استقر مؤرخو التاريخ الحديث على تسمية الجمهورية المصرية الأولى باسم “دولة يوليو”، نسبة إلى حركة الضباط الأحرار في الـ 23 من يوليو عام 1952 بينما يطلق مصطلح “دولة يونيو” أو الجمهورية الثانية على الحقبة التي تلت 30 يونيو/حزيران عام 2013. ومن ثم فإن دولة يوليو هي الدولة التي قامت على أكتاف جمال عبد الناصر بعد إقصاء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية. كذلك فإن دولة يونيو قد قامت على أكتاف عبد الفتاح السيسي بعد إقصاء محمد مرسي إثر مظاهرات شعبية عارمة استجاب لها الجيش المصري في الثالث من يوليو/تموز عام ٢٠١٣، وبمشاركة عدد من القوى السياسية والأحزاب وبمباركة الأزهر والكنيسة المصرية متمثلة في البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية، الذي ظهر كشريك أساسي في خارطة طريق الدولة المصرية بعد 30 يونيو/حزيران لتتأسس بالتوازي مع دولة يونيو – السيسي، كنيسة يونيو – تواضروس الثاني في مقابل دولة يوليو – ناصر، وكنيسة يوليو – كيرلس السادس.
معادلة الكنيسة والدولة في النظام الاجتماعي
كباحثة متخصصة في شؤون الكنيسة المصرية، فلابد من إرساء القواعد وصك المصطلحات كطريقة للفهم. ومن ثم فإن أولى تلك القواعد إن الكنيسة المصرية كمؤسسة لا يمكن فهم علاقاتها وتحولاتها وصيرورتها التاريخية دون ربطها بالراهن في التاريخ المصري المعاصر. حتى وإن كان السيد المسيح قد أسس بتعليمه فصل الديني عن السياسي. ذلك حين قال “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، فإن تلك المقولة لا تتسق مع العلوم الاجتماعية التي تحاول مناهجها فهم الظواهر بشكل كلي دون نزعه من سياقه التاريخي أو الديني أو السياسي أو الاقتصادي باعتبار الكنيسة مؤسسة تخدم الإنسان. ومن ثم فإن علاقاتها وتفاعلاتها تتأثر وتؤثر في حركة الإنسان نفسه في مجاله ومحيطه العام.
ولعل أبرز هذه العلاقات والتحولات هي علاقة الكنيسة بالدولة. وهو أمر لا يقتصر على الواقع الشرقي فقط. بل هي ظاهرة اجتماعية واسعة يختلف مداها وتأثيرها حسب حالة كل دولة. ولكن الثابت فيها إن الكنائس ساهمت، أثرت وتأثرت في تغيير تاريخ الدول وربما تاريخ العالم نفسه.
ماكس فيبر: البروتستانتية عززت الرأسمالية
يرى عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر إن البروتستانتية قد عززت الرأسمالية. ويؤكد في كتابه المؤسس “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” إن اعتناق البروتستانتية في بعض المدن الألمانية قد أسهم في زيادة الإنتاج. ذلك لأنها ليست كالكاثوليكية التي تميل إلى ترك الشهوات والملذات. كذلك فإن البروتستانتية تقدس العمل كجزء من العبادة. ما يؤدي إلى تقوية الاقتصاد مقابل الكاثوليكية التي تجعل خدمة الرب في مكانة أسمى من الإنتاج الرأسمالي.
وكذلك، فإن نومان يؤكد أن الكنيسة اللوثرية قد لعبت دورًا في تأسيس اقتصاد الرخاء في المجتمع السويدي. حيث لعبت تاريخيًا أدوارًا فارقة في القرن التاسع عشر، حين تولى الأساقفة مناصب مهمة في الحكومة.
تأسيسًا على ذلك، فإن علاقة الكنيسة بالدولة ليست ظاهرة مصرية وإن كان للحالة المصرية خصوصيتها في هذا الشأن. حيث تفتق ذهن عمرو بن العاص إلى ذلك، إبان فتحه لمصر. وهو الذي أعاد البابا بنيامين الأول البطريرك القبطي إلى كرسيه بعد أن كان منفيًا مبعدًا عنه فحظي بمباركته وتأييده.
إزاء هذه الحادثة التاريخية شديدة الدلالة يمكننا أن نفهم إن علاقة البابا القبطي بحاكم البلاد سوف تنعكس بالتبعية على علاقة الكنيسة بالدولة المصرية.
هل كان الضباط الأحرار يؤمنون حقًا بالمواطنة؟
لم يكن مصطلح المواطنة قد ترسخ في زمن الضباط الأحرار أي في مطلع الخمسينيات وبعد مرور ما يقرب من عقد على الحرب العالمية الثانية. ولكن غياب المصطلح عن المراجع العلمية لا يعني العجز عن قياس الممارسة السياسية. بينما تستلزم الإجابة عن سؤال الضباط الأحرار والمواطنة النظر إلى التركيبة الأيدولوجية لهؤلاء الضباط الذين تنوعت انتماءاتهم ما بين اليساري الماركسي واليميني الإسلامي. ومن ثم لا يمكننا الوقوف على موقف أيدولوجي موحد لجماعة سياسية ليس لها أيدولوجيا محددة.
يمكننا إذًا أن نقيس موقف عبد الناصر من قضية المواطنة من خلال علاقته بالبابا كيرلس السادس بابا الإسكندرية آنذاك، وإن كان الرئيس ناصر قد تمتع بعلاقة شخصية مع البطريرك القبطي. إلا إن تلك العلاقة أسست ما يسمى بالنظام الملي الجديد. النظام الملي الجديد، هو نظام استكمل فيه عبد الناصر ما كان سائدًا في عصر الدولة العثمانية التي اعتبرت غير المسلمين مجرد جالية أجنبية ضمن رعايا الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، فصدرت عدة قوانين تنظم حياتهم داخل تلك الدولة مثل الخط الهمايوني الخاص ببناء الكنائس.
لقد اعتبر ناصر أن البابا كيرلس السادس مندوبًا عن الأقباط ومتحدثًا باسمهم. ورغم إن أزمة بناء الكنائس قد بدأت أولى بشائرها في عصره، فإن الرئيس اكتفى بأن يعد البابا ببناء عشرين كنيسة سنويًا بشكل شفهي. ذلك دون أن يصدر قانون أو مرسوم رئاسي ينظم تلك المسألة بالتوازي مع تبرع الرئيس شخصيًا لبناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وحضور الرئيس افتتاحها رسميًا.
دولة يونيو.. البابا والرئيس في معادلة الاصطفاف
أما في دولة يونيو 2013 فإن معادلة البابا والرئيس قد اختلفت كليًا. فقد شكل الأقباط قوة ضاربة في المظاهرات التي أطاحت بالرئيس المعزول محمد مرسي. وكذلك ظل المسيحيون رقمًا فارقًا في معادلات الرئيس عبد الفتاح السيسي الانتخابية. إذ شكل حكم الإخوان تهديدًا أيدولوجيًا واضحًا للوجود القبطي التاريخي في مصر، بالنظر إلى تراث وأدبيات جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك لممارسات التيار الإسلامي في سنة حكمه للبلاد.
لم يجد البابا تواضروس الثاني أي مفر من تأييد دولة يونيو. وفي المقابل لم تدخر تلك الدولة جهدًا في تأسيس علاقة جديدة مع الكنيسة بعد سنوات من الشقاق والجراح خلفتها علاقة البابا شنودة – السادات. وكذلك ما رسبته علاقة العصا والجزرة التي اتبعها الرئيس مبارك مع البابا شنودة الثالث، بعد إعادته لكرسيه قادمًا من تحديد إقامته التي أقرها السادات قبل مقتله.
كذلك، فإن قضية المواطنة قد صارت أكثر إلحاحًا على الدولة المصرية في ظل ضغوط دولية حقوقية تجعل من الأقباط كارتًا سياسيًا يضغط على الحكومات المتعاقبة. ذلك بعدما شكل المسيحيون المصريون لوبيًا معاديًا للدولة في المهجر وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصيصًا في عصري السادات ومبارك، عملت الدولة الجديدة على احتوائه في مواجهة الإخوان وعبر اتباع سياسات تقلل من النَفس الطائفي في الشارع المصري، فصدر عام 2016 أول قانون لبناء الكنائس في مصر قد طالته الكثير من الملاحظات. ولكنه خطوة لم تكن في حسابات دولة يوليو. بالإضافة إلى اتجاه أجهزة الردع لتوقيع عقوبات مشددة في حوادث القتل على الهوية التي كانت تمر بلا حساب في زمني السادات ومبارك.
وفق هذه المعطيات يمكننا أن نفهم إن كنيسة يونيو قد قامت على تصحيح أخطاء كنيسة يوليو وسط مشهد سياسي وتاريخي متغير يجعل من الكنيسة الحالية لاعبًا أساسيًا في القوى الاجتماعية المصرية.