقاف قبل سنوات زيادة سعر تقنين الفدان من 800 إلى 10 آلاف جنيه. ووصلت في بعض المناطق إلى 17 ألف جنيه. لما يضر الفلاح أو الزراعة بمصر بحسب نقاشات لمجلس النواب الذي طالب بتطبيق سعر الإيجار أو الانتفاع العادل مثل هيئة التعمير والتنمية الزراعية. والتي تقدر بـألفي جنيه للفدان.
لا مزيد من الأرض
يؤكد البنك الدولي أن ضمان حقوق حيازة الأراضي (سواء من خلال تسجيل صكوك الملكية أو الاستخدام العرفي السائد) والقدرة على الاعتماد على السلطات المحلية أو الوطنية لإنفاذ تلك الحقوق أمر ضروري للحفاظ على وسائل كسب العيش وصون الاستقرار الاجتماعي وزيادة الحوافز للاستثمار وللاستخدام المستدام والمنتج للأراضي.
الحكومة تقول إن هدفها ليس الربح من الأرض. وأطلقت أخيرًا مبادرة للأراضي الصناعية تمنحها للمستثمرين مجانًا في حالة الانتفاع أو بسعر المرافق فقط حالة شرائها. وذلك لتقليل الأعباء المالية عليهم ودفع نشاط التصنيع. وفي ملف أراضي العشوائيات تم توفير سكن بديل مفروش بالأثاث. بدلًا من شقق الغرفة الواحدة والحمامات المشتركة. وهي تكلفة ضخمة وصلت إلى 40 مليار جنيه.
تمثل الأرض قيمة اقتصادية في حد ذاتها بعدما أصبحت تتسم بالندرة. فكما يقول مارك توين: “لا أحد يصنع مزيدًا من الأراضي في العالم”. والمناطق الواقعة في وسط القاهرة أو حزام العشوائيات أو حتى طرح النهر غالبيتها مميزة تعاني من عدم التخطيط. وتطويرها يتطلب “التخطيط الاجتماعي” ومرونة القرار. فـ32 عوامة كان يمكن حل مشكلتها بتخصيص 32 وحدة بديلة لهم في أحد مشروعات تطوير منطقة الكيت كات على النيل أيضًا وتنتهي المشكلة دون جدل.