بعد إعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953م تخلصت مصر من ديكتاتورية الأجانب وبدأت مسيرتها مع ديكتاتورية الفلاحين أو -على وجه الدقة- ديكتاتورية ضباط الجيش من أبناء الفلاحين.
ديكتاتورية الضباط من أبناء الفلاحين حافظت -بأمانة وإخلاص- على ما ورثت من تركات الديكتاتورية التي تعاقبت على مصر منذ فقدت استقلالها القومي على يد الفرس على رأس المائة الخامسة قبل الميلاد. فقد تقمص الضباط من أبناء الفلاحين الخصائص السياسية لكل من حكموا مصر قبلهم من أكاسرة الفرس ثم بطالمة الإغريق ثم قياصرة الرومان ثم خلفاء العرب ثم سلاطين المماليك والعثمانيين ثم الغزاة الأوروبيين من فرنسيين وإنجليز. ومعهما استعمار عائلي من محمد علي باشا وسلالته على مدى قرن ونصف القرن. والباشا وسلالته -في نهاية المطاف- وافدون من أوروبا يحملون جينات يونانية في الدم مع جينات عثمانية في التكوين الاجتماعي والديني مع توجهات أوروبية في أسلوب الحياة.
الرئيس محمد نجيب -حكم من 7 سبتمبر 1952م حتى 29 إبريل 1954م- كان والده مزارعا من كفر الزيات غربية.
الرئيس جمال عبد الناصر -حكم من 25 يونيو 1956م حتى 28 سبتمبر 1970م- كان والده موظفا في مصلحة البريد.
الرئيس أنور السادات -حكم من 17 أكتوبر 1970م حتى 6 أكتوبر 1981م- كان والده موظف صحة بالجيش.
الرئيس حسني مبارك -حكم من 14 أكتوبر 1981م حتى 11 فبراير 2011م- كان والده موظفًا في محكمة طنطا.
الرئيس الدكتور محمد مرسي -حكم بين 30 يونيو 2012م حتى 30 يونيو 2013م- كان والده مزارعًا في الشرقية.
الرئيس عبدالفتاح السيسي -يحكم من 8 يونيو 2014م حتى كتابة هذه السطور- كان والده صاحب محل بازار.
كان الملك فاروق الأول -حكم بين 29 يوليو 1937م حتى 26 يوليو 1952م- هو ثاني من حمل لقب ملك عن أبيه الذي كان أول من حمل اللقب من سلالة محمد علي باشا. فهو الوحيد بين حكام مصر الحديثة من ينطبق عليه وصف ملك وابن ملك. كما هو الوحيد من عزله جيشه عن العرش بتوافق الاستعمارين القديم والحديث من أوروبيين وأمريكان. إذ توافق المستعمرون كلهم على اعتبار الحدث مجرد شأن داخلي مصري لا يجوز التدخل فيه. فلم يستغرق خلعه أكثر من إنذار عند الصباح أعقبه حضوع ثم تنفيذ عند الغروب. وربما لو تعلق الأمر بخلع صاحب كشك سجائر من مطرحه لكان الأمر أصعب من ذلك وأعقد. حدث توافق دولي على خلعه فتم خلعه. وصادف ذلك مطلبا شعبيا حقيقيا. فقد أساء الملك إلى نفسه وإلى عرشه وبات عبئا على شعبه مثلما بات عبئا على أصحاب المصالح في مصر من القوى الغربية.
………………………………
الديقراطية -بمعناها الحديث أي حق الشعوب في اختيار الحكام ونقدهم ومراجعتهم ومساءلتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم وعزلهم- هي ابتكار حديث. يعود فقط إلى القرنين التاسع عشر والعشرين. وترتبط بتبلور فكرة الدولة الوطنية. وهي لم تُعرف بشكلها الذي نعرف الآن قبل ثورتي الإنجليز في القرن السابع عشر في 1648م وكانت ثورة دموية. ثم في 1688م وكانت سلمية إلى حد ما.
ولهذا يسمونها الثورة المجيدة.
ثم الثورة الأمريكية 1776م ثم الثورة الفرنسية 1789م.
الديمقراطية المطمئنة في بريطانيا تطورت عبر القرون. بدأت من القرن الثاني عشر. وظلت تتعثر وتتقدم ولم تنضج في غير القرن العشرين. لكنها سبقت العالم في التخلي التدريجي عن فكرة أن الحاكم يحكم بإرادة الله أو بتفويض من الله أو بموجب حق إلهي.
وبموجب هذا التخلي التدريجي تم إشراك النبلاء والأرستقراطية في الحكم من خلال البرلمانات. هذه البرلمانات أجبرت الملوك على قبول فكرة المساءلة والمحاسبة من الشعب. ولهذا تم التوصل إلى صيغة أن الملك يمارس سلطاته من خلال وزارة وأن هذه الوزارة تتعرض للمساءلة أمام البرلمان.
ومن خلال إرساء فكرة خضوع الحكومة للمساءلة البرلمانية تم تأكيد حماية الحقوق والحريات من تغول الحكومة. ومن هنا نبتت فكرة الدستور والقانون وحماية الخصوصية ومنظومة الحريات والحقوق والواجبات كافة. ثم في ظل هذه المنظومة قامت الثورة الصناعية التي فتحت الباب لنمو المدن وظهور الطبقة الوسطى وبذور المجتمع الحديث.
هذه الطبقة الوسطى كافحت لتأخذ موقعها إلى جانب الطبقة الأرستقراطية. ثم مع تطور الصناعة وشبكات الطرق والهجرة من الريف تبلورت الطبقة العمالية والتي كافحت بدورها لتأخذ موقعها إلى جانب الطبقتين الأرستقراطية والوسطى. وبهذا تطورت الديمقراطية من ديكتاتورية ملك فرد محتكر لكل السلطات بزعم الحق الإلهي إلى أن صارت أمور الحكم شراكة بين كل المواطنين في إطار دستور وقانون يتساوى أمامه الجميع وله -أي للقانون- الكلمة العليا فوق الجميع دون استثناء.
أوروبا حتى قيام الثورة الفرنسية 1789م بل حتى خواتيم القرن التاسع عشر كانت مزرعة كبرى للديكتاتوريات باستثناء بريطانيا. وحتى الديمقراطية البريطانية نفسها كانت مليئة بالعيوب التي لم تبرأ منها إلا مع القرن العشرين.
في الجزء الثاني المعنون “عصر النهضة والإصلاح الديني والاحتكام إلى العقل” من كتاب هربرت فيشر “تاريخ أوروبا”. والذي تُرجم ونُشر في مصر تحت عنوان “أصول التاريخ الأوروبي الحديث من النهضة الأوروبية إلى الثورة الفرنسية” -الفصل الثاني والعشرين- تحت عنوان “القرن الثامن عشر في إنجلترا وفرنسا” شرح واف لنقطتين هامتين:
– الأولى:
أن الفرنسيين كانوا ينظرون بعين الإعجاب والتقدير للديمقراطية في بريطانيا. وينقل عن فولتير “1694-1778م” -ألمع فلاسفة فرنسا وكتابها ومفكريها في القرن الثامن عشر- نقل عنه أنه بعد أن دخل السجون في فرنسا بمكيدة من أحد النبلاء قام بزيارة إلى بريطانيا بين عامي 1726 و1729م. ثم كتب في عام 1733م عن بريطانيا كمجتمع سعيد في ظل الديمقراطية.
يقول “فولتير: “في هذا المجتمع السعيد الباهر يستطيع الفرد أن يقول وينشر ما يريد. حيث لا تعذيب ولا حبس بغير حق. وحيث يُتاح لمختلف المذاهب الدينية أن تزدهر بما في ذلك مذاهب لديها الجرأة لتقول إن الحرب عمل يخالف مبادئ الدين المسيحي. والإنسان الإنجليزي يصنع سعادته بالطريقة التي يرضاها لنفسه. فلا عسف ولا تفرقة في فرض الضرائب. فلا إعفاء للنبلاء ولا إعفاء للكهنة من الضرائب. والفلاح يستمتع بأكل الخبز الأبيض ويرتدي اللباس الحسن. وهو آمن على مدخراته ولا يخشى مصادرة أمواله”. ص 340 طبعة المركز القومي للترجمة-مصر.
ثم ينقل عن مونتسكيو “1689-1755م” -وهو ألمع رجال القانون في فرنسا القرن الثامن عشر. وقد زار بريطانيا بين عامي 1729 و1731م – ينقل عنه قوله: “إنجلترا أكثر دول العالم حرية. لا تكاد تنازعها في ذلك جمهورية واحدة. وفي رأيي أنها حرة لأن ملكها مُقيد السلطان. ليس مُطلق السلطان. فهو لا يملك القدرة على أن يلحق ضررا محسوسا بأي فرد”. ص 341.
هذا الإعجاب الفرنسي بديمقراطية بريطانيا لا ينفي -كما يشرح هربرت فيشر- أن فرنسا كانت تشهد على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر ديكتاتوريات بناءة. صنعت -بالتدريج- مجد فرنسا لتكون قوة عظمى أوروبية. ولتكون مدرسة في القانون. ولتكون اللغة الفرنسية هي لغة الثقافة الأوروبية. لكنها بقيت حتى الثورة الفرنسية عند خاتمة القرن الثامن عشر بلدا زراعيا تقليديا تسوده الطبقية وتفرق بين أبنائه الامتيازات التي يستأثر بها النبلاء والكهنة على حساب الطبقة الوسطى الصاعدة. أما الفقراء فكانوا رهائن الجوع ونقص الرغيف ذاته. وعندما جاء ملك طيب مثل لويس السادس عشر وفكر في الإصلاح كانت الثورة قد اختمرت ثم انفجرت ودفع الملك الطيب حياته وحزت المقصلة رقبته.
– الثانية:
أن هربرت فيشر “1865-1940م” -وهو مؤرخ بريطاني وخبير تربية ورجل دولة ووزير قدير- له رأي في ديمقراطية بلاده في القرن الثامن عشر يختلف عن تلك النظرة المليئة بالإعجاب كما ورد في كتابات الفيلسوف الفرنسي فولتير ورجل القانون الفرنسي موتسيكيو.
هيربرت فيشر يضع أصابعه -بصورة أوضح- على حقيقة الديمقراطية البريطانية في القرن الثامن عشر. يقول: “كان الدستور الإنجليزي في القرن الثامن عشر يفوق سائر النظم الدستورية في القارة الأوروبية. ولكنه مع هذا لم يكن النموذج المثالي المستنير الذي تصوره الفلاسفة الفرنسيون في حماستهم المتقدة”. ص 345 طبعة المركز القومي للترجمة-مصر.
ثم يشرح هربرت فيشر نواقص الديمقراطية البريطانية في أن البرلمان كان حكرًا على نبلاء الريف وأرستقراطية المدن ويتم إبعاد الطبقة الوسطى عنه. وكانت الرّشى الانتخابية سائدة يدفعها المرشحون ويتقاضاها الناخبون. وكان التمييز الديني قائما. فالسيطرة للكنيسة الإنجليكانية دون باقي الكنائس البروتستانتية. ثم الكاثوليك مجردون من كل الحقوق تقريبا.
ظل الكاثوليك محرومين من الأداء العلني لشعائرهم حتى عام 1779م. وكان البروتستانت محرومين من التعليم في جامعتي أوكسفورد وكيمبردج. وكان الحكام من آل هانوفر من أصول ألمانية لا يتحدثون الإنجليزية. ولهذا السبب -مع ضغط النبلاء- قبل الملك جورج الأول -وهو لم يكن يتحدث الإنجليزية على الإطلاق- واستثقل أن يخاطب مجلس الوزراء باللغة الفرنسية- أن يمارس الحكم من مجلس الوزراء على أن يكون مجلس الوزراء مسئولا أمام البرلمان. وكانت هذه خطوة مهمة في تطور الديمقراطية البريطانية.
– عند خاتمة القرن الثامن عشر كانت فرنسا تستعد للثورة على حكامها ونبلائها وكنيستها. بينما كانت بريطانيا -بفضل الديمقراطية البطيئة التدريجية- قد تجاوزت ذلك وبدأت تستعد لأهم وأعظم حدث في العصر الحديث وهو الثورة الصناعية.
…………………………………
أردت مما سبق لفت الانتباه إلى حقيقة أن الديمقراطية يلزمها أن تكون نتاج تفاعلات داخلية بالدرجة الأولى. يمكن استلهام تجارب الآخرين أو الاقتباس منها. لكن يستحيل استيراد الديمقراطية بالكامل من خارج الثقافة المحلية ولا من خارج تركيبة المجتمع المحلي ولا من خارج التطور الاقتصادي ولا من خارج الوضع السياسي وصراعات القوى والمصالح.
ثم أردت -كذلك- لفت الانتباه إلى أن تطورها واستكمالها يستغرق وقتا. ربما يمتد على مدار قرون متتالية تتعثر حينا وتنتكس حينا وتتقدم حينا آخر حتى تتمكن وتستقر وتطمئن وتصير ليس فقط منهج حكم لكن كذلك منهج تفكير.
ثم أردت -ثالثا- لفت الانتباه للدور العظيم الذي لعبته الديكتاتوريات الحديثة المستنيرة التي نقلت أوروبا من عصر الإمبراطورية المقدسة إلى عصر الدولة الوطنية. ونقلتها من هيمنة الدين والكنيسة ورجالها إلى سيادة العلم والبحث والفكر الحر. ونقلتها من الإقطاع وصراعات النبلاء واستغلال الفلاحين والفقراء إلى حيث ازدهرت المدن والمواصلات والتجارة والطبقة الوسطى ثم الثورة الصناعية وظهور الطبقة العمالية. ونقلتها من حكم الأقليات حول الملوك إلى حكم البرلمانات. وفي نهاية المطاف نقلت الديكتاتوريات المستنيرة أوروبا من الحق الإلهي للملوك إلى سيادة الشعب.
صحيح أوروبا سبقت مصر مثلما سبقت غيرنا من شعوب الأرض. لكن مصر لم تكن بعيدة عن أوروبا لا في الجغرافيا ولا في التاريخ. مصر كانت على مقربة من أوروبا سواء في تبادل المصالح أو في الاستعداد للحداثة. مصر بدأت مسيرتها الحديثة عند منتصف القرن الثامن عشر مع مشروع علي بك الكبير. ثم مع مشروع محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ثم مع ثورات المصريين في ثلاثة أرباع قرن من ثورة العرابيين 1881م إلى ثورة 1919م إلى ثورة 23 يوليو 1952م. حيث كانت مصر قد بلغت من التطور الرأسمالي ما يسمح بتطوير ديمقراطيتها الناشئة.
لكن مع 23 يوليو 1952م حدث التطور الأعظم. وهو ليس فقط الاستقلال عن الإنجليز. وليس فقط إلغاء الملكية. وليس فقط نهاية حكم سلالة محمد علي باشا. وليس فقط نهاية الطبقة القديمة من الرأسمالية الزراعية والصناعية. ولكن الأخطر من كل ذلك كان وما زال هو أن ثورة 23 يوليو 1952م نقلت ملكية مصر من سلالة محمد علي بحكم اتفاقية لندن 1840م إلى الجيش بحكم أنه هو من دفن سلالة محمد علي باشا كطبقة حكم إلى الأبد.
وكان ترجمة ذلك عمليا أن ثورة 23 يوليو 1952م نقلت مهام الحكم المباشر من السلالة الملكية ومن حولها من الأرستقراطية وأفندية الطبقة الوسطى البازغة إلى أبناء الفلاحين من ضباط الجيش المصري. وهذا أخطر تطور سياسي عرفته مصر منذ ألفين وخمسمائة عام.
…………………………………..
– كيف أعاق أبناء الفلاحين فرص التطور الديمقراطي؟
– هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.