هذه المرة لم تكن العدسات موجهة نحو أوكرانيا وتداعيات الاعتداء الروسي ضدها بل نحو القرن الأفريقي الذي يتعرض لمجاعة غير مسبوقة. وذلك بسبب فشل مواسم الأمطار الأربعة الماضية في تزويد بلدانه بحاجاتها التقليدية من المياة. ما ينعكس على الغذاء ومظاهر الحياة كافة.

ففي يونيو الماضي كان العالم على موعد مع واحد من أسوأ التقارير الإنسانية التي أصدرتها وحذرت منها وكالات الأمم المتحدة المعنية.

سوء الأحوال الإنسانية في القرن الأفريقي
سوء الأحوال الإنسانية في القرن الأفريقي

فلاش باك.. ماذا حدث في القرن الأفريقي؟ 

منذ أواخر عام 2020 شهدت بلدان القرن الأفريقي أزمة لم تتعرض لها منذ 40 عامًا على الأقل. إذ تسبب الاحتباس الحراري في إفشال مواسم الأمطار التي تهطل كل عام من مارس إلى مايو ومن سبتمبر إلى ديسمبر. حيث تسهم الأمطار الطويلة بنسبة 70٪ من إجمالي احتياجات دول مثل إثيوبيا والصومال وكينيا من المياه.   

المخيف أن نفس سيناريو المواسم الأربعة معرض للتكرار في الموسم الخامس القادم أيضا بين أكتوبر وديسمبر القادم. في وقت لم يعد لدى بلدان القرن الأفريقي أي قدرة على تحمل متاعب جديدة بعد أن دمرت المواسم الماضية المحاصيل والماشية.

أجبرت ندرة المياه الملايين على مغادرة منازلهم بحثًا عن الماء والغذاء. بيد أن أزمة أوكرانيا المستمرة بلا أفق لإنهائها تدمر هي الأخرى أي أمل للنجاة. خاصة إذا استمرت الجهود الإغاثية الدولية للأفارقة بنفس البطء القاتل الذي يعطي أولوية لمساعدة الأوكران على حساب غيرهم من بلدان العالم.

أخطر مراحل المجاعات في أفريقيا

في إبريل الماضي أجرت الوكالات المعنية بالأمم المتحدة أبحاثا على كينيا والصومال وإثيوبيا للتحقق من الأوضاع على الأرض. لتجد أن هذه البلدان وصلت إلى حد المرحلة الخامسة ـآخر مرحلة في تصنيف الفاو لتتبع معدلات الجوع العالمية والتي تبدأ بالأمن الغذائي وتنتتهي بالمجاعة أو الكارثة الإنسانية.

أكثر من مليون و700 ألف طفل في هذه البلدان يعانون الآن بدرجة مخيفة من نقص حاد في الأغذية. يقول مايكل الحاج الممثل السابق لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بالمغرب. ويوضح أن الصومال وحده قد يتعرض فيه 7 ملايين شخص من إجمالي عدد السكان البالغ 16 مليونًا لخطر المجاعة في الشهرين المقبلين فقط. إذا لم يتم توسيع نطاق المساعدات لتلبية الاحتياجات المتزايدة.

معاناة الإنسان في القرن الأفريقي
معاناة الإنسان في القرن الأفريقي

أخطر آثار الجفاف بنظر “الحاج” أنه يهدد بشدة البلدان المنتجة للقمح في أفريقيا. ومع تصاعد الأزمة الأوكرانية يُسدّ الطريق على باب الانفراجة التي كانت تأتي من كييف للمساعدة في حل مثل هذه الأزمات العالمية بالإنتاج الزراعي الوفير والحبوب. ولهذا فالوضع مرشح لصعوبة أشد خطرًا في المواسم القادمة حسب رأيه.

مساعدات المجتمع الدولي.. أين نصيب الأفارقة؟

رغم الخطر الداهم الذي يواجه بلدان القرن الأفريقي فمنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية الروسية والغرب يتعامل مع اللاجئين الأوكران باعتبارهم أولوية قصوى لمساعداته. إذ خصص برنامج الأغذية العالمي وشركاؤه الغذاء والنقد لأكثر من 3 ملايين أوكراني.

برنامج الأغذية العالمي يدعم أوكرانيا
برنامج الأغذية العالمي يدعم أوكرانيا

مع تزايد الضغوط والانتقادات من الجماعات الحقوقية تجاه تجاهل بقية الأزمات العالمية أعلن الصندوق المركزي لمواجهة الطوارئ تخصيص 30 مليون دولار لتلبية احتياجات الأمن الغذائي والتغذية العاجلة في النيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو. لكن المطلعين على حقيقة مشكلات بلدان القرن الأفريقي يعرفون أن المبلغ المخصص لهم لا يزيد على “قطرة في محيط” في حل أزماتهم.

ما تختبئ منه المؤسسات المانحة مع أنها تدرك عواقبه جيدا أن الأذى سيمتد خلال الأشهر القليلة القادمة إلى ملايين البشر الذين يعيشون معاناة كارثية في مواجهة خطر الجوع. سواء لأسباب دائمة كالفقر أو المناخ وتقلباته. أو بسبب غزو الاتحاد الروسي لجارته. يتزامن ذلك مع ارتفاع جنونية لأسعار الأغذية الأساسية بنسبة تصل إلى 30%. ما يضاعف من الأزمة ويهدد باستفحالها وقد يفقد العالم السيطرة عليها.

هذه المخاوف جعلت رئيس الاتحاد الأفريقي ـالرئيس السنغالي ماكي سال- يطير إلى روسيا ثم فرنسا للتحذير من الكارثة. فالأفارقة وفق سيناريو التصعيد في أوكرانيا مهددون بثورة جياع حسب كلام رئيس الاتحاد الأفريقي للرئيس فلاديمير بوتين. إذ اعتبر قارته بأكملها قد تصبح ضحية خلال الأشهر القادمة للنزاع بين الغرب وروسيا. 

سوء التخطيط والإدارة وأجندة الإصلاح الغربي

قبل أربع أو خمس سنوات لم يكن يتوقع أحد أن تجتمع كل هذه العوامل ضد القارة السمراء وفي القلب منها بلدان القرن الإفريقي. خلال عام واحد فقط داهمها الكوفيد 19، ثم أزمة عالمية خانقة بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا والآن الجفاف. يحدث ذلك والبلدان الكبرى تقف مكتوفة الأيدي ولا تملك أي استراتيجية حيال ذلك. يقول رشيد أوراز الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن.

يكشف الباحث أن البلدان الغربية التي يلجأ إليها الأفارقة من أجل مساعدتهم بما يزيد عن الحصص المخصصة لهم في هذا التوقيت يطرحون شروطهم ويطلبون هيكلة الاقتصاد وتخفيف الدعم بحجة إهدار الموارد وسوء الإدارة.

برأي الباحث المشكلة تكمن في فرض مثل هذه الشروط حال طلبه الدعم من الغرب في وقت يقف ما يقرب من 2.5 مليون شخص في حالة طوارئ، وعادة ما ترتبط هذه المرحلة بزيادة سريعة في معدل الوفيات، إذ سجلت إثيوبيا والصومال وكينيا أعدادًا أعلى بكثير من الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد الذين تم إدخالهم للعلاج في الربع الأول من العام مقارنة بالسنوات السابق.

كما نزح أكثر من مليون شخص في بلدان القرن الإفريقي إلى مناطق آخرى بعد أن نفقت 3.6 مليون رأس ماشية في كينيا و1.5 مليون في إثيوبيا و2.1 مليون بالصومال. حيث ينفق حيوان واحد من كل ثلاثة منذ منتصف عام 2021.

ومع ذلك فالتعامل الغربي مع الأزمة الإفريقية يتم وفقا لما يمكن تسميته بـ«الطرق الترقيعية»ـ يقول رشيد أوراز، فالأوساط الغربية لاسيما البحثية منها تعتبر أزمة الأفارقة ليست طارئة بل تراكمية ونتيجة تجاهل دعوات الإصلاح التي نادى بها الغرب كثيرًا منذ عشرات السنوات.

تفاقم انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية الحاد والصدمات الآخرى كلها متعلقة بنظر الغرب بالصراع على السلطة وانعدام الأمن والتخطيط والإدارة الاحترافية، وبالتالي لايمكن تحميل الأزمة الروسية الأوكرانية وحدها المسئولية عن الفشل في مواجهة ارتفاع أسعار الوقود والأغذية والأسمدة العالمية وتحديات الاقتصاد الكلي وتدهور حالة الطوارئ الغذائية الخطيرة بالفعل.

لا تتحمل حتى أزمة نقص المياه بسبب درجات الحرارة العالية جدًا في الغلاف الجوي والتي من المتوقع أن تستمر خلال موسم الجفاف من يونيو إلى سبتمبر، إذ لا يبتعد الغرب كثيرا خلال تقييمه لهذه المشكلة المعقدة عن نفس المنهجية التي تجعله يضع البيض كله في سلة قادة البلدان الإفريقية.  

بحسب الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، يحصر الغرب مشكلة الأفارقة في انعدام الرؤية وتجاهل العمل وفق إجندة إصلاحية منذ وقت طويل، فالتضخم الذي تعاني منه الآن أغلب بلدان العالم سيمتد أثره إلى عقد كامل . هذا حال كان هناك خطة للمواجهة.

أما الدول الإفريقية لاسيما بلدان القرن الإفريقي فلا تملك في أغلبها ـ بالنسبة للغرب ـ أي رؤية لتمويل أنشطتها الاقتصادية وتدبير احتياجاتها لـ 3 أو 4 سنوات قادمة، بل لاتملك حتى برامج متوسطة أو بعيدة المدى للخروج من هذه المآزق يستكمل رشيد أوراز ويضيف:

ربما هذا سبب تخوف وكالات الأمم المتحدة من أنه بغض النظر عن هطول الأمطار بين أكتوبر وديسمبر، فإن الظروف لن تتعافى بالسرعة الكافية لتحسين الأمن الغذائي في بلدان القرن الإفريقي خلال العام المقبل.

يوضح الباحث أهمية تكثيف الإجراءات بسرعة لإنقاذ الأرواح وتجنب المجاعة حسبما خلصت وكالات الأمم المتحدة  التي دعت إلى زيادة فورية في الاستجابة المالية لهذه المنطقة من أجل التفاعل مع حالة الطوارئ الغذائية الخطيرة بالفعل، على حد قوله.