تابعت -ومازلت أفعل- ما يحدث بشرق أوروبا منذ فبراير/شباط الماضي، واجتهدتُ كغيرى من الباحثين في محاولةِ تفسيرِ وفَهمِ ومن ثَم التنبؤ بما يمكن أن تحمله رياح المستقبل القريب من أحداث وتأثيرات على الوضع الدولي والأقليمي والمحلي. وأزعم أن كثيرًا مما توقعته قد حدث بالفعل، فآثرتُ المتابعة في صمت إلى أن طالعت منذ أيام قليلة تقريرٍ شديد الأهمية أصدرته “دويتشه فيلله” الألمانية بشأن ما يُطلق عليه “دوامة التضخم” أو “التضخم الحلزوني” Inflationary Spiral وهو ما يعنى (للتسهيل فقط على القارئ الكريم من غير المتخصصين) زيادة مستمرة في أسعار البضائع يصحبها رفعٌ للأجور حتى يستطيع أصحابها مواجهة زيادة الأسعار التي لا تلبث إلا قد شهدت مزيدًا من الارتفاع، فيضطر أصحاب الأعمال إلى القيام برفعٍ ثانٍ للأجور، وهكذا دواليك في دوامة متتالية تُعَمِق التضخم وتزيد من حدته ليصاب الإنسان في كل بقاع الأرض بنتائجه وتبعاته، وحتى إن كان بعيدًا على المستوى الجغرافي عن موقع الأحداث المُلتهبة بدفع من أثر الفراشة Butterfly Effect بعدما تلاشت حدود التجارة وتحويل الأموال بين المجتمعات.
وَرَدَ بتقرير “دويتشه فيلله” ذو العنوان الصادم “الألمان يخشون نهاية الإزدهار”، والذي انصَّب على بيان إثر الأزمة الأوكرانية على مستوى معيشة الشعب الألماني فيما يتعلق باستهلاك سلع الرفاه بدفعٍ من دوامة التضخم المتوالي، حَديثٌ مع مديرة لأحد المقاهي في برلين، والتى قالت إن أسعار كل شيء قد ارتفعت من الأكواب الورقية والأكياس والبن لمواجهة موجة الانقطاعات التي حدثت بسبب مشكلات سلاسل الإمداد، حيث توقعت مزيدًا من الارتفاع بالأسعار خلال الفترة المُقبلة، بما سيضع الفئات الأقل قدرة علي الإنفاق في مأزق حقيقي، فالبضاعة التي يقوم مقهاها ببيعها تعتبر -نسبيًا- بضاعة للنخبة التي يمكنها الصمود تجاه ما يحدث بالعالم، لكنها أبدت مخاوفها من عدم استمرار ذلك الصمود. لم تكن مبيعات القهوة في برلين -التي لا تقع بالقطع ضمن دائرة اهتماماتي “المباشر”- هي ما دفعني لاستكمال التقرير بأعلى درجات التنبه والتفحص، لكن ما دفعنى لذلك كان ما قد وَرَد به من نسبٍ للتضخم وما أبرزه من تصريحات بالغة الأهمية والخطورة في آنٍ واحدٍ لوزير المالية الألمانيالسيد “كريستيان ليندنر”.
وَرَدَ بالتقرير أن نسبة التضخم قد قاربت 8% مُقارنَةً بنفس الفترة من العام الماضي وفقًا لبيات رسمية من مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، وأن أسعار المستهلكين للطاقة قد ارتفعت بنسبة 38% وللمواد الغذائية بنسبة 11% بما ينذر بإنتهاء حقبة الرفاه/الازدهار في المجتمع الألماني.
الأهم والأخطر في هذا التقرير، كان إبرازه تصريحات وزير المالية التي جاء فيها بالنَص: “إن اهتمامي ينصَب على أننا قد نواجه موقفًا مُقلِقًا في غضون بضعة أسابيع أو أشهر. أمامنا من ثلاث إلي أربع سنوات، وربما خمس سنوات من النقص الذي ينبغي علينا إيجاد حَلٍ له”.
كانت النسب مفزعة وتصريحات الوزير أكثر إثارة للفزع في ألمانيا التي تتلقى من الضربات الإقتصادية المباشرة الواحدة تلو الأخرى بشكلٍ مُتتالٍ وسريع، فَنَقص السلع الذي أشار إليه يعني انخفاضًا في المعروض منها بما سيرفع من أثمانها لِتَدخُل دولة الرفاه/الإزدهار الألمانية في موجات عاتية من التضخم الحلزوني الذي سيلقى بظلال ثقيلة للغاية على المالية الألمانية والأوروبية والعالمية خصوصًا مع اقتراب شهور الشتاء قارس البرودة في ظل شُحِ مصادر الطاقة وارتفاع أثمانها حتى وإن انتهت الأزمة الأوكرانية قريبًا، وهو أمر مَحل شكٍ كبير، أمام ألمانيا تحديدًا ثلاث حلول كلها مُر: إما أن تضطر إلى قبول شروط مالية مجحفة فيما يتعلق بأسعار البضائع التي يأتي الغاز الروسي على رأسها لتدفع في سبيل ذلك أموالًا طائلة تتحملها -كدولة- مع إجراء تثبيت لأسعارالمستهلكين حفظًا لتوازنٍ مجتمعيٍ مطلوبٍ فيضيف ذلك على موازنتها أعباءً مالية زائدة تتسبب في عجوزات كبيرة، وإما أن تجد مصدرًا بديلًا لتلك البضائع بأسعار مقبولة بأن تلجأ لموردين آخرين وإن كان لهذا الحل تكلفة سياسية فادحة إلي جانب أثره المالي الضخم نسبيًا، وإما أن تسرع مع حلفائها لإيجاد حل سياسي سريع للأزمة الأوكرانية تضع الحرب بموجبه أوزارها، وهو أمر إن حدث فستستمر أثاره المالية لفترة قصيرة-متوسطة الأجل بسبب الإنفاق الضخم المتوقع على إعادة الإعمار في أوكرانيا والذي ستتحمل ألمانيا فيه النصيب الأكبر كما فعلت في أزمة ديون اليونان 2015.
وبعيدًا عن ارتفاع أسعار القهوة في برلين -وقريبًا منه في نفس الوقت باعتبارات أثر الفراشة-يأتى الحوار الوطني بالقاهرة كَفُرصةٍ سانحةٍ للبحث عن مساحات مشتركة بين القوى الوطنية المختلفة لمواجهة المخاطر المحيطة بمجتمعنا في عالم يموج بالمتغيرات السريعة والتحولات الهائلة. ولما كان الاقتصاد هو دافع تلك المتغيرات ومُحرك هذه التحولات بحكم كونه الضرورة الأولى لحياة البشر والمُحدد لِوَعيهِم، فأظن أن المسألة الإقتصادية ستكون هي صِنْو الحوار الذي ينبغي أن يُبنى على أساسٍ من الجدل المُتَفَهِم بعقلٍ مُنفَتِح هادئ لأجل الوصول إلى مستوى من التوافق الذي لا يُفنِى فيه نقيضٌ نقيضًا بصورة تسمح بتركيبٍ جديدٍ يعتمده الجميع، وبما يفتح الباب لإمكانات التطوير التشاركي في إطار موضوعي وبقواعد حاكمة من الدستور والقانون.
وأحسب أن التعاطي مع آثار الأزمة المالية العالمية وظلالها السياسية الإجتماعية والبيئية هو أمر مُلِحٌ لا يقتصر على اللجنة الاقتصادية وحدها بل يستدعي تضافر جهود جميع لجان الحوار الوطني النوعية الثلاث السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي إعتمدها مجلس أمناءه حتى الآن (وهي لجانٌ قابلةٌ للزيادة حسب نص المادة الثامنة عشر من اللائحة المنظمة لعمله)، وربما يمكن لمجلس الأمناء في هذا الصدد أن يقومبتشكيل فريق عمل مشترك Task Force من أعضاء مُختارين من تلك اللجان يختص بأعمال التنسيق فيما بينها لأجل ضمانترابط وتكامل طروحاتها وتوصياتها في سياقٍ واحدٍ مُنتظم يأخذ بالاعتبار مبادئ إدارة المخاطر المُتعارف عليها دوليًا بشأن التعاطي مع آثار الأزمة المالية العالميةالتي شملتنا بدفع من أثر الفراشة الذى أتانا مُحَمَلًا بدخان البارود في شرق أوروبا.