91 عامًا عاشها الدكتور نصحي عبد الشهيد اللاهوتي  مكرسًا حياته لتراث الكنيسة القبطية وكتابات آبائها الأوائل، بعد أن زاغت بين أفكار البروتستانت الوافدين والكاثوليك المبتعثين إلى مصر. ذلك الطبيب الشاب الذي ظهر في نهاية الخمسينيات ليأخذ على عاتقه مهمة ترجمة تراث الآباء القبط ونقله من اللغة اليونانية إلى العربية، وظل هكذا حتى وافته المنية هذا الأسبوع، ممسكًا بكتاب يوناني، وكأنه قرر أن يبعث على ما عاش لأجله طوال حياته.

يسرد مارك فلبس الباحث الأرثوذكسي، سيرة الدكتور نصحي عبد الشهيد، فيقول: في مرحلة لاحقة من تطور الحركة الفكرية داخل القبطية، وفي بداية الخمسينيات، ظهر الكتاب المؤسس “حياة الصلاة الأرثوذكسية” للأب متى المسكين عن دير السريان. وقد أشعل هذا الكتاب شمعة لا ينطفئ لهيبها إلى الآن. أول ما ألهبته كان قلب طالب شاب للطب، تأثر بفكرة وجود ينابيع أولى نقية للكرازة المسيحية تُحاكي الوعي الأول للكنيسة.

كيف تغيرت حياة عبد الشهيد بعد قراءة كتاب متى المسكين؟

يروي مارك إن الدكتور نصحي عبد الشهيد كان قد انشغل بالكتاب، ليلتقي بالأب متى المسكين لأول مرة عام 1957 ويرشده الأخير لقراءة مجموعة “آباء نيقية وما قبل نيقية وما بعد نيقية” The Ante-Nicene Fathers، Nicene and Post-Nicene Fathers فأرسل في طلب 38 مجلدًا بسعر خمسة وخمسين جنيهًا مصريًا على ثلاث مراحل. إذ لم يسمح مرتبه الضئيل كطبيب بشرائها دفعة واحدة.

بعدها بعامين يؤسس دكتور نصحي بيت التكريس الذي يحظى برعاية الأب متى المسكين، ليبدأ رحلته مع ترجمة ونشر كتابات الآباء من مصادرها باللغات الأوروبية الحديثة، إلى أن تعلَّم اليونانية القديمة بالجهود الذاتية على يد الأستاذ صموئيل كامل، وسعى للحصول على بعثات في اليونان لإيفاد الباحثين لدراسة كتابات الآباء ومن ثمَّ ترجمتها للغة العربية.

المرحلة الثانية في حياة دكتور نصحي عبد الشهيد -وفقًا لمارك- كانت حين عاد من اليونان. إذ بدأ د. نصحي –العلماني المُكرَّس- إجراءات إشهار مؤسسته الجديدة في فبراير/شباط 1979 وأعلن عن هدفها: “ترجمة ونشر كتابات الآباء من اللغة اليونانية واللغات الأخرى على اللغة العربية”.

بدأ في إيفاد المبعوثين بالجهود الذاتية بداية من العام 1980، بمساعدة المطران دميانوس رئيس دير سانت كاثرين والبروفيسور أغوريدوس، حسب شهادته هو شخصيًا في ذكرى مرور 30 عامًا على إنشاء المؤسسة، التي استمرت في عملها بلا انقطاع سواء على مستوى إيفاد المبعوثين أو ترجمة ونشر كتابات الآباء والدراسات عنهم طول تلك السنوات الثلاث والأربعين.

عما يمثله الدكتور نصحي عبد الشهيد للكنيسة. يقول مارك: على مستوى الفكر، يمثِّل عبد الشهيد الوعي البِكر بالرسالة المسيحية الأولى، والسعي نحو إعادة ضبط الفكر القبطي على بوصلة كتابات الآباء، أي على المصادر المسيحية الأولى. ومن ثمَّ إخراجه من حالة التلفيق والتشوش والافتقار إلى أي نقله من حالة الوعي الزائف إلى الوعي الحقيقي.

فقد كانت استراتيجية د. نصحي تقوم على العمل الصامت وفي هدوء، بلا رغبة في استثارة الجدالات العقائدية، والعمل الحثيث نحو تقديم النصوص المترجمة في صورتها الخام للقارئ، حتى يتعرف بنفسه على فكر الآباء. ثم لاحقًا تم إصدار دورية الدراسات الأبائية للتعليق على النصوص والاشتغال عليها وتقديمها في صورة دراسية أكاديمية.

كيف بعث عبد الشهيد الروح في الدراسات اللاهوتية القبطية؟

أما الدكتور جورج فرج الباحث بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية وأحد الذين عملوا مع دكتور نصحي عبد الشهيد عن قرب. يقول: إن الدكتور نصحي عبد الشهيد قد أسس بيت التكريس الذي خرج الكثيرين من آباء الكنيسة المعاصرين مثل الأنبا موسى أسقف الشباب والأنبا بيمن الأسقف العام الراحل وبعد وقت اتجه عدد غير قليل من شباب بيت التكريس إلى الأديرة القبطية للرهبنة. فلم يعد بيت التكريس له بريق، ولكن كان الدكتور نصحي حريصًا على وجود اسم البيت فأصدر كتابًا شهريًا باسم بيت التكريس ظل مستمرًا في الصدور لسنوات طويلة.

وأضاف فرج: بعد انتهاء مشروع بيت التكريس بدأ الدكتور نصحي في التفكير بابتعاث شباب لليونان لإجادة اللغة اليونانية بالشكل الذي يفتح أمامهم التراث الآبائي كله. وهنا تعرف على الأستاذ صموئيل كامل الذي امتلك ناصية اللغة اليونانية وعملا معًا في البحث عن منح لدراسة اللغة اليونانية استفاد منها الأب اثناسيوس حنين والدكتور جوزيف موريس فلتس وأخرين.

واستكمل فرج: كان الدكتور نصحي رجلًا خاضعًا لقيادة الكنيسة ويبتعد عن الصراعات حتى أن الدكتور جورج بباوي كان قد أسهم في ترجمات وكتابات لمركز دراسات الآباء ولكن دكتور نصحي ابتعد عنه بعد حدوث خلافات مع القيادة الكنسية. مؤكدًا: لم يكن دكتور نصحي يحب أن يظهر للعلن كخطيب مفوه يجذب الجماهير ولا كان ذو حس فكاهي إنما كان قليل الكلام لا يحب الزعامة والقيادة بل هادئًا ومثابرًا ويحب أن يعيش في الظل فلم ينشغل نهائيا بمديح الناس ولا هجومهم عليه.

كيف استقبل عبد الشهيد هجوم التيار التقليدي عليه في سنواته الأخيرة؟

لفت دكتور فرج أن الدكتور نصحي عانى من الهجوم في السنوات الأخيرة في عصر البابا تواضروس من قبل بعض التيارات. وذات يوم طبع له مقالًا يهاجمه فنظر إلى عنوانه ورفض استكمال قراءته، إذ كان مصوبًا عينيه على هدفه لا يلتفت يمينًا أو يسارًا.

يضيف فرج: هناك فارق أساسي بين توجه مدارس الأحد وبين توجه دكتور نصحي، فخادم مدارس الأحد قد يترك خدمته إذا ما تعارضت مع عمله الأصلي بينما خدمة دكتور نصحي كانت تتطلب التفرغ للدراسات اللاهوتية باعتبارها عمل وخدمة يكفي لتحمل مسؤوليات البيت والأسرة، فأصبح لدينا باحث متفرغ ومتخصص في مركز دراسات الآباء يكرس حياته لسنوات لدراسة علوم اللاهوت.

وقال فرج: حين قطعت تذكرة الطيران لكي أدرس في اليونان سنة للغة وحوالي تسع سنوات للماجستير والدكتوراة، وقبل سفري كتبت تعهد أن أعود للعمل كباحث في المركز الذي تكفل بمصاريف دراستي، ثم منحني دكتور نصحي هذا التعهد في يدي وكأنه التزام أدبي مني للمركز لا يلزمني كباحث إلا أخلاقيًا. “دكتور نصحي بذل كل ميراثه عن والدته من أجل مشروع مركز دراسات الآباء قبل أن يبدأ المركز في تلقي تبرعات”؛ يختتم فرج.