خلال الأشهر القليلة الماضية مرت بالمجتمع المصري العديد من الحوادث، والجرائم، وخصوصًا تلك المتعلقة بسلامة الأجساد والأنفس، فقد كثرت جرائم القتل، وجرائم الانتحار، والتعدي على سلامة الأفراد، وهذا أمر ينذر بخطورة مجتمعية قادمة لابد أن يتم النظر إليها ومعالجة أسبابها بشتى الطرق منعًا لتفاقم الأمر، ولكن صاحب معظم هذه الحوادث نفير من الضغوط الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي عقدت محاكمات بذاتها لمرتكبي تلك الجرائم، دونما انتظار لما قد تسفر عنه إجراءات التحقيق والمحاكمة الحقيقية، وكان الأبرز خلال تلك الفترة، مقتل نيرة طالبة جامعة المنصورة على يد أحد زملاء الجامعة، ومقتل الإعلامية شيماء جمال، والمتهم فيها زوجها عضو إحدى الهيئات القضائية.
اقرأ أيضًا.. ملاحظات متأخرة على إجراءات محاكمة قاتل نيرة
وقد عقدت قنوات التواصل المجتمعي المحاكمات للمتهمين من قبل أن يتم محاكمتهم بالفعل، فهل نحن راضين بالمحاكمات المجتمعية، أم أننا راغبون في تفعيل قيمة القانون كسلطة فوقية حاكمة للجميع، قد ارتضاها المواطنون لتكون سياجًا حاكمًا لجميع تصرفاتهم، من منطلق سيادة القانون، وحكم الدولة بالقانون، وإذ أن علاقة السلطة بالقانون علاقة تلازم، والسبب في ذلك أن أي شكل من أشكال السلطة يفترض قانوناً معيناً، وأن أي شكل من أشكال القانون هو سلطة قائمة على اتفاق مبدئي بعدم اللجوء إلى القوة.
إلا أن هذه العلاقة التلازمية تطرح مشكلات عديدة، من أهمها طبيعة العلاقة القائمة بين حدي السلطة والقانون، وبخاصة الإشكالية المتصلة بمعرفة القانون أهو مجرد وسيلة للسلطة أنه يتمتع بسلطته الذاتية؟، كما أنه من المفهوم أن هيبة الدولة تستند إلى سيادة القانون، وقوة القانون تأتي من قوة السلطة العنصر الأساس للضبط الاجتماعي، ويتحقق الاستقرار والأمان في المجتمع، من خلال خضوع وطاعة أفراده للدولة الممثلة لسلطة القانون والقابضة على وسائل العنف لردع المتجاوزين على المجتمع. إن ترسيخ مفهوم الواجبات في ذهنية أفراد المجتمع تجاه الدولة، يعزز من مبدأ شرعية المطالبة بالحقوق من الدولة ذاتها. كما يؤدي مبدأ سادة القانون في المجتمع إلى تأسيس علاقات متكافئة بين أفراده، وهذا التأسيس بدوره يؤدي إلى خطوة نحو الأمام للمجتمعات المتخلفة للإلحاق بركب المجتمعات المتحضرة في العالم.
ويقاس مدى التحضر في المجتمعات بتطور وسيادة قانونها المدني والتعاطي الايجابي لأفراد المجتمع مع آليات الضبط الاجتماعي لتحقيق الآمان والاستقرار في المجتمع من أجل تفعيل القوى المنتجة لتحقيق سُبل الرفاهية والعيش الكريم.
أم أننا نؤمن ونشيع لمنطق حق الجماعة أو سلطة المجتمع في العقاب، وإن كان الأمر يبدو في صورته الأولية اعترافاً ضمنياً بما خولته الجماعة لسلطة من خلال القوانين في المعاقبة ومتابعة كافة الإجراءات وفق القواعد القانوني التي ارتضتها السلطة التشريعية بحسبها ممثلة للمجتمع، ولكن وبصورة مغايرة، ندفع بشكل أكثر قرباً للواقع للانتقام الفردي أو سلطة الجماعة في العقاب، بعيداً عن مسميات أو نسق قانونية أو قواعد أو قيم دستورية، وهو ما يكون في صورته أو صيغته البسيطة دعوة للانتقام الفردي، والثأر القبلي بديلاً عن سلطة القانون، وهو ما يعود بالجماعة كلها إلى عصور بدائية النسق والتفكير والنظام، إذ في ظل غياب سلطة القانون يبحث الجميع عن سلطة مغايرة أو غطاء يحتمي من خلاله من تصرفات أو بطش الأخرين به، وهذا ما يجعلنا في مقام الجماعات القبلية العشوائية غير المتطورة.
وبالضد من ذلك نجد في المجتمعات المتطور، تتلاشى حاجة الفرد للانتماء للعشيرة والقومية والطائفة والمنطقة، لأن الدولة تعد الضمان الأساس لحرية الفرد في المجتمع من خلال احتكارها لوسائل العنف المؤطرة بسلطة القانون.
وإذ تمعنا أو فكرنا قليلاً في مدلول سلطة الجماعة أو المجتمع، فإن تلك السلطة ماهي إلا مجموعة من العادات أو القيم المجتمعية المتغيرة، التي تتراكم عبر الأزمنة التي تمر بها الجماعة، وهي تعد بمثابة إطار خارجي يحكم بعض السلوكيات المجتمعية، وفق نسق مجتمعي أو ما يمكن أن نسميه تجاوزاً بالعرف، وهو في حقيقته أمر تتغير موازينه من وقت لآخر، وليس من الممكن أن نترك تلك الأعراف جانباً أو نتلاشى وجودها من حياتنا بالمرة، لكن الأمر الأوقع والسؤال المعاكس، أيهما أجدر بالاحترام والسمو والسيادة قواعد ونصوص القانون التي ارتضتها الجماعة من خلال سلطات الدولة في إصدارها؟ أم تلك القواعد الاجتماعية المتغيرة من منطقة على أخرى ومن ريف إلى مدينة ومن صحراء إلى عمران؟
إن السلطة الاجتماعية شكَّلت ما يشبه “حكومة ظل” و”محاكم ظل”، بحيث تقرر تحريم وشجب وتعطيل أو تقييم سلوكيات للأفراد من خلال تلك المعتقدات الجماعية، وقد استطاع المجتمعات؛ بما عرف عنه من جبروت وسلطة عاتية، أن يصنع مسطرته الصارمة من توليفة عجيبة من الأحكام، استقاها غالباً من ثقافة العيب المتوارثة ومن الحلال والحرام الشعبي أيضًا، فهل تغني كل تلك التراكمات عن حكم القانون، أم أننا حسب الأحوال أو بحسب المصلحة الملحة نحتكم لأي منهما.
فإلى أي مدى ستحكمنا هذه المتناقضات الفكرية، التي تغلبنا فيها أهوائنا أو مصالحنا الفردية، فنسعى من خلال القناة التي تقربنا من تحقيق أهدافنا، سواء كانت سلطة مجتمعية أم سلطة القانون، فإن كان هناك دور للعرف المجتمعي في تشكيل القاعدة القانونية، فإن ذلك لا يكون إلا من خلال ما تقرره القواعد الدستورية، وفق تدرج القاعدة القانونية، وفي الأغلب فيما تقرره القواعد المدنية بما يسمى مصادر القاعدة القانونية، ولكن في المحاكمات الجنائية فإننا ننساق عبثاً خلف أهوائنا، وتحركنا عواطفنا متناسين في ذلك قيمة القانون الذي ارتضيناه سلفاً ليحكم أو يسود ويعلو على كافة القيم المجتمعية الأخرى.