عدلت لجنة مستقلة برئاسة الفقيه الدستوري الصادق بلعيد الدستور التونسي الذي وضع في 2014، واعتبره كثيرون سبب أزمة النظام السياسي، ثم أجرى الرئيس قيس سعيد تعديلات على النص المقترح وأصبحت تونس أمام نص دستوري جديد ينتظر الاستفتاء عليه في 25 يوليو/تموز المقبل.
وقد تضمن مشروع الدستور الجديد مقدمة و142 فصلا موزعين على 10 أبواب. أما دستور 2014 فتضمن مقدمة و149 فصلا موزعين على 10 أبواب، كما نص مشروع الدستور الجديد على أنه لم تعد هناك سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، واعتبرها مجرد وظائف، وهو أمر غير معتاد في دساتير العالم.
دستور الأزمة
خرج دستور 2014 مسكونا بالخوف من تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات وكمحصلة للتوازن بين مختلف القوي السياسية، وهو ما أدى إلى خلق نظام يقود سلطته التنفيذية “رئيسين” (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء) فانطبق عليه المثل المصري الشهير “المركب اللي فيها ريسين تغرق” وهو ما جري على مدار 7 سنوات وأدت إلى إصابة النظام السياسي بالشلل وعدم القدرة على الإنجاز.
وبدا لافتا أن الباب الرابع من دستور 2014 الخاص بالسلطة التنفيذية جاء في عدد صفحات محدود نسبيا، وكأن هناك خوف من التأكيد على دور السلطة التنفيذية حتى لا يتهم من كتبوا الدستور بفتح أبواب الاستبداد، ونسي المشرع أن هذه السلطة مطالبة بأن تنجز وتنمي البلد في ظل رقابة سلطة تشريعية قوية ومنتخبه.
لقد ولد الدستور القديم بعيوب مرحلة “ما بعد الثورة” التي اعتبرت أن مواجهه الاستبداد تكون بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتحصين البرلمان حتى وضعت صلاحيات الرئيس في منازعة مع رئيس الحكومة، وفتحت الباب لتغول رئيس البرلمان على صلاحيات رئيس الجمهورية (المحدودة أصلا) فصال وجال راشد الغنوشي رئيسالبرلمان النحل في أكثر من عاصمة عربية وإقليمية وخاصة تركيا لدعم محور الإسلام السياسي في المنطقة.
ومنذ الفصل 71 في باب السلطة التنفيذية اتضح أن تونس اختارت منظومة “المركب ذات الريسين” فنصت على التالي: “يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة”. وهو أمر كرس منذ البداية التساوي بينهما وفتح باب الصراع بين الرئيسيين، وهو ما حدث بين رئيس الوزراء الأسبق يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، وتكرر مع الرئيس قيس سعيد ورئيس حكومته السابق هشام المشيشي.
كما لم يعط الدستور القديم الحق لرئيس الجمهورية أن يعين الحكومة أو حتى وزراء السيادة ونص الفصل 89 على: “تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتاب دولة يختارهم رئيس الحكومة، وبالتشاور مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتيْ الخارجية والدفاع”. أي حتى مجال السياسة الخارجية والدفاع الذي أعطي فيه لرئيس الجمهورية التونسية بعض الصلاحيات سحب منه حقه في اختيار وزيري الخارجية والدفاع وأعطي لرئيس الحكومة الذي يكتفي بالتشاور معه.
ويلاحظ أن معظم الفصول المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية في دستور 2014 جاءت محدودة وباهته، وبدت وكأنها رد فعل لمناخ الخوف من عودة الاستبداد، وهو تخوف مشروع وقتها ولكنه لم ير مخاطر بناء نظام بلا رأس وغير قادر على الإنجاز ويعيش على المعارك السياسية الصغيرة والمحاصصة والموائمات ودون أي قدرة على الإنجاز والتنمية السياسية والاقتصادية.
تحديات أمام الدستور الجديد
النص الدستوري الذي سيذهب التونسيين للتصويت عليه في 25 يوليو القادم سينقل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسيوهو تحول محمود ومطلوب ولنا أن نشير أن حركة النهضة وباقي تيارات الإسلام السياسي التي رفضت هذا التحول في تونس سبق وأن رحبت به في تركيا حين قرر الرئيس أردوجان الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي.
ومع ذلك فإن الدستور الجديد لا يخلوا من بعض العيوب ومن رطانة لا مبرر لها بجانب إنه يواجه تحديات كبيرة تتعلق بأداء الرئيس نفسه وفقدانه لكثير من الحلفاء قبل الخصوم.
فمثلا سنجد في مقدمة الدستور الجديد جملة: “كان لا بد من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثّورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ” وهي جملة مثل غيرها فيها كثير من المبالغة ولا مكان لها في نص دستوري يتسم بالرصانة والبعد عن الشعارات.
ومع ذلك تضمن الدستور الجديد فصول جديدة تمثل تحول إيجابي في النظام السياسي التونسي فقد منع مشروع الدستور الجديد في فصليه 61 و62 على نواب البرلمان القيام بوظائف أخرى بمقابل مادي خلال فترة عضويتهم النيابية. كما سمح بسحب الوكالة من النائب “إذا أخلّ بتعهداته وفق شروط يضبطها القانون”.
ومنع مشروع الدستور الجديد التحاق النواب إلى كتل أخرى إذا قدموا استقالتهم من كتلهم الأصلية بهدف منع ما عرف في تونس “بالسياحة الحزبية”. ولم يتضمن دستور 2014 هذا الفصل، مماسمح بتنقل نواب من البرلمان السابق من كتل إلى أخرى.
وقد أقر مشروع الدستور الجديد تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي مع صلاحيات أكبر للرئيس. وجاء ذلك في باب الوظيفة التنفيذية حيث نص الفصل 87 على أن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة، فيما نص الفصل 100 على أن رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية.
وأتاح الفصل 101 من مشروع الدستور الجديد للرئيس تعيين رئيس الحكومة وباقي الوزراء بعد موافقة البرلمان كما هو الحال في كل النظم الرئاسية، في حين نص دستور 2014 على تكليف رئيس حكومة من الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان.
وينص مشروع الدستور الجديد على “تسهر الحكومة على تنفيذ السياسات العامة للدولة طبقا لتوجهات الرئيس”.
سيسمح الدستور الجديد في حال موافقة الشعب التونسي علية للرئيس بأن يصبح رأس السلطة التنفيذية وأن يكون قادرا من الناحية النظرية على إجراء الإصلاحات المطلوبة، وإن اعتبار البعض النظام الرئاسي يعني ديكتاتورية أمر لا أساس له من الصحة لأن النظام البرلماني أثبت فشله الذريع في تونس ومعظم بلاد العالم الثالث.
صحيح أن مخاطر الانحراف بالسلطة يظل قائمة في النظم الرئاسية، إلا أن قيمة التجربة التونسية وأهميتها تكمن في تعدد “الفواعل السياسية” وعدم قدرة الرئيس على إغلاق المجال العام وبقيت حتى اللحظة الأصوات المعارضة والمؤيدة تتصارع بالكلمة والحجة.
الدستور الجديد في تونس خطوة من الناحية النظرية في الاتجاه الصحيح، ويبقي محك النجاح في أداء الرئيس وأداء المعارضة، ومدى قدرتها على تقديم بديل لرئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية القادمة، حتى تدور عجلة بناء الديمقراطية ودولة القانون.