في اليوم التالي مباشرة لنشر مقالنا السابق هنا في مصر 360 جاءنا بالأنباء من لم نزود.

كان موضوع المقال هو عملية إعداد يائير لابيد رئيس الوزراء الجديد (الانتقالي) في إسرائيل لكي يصبح إسحق رابين الثاني، الذي ينهي مع حلفائه هيمنة اليمين القومي /الديني، تحت قيادة بنيامين نتانياهو، زعيم حزب الليكود، ومن ثم يحل معيار الأمن والمنفعة الاقتصادية محل الإيديولوجية القومية التوراتية في توجيه السياسة الإسرائيلية نحو القضية الفلسطينية، ونحو بقية الدول العربية، وكما نعرف فإن منطوق تلك الإيديولوجية هو إقامة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، إذ كيف يكون لليهود حق في تل أبيب، ولا يكون لهم حق في يهودا والسامرة أرض التوراة وأنبيائها وملوكها؟! بتعبير مناحيم بيجين مؤسس التحالف القومي الديني، الذي يقوده حاليًا نتانياهو، كما سبق القول.

مقتضى هذا القول عدم التنازل عن شبر من أراضي الضفة الغربية، أي يهودا والسامرة، وبالتالي مقاومة حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، ثم (الترانسفير) أي ترحيل سكان الضفة إلى الأردن، التي هي -في تعريف بيجين ونتانياهو وجميع الليكوديين والمتدينين- الوطن القومي للفلسطينيين، كما يفسرون وعد بلفور.

نعود إلى أولئك الذين جاؤونا بالأنباء من داخل إسرائيل نفسها حول أولوية مشروع السوق الشرق /أوسطية المشتركة حتى على مشروع الناتو العربي، والتي سبق أن روج لها تحت هذا المسمى، وقدمها شيمون بيريز وزير الخارجية في حكومة رابين، التي يتهيأ لابيد وحلفاؤه أو يُهيَئون لإحياء تراثها، وذلك إذا حصلوا على الأغلبية الكافية في انتخابات نوفمبر المقبل.

أول هؤلاء هو أفيجدور ليبرمان وزير المالية في حكومة لابيد الحالية، الذي بالرغم من أنه يميني متشدد فإنه وحزبه (البيت اليهودي) انسلخ عن التحالف القومي /الديني، رفضًا لمشاركة الأحزاب الدينية، بحكم علمانيته، كما يدعي!

في تصريح له قبل أيام من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإسرائيل (الداعمة لنسخة لابيد من إسحق رابين) قال ليبرمان بالحرف الواحد: “يأمل أن تؤدي زيارة الرئيس بايدن لإسرائيل والسعودية إلى بدء مشروع السوق المشتركة في الشرق الأوسط، لأن الوقت قد حان لإنشاء هذه السوق، التي تضم إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين والأردن ومصر، لترتبط معًا بطريق سريع وسكة حديد عابرة للشرق الأوسط كله، فهذا هو التحدي الكبير هنا، والذي سيغير الواقع من البداية إلى النهاية سواء في المجال الأمني، أو المجال الاقتصادي”.

وفي اليوم نفسه كتب الخبير الأمني سيث ج فرانتسمان مقالًا مطولًا في صحيفة جيروزاليم بوست بعنوان: هل تأخذ إيران مشروع الناتو العربي على محمل الجد؟ ينبه فيه إلى أن تبادل المعلومات، وبيع الأسلحة والتعاون الفني في مجال الدفاع الجوي شيء، وبناء حلف عسكري سياسي ضد إيران شيء مختلف تمامًا، لن تشهده المنطقة في مستقبل منظور، بما يعني أن أولوية إسرائيل في زيارة بايدن يجب أن تكون في اتجاه آخر. وبالطبع فإن التصريحات والبيانات توالت في هذا الاتجاه في أثناء وجود الرئيس الأمريكي في المنطقة، وأفترض أن القراء المهتمون تابعوها.

بعد أيام وفي ختام قمة جدة الأمريكية العربية التي روِّج أنها ستدشن الناتو العربي نفى فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودية وجود شيء من الأصل اسمه الناتو العربي. ومن قبله قال وزير الخارجة المصرية المعنى نفسه في العاصمة البحرينية في مؤتمر صحفي مع وزير خارجية البحرين، لكن بصيغة أن الموضوع ليس على مائدة المفاوضات حاليًا. ما يشير إلى درجة عليا من التنسيق المصري السعودي، وكان الوزير السعودي قد قال أيضًا إننا أوضحنا لإسرائيل أن الأمن الإقليمي في مفهومنا هو إقامة الدولة الفلسطينية، وهنا يأتي مغزى الدور المستقبلي ليائير لابيد، إذا تكللت جهود دعمه بالنجاح.

علينا الآن بحث نقطتين، هما أولًا: لماذا تولي إسرائيل غير الليكودية هذه الأولوية للسوق المشتركة في المنطقة؟ وثانيًا: لماذا يتوقف إنفاذ هذه الأولوية على فوز يائير وحلفائه في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، بحيث يقضي تمامًا على المستقبل السياسي لبنيامين نتانياهو ومعسكره القومي الديني؟

نبدأ من النقطة الثانية، فكما أشرنا توًا فإن أولوية هذا المعسكر الأخير هي إسرائيل الكبرى، وهو ما يستلزم ضم الضفة الغربية، وترحيل سكانها ولو بعد حين حتى لاتتحول إسرائيل إلى دولة مزدوجة القومية، أو إلى نظام للفصل العنصري رسميًا ودستوريًا، وبالطبع فإن ذلك يحرج الحكومات العربية بشدة أمام شعوبها، ويهدد استقرار بل بقاء بعضها مثل الأردن، ويشعل انتفاضات فلسطينية متوالية، ومن ثم يصبح من المستحيل استمرار التطبيع، فما بالنا بسوق مشتركة، ولا برهان أقوى على ذلك من أن المشروع الذي طرح لأول مرة عام 1995 قد توقف، بل توقف الكلام فيه بمقتل رابين، وسيطرة نتانياهو والليكود على السياسة الإسرائيلية.

فإذا اكتمل سقوط الليكود، وحصل يائير وحلفائه على أغلبية تكفي لتشكيل حكومة مستقرة، تتخلى عن مشروع إسرائيل الكبرى، وتغلب الأمن والاقتصاد على الإيديولوجية القومية والدينية، سيكون من اليسير إحياء المشروع، بتحقيق الشرط الأساسي له وهو تسوية الصراع مع الفلسطينيين من خلال حل الدولتين (بالشروط الإسرائيلية المعروفة)، وعندئذ تقام الكونفيدرالية الأردنية الفلسطينية، التي تحصل على عضوية السوق المشتركة المقترحة، ولا يبقى أمام الدول العربية مانع مقبول أمريكيًا من الانخراط في المشروع.

أما لماذا تولي إسرائيل غير الليكودية هذا المشروع تلك الأولوية، فالأسباب هي ضيق السوق الإسرائيلي على الطاقة التكنولوجية المتطورة جدًا والإدارية الناجحة جدًا جدًا للاقتصاد الإسرائيلي، فضلًا عن القدرة الهائلة على جذب الاستثمارات من الخارج، لاسيما من الرأسماليين اليهود في أمريكا والعالم، وهي القدرة التي لا يحدها سوى ضيق السوق، وعلى سبيل المثال فإن إسرائيل تستطيع بسهولة تحويل اقتصادها من إنتاج التكنولوجيا المتقدمة مدنيًا وعسكريًا فقط، إلى الصناعات الثقيلة المتطورة أيضًا، كالطائرات والسفن والقطارات والسيارات والآلات بمختلف أنواعها، بشرط وجود سوق للتصريف والاستيعاب، وهذا توفره سوق مشتركة مع كل جيرانها، تبدأ بالدول التي ذكرها ليبرمان، ثم تمتد إلى كل دول المشرق والمغرب والخليج.

هذا هو المردود الاقتصادي المباشر على إسرائيل من السوق المشتركة، وبالطبع فهذا له نتائجه السياسية التي أشار إليها ليبرمان بتركيز، بقوله إن هذه السوق ستغير الواقع في المنطقة من البداية إلى النهاية، بما في ذلك المجال الأمني، وتفصيلًا لذلك فنحن نعرف أن أي سوق مشتركة تفرض حق مواطني كل دولة عضو في التنقل والإقامة والتملك والعمل وتحويل الأموال داخل كل الدول الأعضاء، لتكون إقامة أي نسبة من الفلسطينيين وعملهم وتملكهم في لأراضي أية دولة عضو تحركًا طبيعيًا وليس ترحيلًا، وبتحسن الأحوال المعيشية للفلسطينيين الباقين في الشطر الفلسطيني من الكونفيدرالية مع الأردن، مع ضم الكتل الاستيطانية الكبرى يتحقق الأمن، ويبطل مفعول القنبلة الديمجرافية التي تهدد الطابع اليهودي لإسرائيل، كل ذلك بالإضافة إلى أن إسرائيل بتفوقها التكنولوجي والإداري والسياسي (الديمقراطي) ستكون هي موتور تلك السوق، أسوة بالوصف الذي كانت تحظى به الشراكة الألمانية الفرنسية في السوق الأوروبية المشتركة، ثم الجماعة الأوروبية فالاتحاد الأوروبي حاليًا.

ليس في هذا السيناريو شيء من الخيال أو عدم الواقعية، إلا إذا حدث ما يثبت مرة أخرى أن الشرق الأوسط منطقة شديدة التقلب والاضطراب، بحيث يستحيل توقع متى وأين تظهر المعوقات، كأن تتحفظ مصر أو السعودية، كما لا يستطيع أحد توقع متى وأين تنفجر الكوارث، سواء كانت اغتيالات أو حروب أو انقلابات أو ثورات.

ماذا ستفعل مصر، وماهى الفرص البدائل المتاحة لها أمام ذلك السيناريو.. نفكر معًا حتى المقال التالي.