لأننا صرنا نعرف إلى حد كبير آلية عمل السوشيال ميديا، فلم يكن غريبا، حين بث التلسكوب “جيمس ويب” صوره المذهلة الملتقطة للأعماق السحيقة – مكانيا وزمانيا – للكون، أن اندلع النقاش والجدل، والفخر والتشكيك، وكذلك، استدعاء أقوال رجال الدين، إما للاعتصام بها، أو للسخرية منها.

من بين تلك الآراء الأخيرة، فيديو تم تداوله على نطاق واسع، يظهر فيه الشيخ الشعراوي، في إحدى حلقات برنامجه الشهير، الذي كان يقدم فيه خواطره عن القرآن، وتفسيره لآياته. في الفيديو المتداول، قصير المدة، يقلل الشيخ من أهمية علوم الفضاء، عبر القول بأن من اخترع رغيف العيش، بل من اخترع منديل الزكام، أفضل وأكثر فائدة من ذاك الذي نزل على القمر.

بالبحث عن فيديو أطول قليلا للمقطع نفسه، تبدو فكرة الشعراوي أوضح ويتضح فيها بعدها الديني، فهو يقول، إن الوصول إلى القمر، الذي لا يبعد عنا سوى ثانيتين ضوئيتين، استغرق بمركبة الفضاء ثلاثة أيام، فما بالك بالوصول إلى الشمس، بل الخروج من المجموعة الشمسية أو من المجرة، سوف يتطلب ذلك أجيالا وأجيالا تولد داخل المركبة الفضائية، وأقواتا تكفي راكبيها مليون عام، ويعني ذلك، حسب رأي الشعراوي، أن بذل الجهد في هذا الأمر (السفر عبر الفضاء) لا طائل منه ولا جدوى، والأفضل أن نعتبر ذلك الأمر “غيبا بالنسبة لنا”، لأن “اجتراء العقول على الأقرب منها دليل على استحالة الوصول إلى الأبعد”.

والواقع أنه لا يمكن تجاهل أن الشيخ الشعراوي، في نقاشه للمسألة الفضائية، أكثر عقلانية ممن نراهم اليوم ينكرون علوم الفضاء برمتها، وينكرون كروية الأرض، ويصفون صور وكالة ناسا بأنها من ألاعيب الفوتوشوب، فعلى الأقل، يتحدث الشعراوي هنا بلغة الثواني الضوئية والمجرات والكواكب والمراكب الفضائية والمجموعات الشمسية، إن ذلك، رغم النتيجة غير العلمية التي خلص إليها، يضع الحوار  على الأقل في نقطة انطلاق يمكن منها مناقشة الجدوى، وتفسير الغامض، دونما حاجة إلى إعادة اكتشاف الذرة.

وبالطبع، فإن ما غاب عن الشيخ الشعراوي هنا، فضلا عن إمكانية القفزات التي يستطيع أن يحققها العلم بسبل يخترعها أو يكتشفها كل يوم (فقد صرنا نعبر المحيط بالطائرة في بضع ساعات بدلا من الشهور التي كانت تستغرقها السفن، وكذلك قد نكتشف في المستقبل طرقا أسرع للسفر  عبر الفضاء أو اكتشافه من مكاننا)، غاب عنه ما لم يعلمه من أن تطبيقات العلوم أهم في كثير من الأحيان من تحقيق الهدف الرئيسي لهذه التجربة أو تلك، فعن طريق البحث العلمي يتم اكتشاف آلاف الجوانب الأخرى للموضوع الذي يتم بحثه، وعن طريق علوم الفلك والفضاء تم تطوير مختلف الفروع العلمية، بدءا من الحواسيب وتقنيات الملاحة وعلوم الطقس والجيولوجيا، وليس انتهاء بتقنيات الاتصالات والبث التلفزيوني والأقمار الصناعية، مرورا بالأجهزة الطبية من الرنين المغناطيسي إلى طب الأسنان ودراسة تفاعلات الجسد البشري، من دون إغفال تطور التصوير التقليدي والإشعاعي، وبالطبع صناعة الطيران وتطوير الصواريخ، فضلا عن اختبار وتطوير نظريات الفيزياء والرياضيات وغيرها من المجالات والمنتجات، ومنها جهاز الهاتف المحمول الذي تقرأ منه هذا المقال.

وبالطبع، فإننا لا نلوم الشيخ الشعراوي على عدم معرفته بكل ذلك، والتي أدت إلى قوله بأن من صنع الرغيف أفضل ممن صعد إلى القمر، وإنما قد نلومه على تحدثه –كعادة رجال الدين– فيما لا يعرفه، وإطلاقه الأحكام القاطعة فيه، أما الملام الأكبر، فيقع بلا شك على الدولة، التي منحت الشيخ أوقات الذروة الأفضل عبر شاشتها التلفزيونية الرسمية، ليخاطب الملايين لسنوات طويلة ويزرع فيهم آرائه “العلمية” التي هي في أفضل الظروف، تعاني نقصا شديدا في العلوم الطبيعية.

لقد وُضع الشعراوي في الشاشة الرسمية، كما دُرس ف مدارسنا التي اعتمدت الحفظ والتلقين منذ تأسيسها، وافتقرت – حتى اليوم؟ – إلى تنشئة العقل النقدي والتفكير العملي، وكلاهما أهم من حفظ معلومات تُنسى فور سكبها في أوراق الامتحانات، والأخطر من نسيانها أنها لم تكن يوما حصنا للعقل من جحيم الخرافة.

لقد رحل الشعراوي منذ ربع قرن، فينما تزداد الفجوة المعرفية بيننا وبين العالم – لا الغرب فحسب – بقدر سرعة توسع الكون وابتعاد المجرات، وإن لم نبدأ اليوم باحترام العلم، فلن نصل أبدا.