ليست الحيوانات فقط هي التي تتعرض للانقراض، النباتات والأشجار والمحاصيل الغذائية أيضًا مهددة بالإنقراض. مليون نوع من النباتات والحيوانات مهددة بالانقراض. وفقًا لتقرير “حالة الفطريات والنباتات في العالم، يتزايد معدل الانقراض، وثلث أشجار العالم معرضة للخطر، وزادت نسبة أنواع النباتات المهددة بالانقراض من 20% عام 2016 إلى 39.4% في عام 2020.

تشمل قائمة النباتات المهددة بالانقراض أنواعًا من الحبوب والبن والكاكاو والفانيليا البرية، وأنواع من المحاصيل الرئيسية كالذرة والبطاطس، وغيرها، إذا أردت أن تعرف لماذا تنقرض النباتات، فانظر إلى طعامك: ماذا تأكل؟

في الماضي كان النظام الغذائي أكثر تنوعًا، حتى الشعوب البدائية من الصيادين وقاطفي الثمار، مثل شعب “هادزا” الذين يعيشون في شرق أفريقيا، يتمتعون بقائمة غذاء أكثر تنوعًا، ويأكلون من قائمة برية متنوعة، تتكون من أكثر من 800 نوع من النباتات والحيوانات، بما في ذلك أنواع عديدة من الدرنات والتوت وأوراق الشجر الصغيرة، والثدييات والطرائد الكبيرة والطيور وأنواع من العسل.

اقرأ أيضًَا.. الجمهورية الجديدة وخصخصة التعليم

منذ عرف الإنسان الزراعة قبل حوالي 12000 عام، نجح في زراعة 6000 نوع من النباتات الصالحة للأكل، حاليًا يوفر 9 فقط من المحاصيل الزراعية فقط لكل الناس الجزء الأكبر من السعرات الحرارية. ثلاثة منها فقط، هي الأرز والقمح والذرة، توفر 50% من إجمالي السعرات الحرارية لسكان الأرض. وإذا أضفت إلى ما سبق، البطاطس والشعير وزيت النخيل وفول الصويا والسكر (الشمندر والقصب)، ستعرف مصدر 75% من جميع السعرات الحرارية التي تغذي جنسنا البشري.

مع تحول بريطانيا إلى مركز عالمي لتجارة الحبوب وأهم سوق للمواد الغذائية في العالم في القرن التاسع عشر، ظهر نظام غذائي جديد، لتوضيح تفاصيل تطور هذا النظام وأثره على التنوع، نلقي نظرة على أهم عنصرين في هذا النظام الغذائي: القمح واللحوم. اتبعت بريطانيا سياسة تحرير التجارة، توقفت عن زراعة القمح، وتراجع الإنتاج المحلي من 80% عام 1841 إلى 25% عام 1900. واعتمدت على الواردات من المستعمرات، وساعدت السفن العملاقة والسكك الحديدية في تسهيل نقل الحبوب، أن تستقبل بريطانيا عام 1860 حوالي نصف تجارة الحبوب من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن الاعتماد على الأسطول البحري، بدلًا من المزارعين، في توفير الغذاء، أثار جدلًا سياسيًا واسعا حول الأمن الغذائي في بريطانيا، وفي إشارة لضعف هذا النظام وهشاشته، كتب دبليو جيه جوردون، في كتابه “كيف تعيش لندن” الصادر في 1879 أنه “إذا فقد هذا البلد السيطرة على البحار، فإن الناس سيموتون جوعًا”.

شعب هادزا

العنصر الثاني هو اللحوم، وربما يكون ارتفاع استهلاك اللحوم، هو أهم ظاهرة في تاريخ النظام الغذائي الأوروبي الحديث. زاد حجم التجارة الدولية في اللحوم سبعة عشر ضعفًا خلال الفترة من 1854-1913، وتضاعف متوسط الاستهلاك السنوي للفرد في معظم دول أوروبا، لكن هذه الكميات الهائلة من اللحوم، مثلها مثل القمح، لا يمكن إنتاجها محليًا، واستيرادها أرخص. يحتاج إنتاج اللحوم زراعة المزيد من الأراضي لتوفير الحبوب اللازمة لصناعة الأعلاف للماشية. وبسبب بعد المسافات بين المراعي والمسالخ في أستراليا والأرجنتين وأسواق أوروبا، تحتاج اللحوم إلى الحفظ والتبريد خلال مراحل نقلها عبر السكك الحديدية والبواخر والسيارات المجهزة، وبالتالي، زاد اعتماد صناعة وتجارة اللحوم على الطاقة.

وفرت أجهزة التبريد الاصطناعية بيئات خاضعة للتحكم لحفظ اللحوم، وشجعت هذه التقنيات الحديثة التي تخدع الوقت والبكتيريا الرغبة الاستهلاكية المدمرة في أكل أي منتجات زراعية على مدار العام، بغض النظر عن مواسمها الطبيعية. وشهدت فترة ما بين الحربين محاولة كثير من الدول الأوروبية تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية الغذائية، وظهر التنافس على الغذاء كأحد أسباب الحرب العالمية الأولى، التي أطلق عليها اسم حرب الخبز والبطاطس.

بعد الصدمات المتتالية للكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، ظهر نظام غذائي جديد، مع تأسيس الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة عام 1945. تميز النظام بعودة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى الحمائية، والنفوذ المتزايد لشركات الصناعات الغذائية الكبرى، مثل كيلوجز وديل مونتي. كان العنوان الأبرز لهذا النظام هو الثورة الخضراء.

قامت الثورة الخضراء على أساس استخدام أنواع عالية الغلة من البذور وزراعتها في زراعات أحادية مجمعة، وبمساعدة الأسمدة والمبيدات الحشرية ومياه الري، يمكن زيادة الإنتاج وتوفير الغذاء للملايين. تم استبدال الآلاف من الأنواع التقليدية الأكثر مرونة والأكثر قدرة على التكيف ومواجهة الأمراض، بعدد قليل من الأصناف الجديدة عالية الإنتاجية. حققت الثورة الخضراء وعدها في بعض مناطق العالم، لكن على حساب مناطق أخرى، تضاعف إنتاج الحبوب ثلاث مرات، لكن خلال أقل من قرن، أصبح العالم يعتمد على عدد قليل من المحاصيل، ودمرت الثورة الخضراء التنوع الحيوي الضروري الذي يمثل شبكة الأمان لغذائنا ولعلف للماشية.

ومع أن الثورة الخضراء قامت على أساس علمي متين، إلا أنها أخطأت في تبسيط الطبيعة واختزالها، وأدى التركيز على عدد قليل من الأنواع النباتية والسلالات الحيوانية إلى تدمير التنوع الحيوي، والزراعات الأحادية أقل قدرة على مقاومة أمراض النبات وأكثر عرضة للتأثر بالظروف الجوية المتطرفة والكوارث المناخية. حدثت أكبر خسارة في التنوع الحيوي النباتي في ظل الثورة الخضراء. أصبحت القاعدة الجينية للغذاء أقل تنوعًا، وأصبحت الزراعة وإنتاج الغذاء والنظام الغذائي جميعًا، أكثر ضعفًا وهشاشة في مواجهة الأزمات والكوارث وتغيرات المناخ.

الكثير من جوانب حياتنا ونشاطاتنا أصبحت أكثر تشابهًا وتوحيدًا أكثر من أي وقت مضى، حول العالم، نتسوق من نفس المتاجر، نتعامل مع نفس الشركات، نشتري نفس العلامات التجارية حول العالم، والأمر نفسه ينطبق على نظامنا الغذائي، أصبحنا جميعًا نأكل من نفس الطعام، وأينما كنت، يمكن لك أن تأكل من كنتاكي، ماكدونالدز، السوشي، الموز، المانجو أو الأفوكادو، وأن تشرب الكوكاكولا أو المياه التي تحمل نفس العلامات التجارية. للوهلة الأولى، قد يبدو ذلك متنوعًا، لكن الحقيقة غير ذلك، أنها منتجات من نفس الأنواع، التي تنتشر بطريقة متطابقة في جميع أنحاء العالم.

في السبعينيات من القرن الماضي، كان من الواضح أن الثورة الخضراء قد وصلت إلى آخر مدي يمكن الوصول إليه، وتضافرت عدة عوامل اقتصادية ومناخية وسياسية لتؤدي إلى حدوث أول أزمة غذاء عالمية بعد الحرب العالمية الثانية. ضربت المجاعة مناطق في الدول الجنوب من غرب إفريقيا إلى بنجلاديش. ومع تحول العالم إلى السياسات الليبرالية الجديدة، تطور نظام غذائي آخر في الثمانينيات، يمكن أن نطلق عليه اسم النظام الغذائي الليبرالي الجديد. يقوم هذا النظام كسابقه على الزراعة الأحادية، وتركز الإنتاج في مناطق معينة من العالم، وشبكات التوزيع القائمة على التكنولوجيا، وتزداد فيه كثافة استخدام الطاقة، وقبل كل شيء، تزداد سيطرة الشركات على كافة مراحل إنتاج الغذاء وتصنيعه وتوزيعه.

تخلق الطبيعة التنوع الحيوي النباتي والحيواني، لكن النظام الغذائي يدمره: المثال الأكثر شهرة هو الموز، فعلى الرغم من وجود أكثر من 1500 نوع مختلف من الموز، إلا أن نوعًا واحدًا فقط، هو كافنديش، يهيمن على التجارة العالمية للموز. وعلى الرغم من وجود 130 نوعًا من القهوة، يعتمد العالم على نوعين فقط.

ضع في اعتبارك أيضًا هذه الحقائق: مصدر الكثير من غذاء العالم- البذور- تحت سيطرة أربع شركات فقط. نصف إنتاج الجبن في العالم يعتمد على البكتريا والإنزيمات التي تصنعها شركة واحدة. ربع إنتاج البيرة في العالم ينتجها مصنع واحد. معظم إنتاج لحوم الخنازير في العالم يعتمد على الجينات الوراثية لسلالة واحدة من الخنازير. 99% من الأبقار التي تستخدم في صناعة الألبان ومنتجاتها من سلالة واحدة، هولستاين، من بين ألف سلالة من البقر.

في قمة العمل المناخي التي انعقدت في سبتمبر 2019 في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، قال إيمانويل فابر، الرئيس التنفيذي لشركة الألبان العملاقة دانون، لرؤساء الدول والسياسيين ورجال الأعمال الحاضرين، إننا “اعتقدنا أنه بالعلم يمكننا تغيير دورة الحياة وقواعدها” وأنه “يمكننا أن نطعم أنفسنا بالزراعة الأحادية والاعتماد على عدد قليل من النباتات”. وقال إن “النظام الغذائي الذي أنشأه العالم خلال القرن الماضي “مفرط في التبسيط” وأدى إلى خسارة فادحة في التنوع” و”وصل إلى طريق مسدود”.

إذا كانت الشركات الكبرى، التي ساهمت في خلق التجانس والتوحيد في طعامنا، وتأسيس النظام الغذائي العالمي، وتحقيق أقصى الأرباح من ورائه، تعبر الآن عن مخاوفها بشأن فقدان التنوع الحيوي، فعلينا جميعًا أن ننتبه إلى فداحة ما نخسره. نحن في حاجة إلى استعادة التنوع الحيوي وحماية الأنواع المهددة بالانقراض، وإعادة بناء نظامنا الغذائي على أساس التنوع، وعلى نحو أكثر عدالة بين البشر بعضهم وبعض، وبين البشر والكائنات الحية الأخرى.

هذه ليست دعوة للعودة إلى الماضي، بل دعوة لاحترام الأجيال السابقة من المزراعين، وتقدير حكمتهم، والاحتفاء بالتنوع واستعادة علاقتنا الطبيعية مع باقي الكائنات الحية الأخرى على الأرض.