كانت النكتة في مصر تعبيرا عن مشاعر مكبوتة في ظل القهر الذي كان المصريون يتعرضون له عبر العصور، لكن جاء اختفاء عدد من أساليب التعبير عن القهر أو الخوف أو الظلم، ليعطي مؤشرات سلبية تحتاج لدراسات معمقة لكي نعرف ماذا جرى للمصريين؟ وفي الوقت نفسه ظهرت أساليب أخرى تحتاج لدراسات معمقة؟

في حقيقة الأمر إن هناك فنونا توارت، ونقر أن أحد أسباب ذلك طغيان الحداثة على مصر، دون أن نعي أن الموروث الشفهي هو أحد التعابير القوية عن الثقافة الوطنية، تميز هذا الموروث بالتجديد والتلقائية، لأنه نابع من جذور المجتمع، فكان له حضور كبير لدى الناس، بل حتى لو كانت جذوره غير مصرية فسرعان ما يمصر ويأخذ طابعا مصريا.

المونولوج

المونولج حوار بين الشخص وذاته على المسرح، وهو من مونو كلمة يونانية تعني أحادي والثاني لوجوس وتعني الخطاب، تستخدم في المونولج تعبيرات الوجه وإيماءات اليد، وهو يقدم مجموعة من الأفكار حول موضوع واحد أو أكثر.

يعد المونولوج من القوالب الغنائية الحديثة في الغناء العربي، قدمه سيد درويش لأول مرة عام 1920 م في مونولوج (والله تستاهل يا قلبي) كلمات أمين صدقي في أوبريت (راحت عليك) ثم ظهر المونولج الغنائي على يد إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو الذي قدم 600 مونولوج، ثم برز الجيل الذهبي الذي قدم المونولوج في مصر: أحمد غانم وسيد الملاح والفنانة ثريا.. تراجع المونولج حتى يكاد نقول إنه اختفى ويعود ذلك إلى ضعف الكلمات والألحان.. كان المونولج يعالج في موضوعاته قضايا الحب لكنه أيضا كان يتناول موضوعات اجتماعية واقتصادية، مما جعله أحد أدوات التعبير المرحة عن مشكلات المصريين.. واختفاؤه جاء متواكبا مع تراجع اتحاد الاذاعة والتليفزيون عن اكتشاف وتقديم الفنانين الذين يقدمون هذا اللون من الغناء. إن كل ما سبق يجعلني أقول إن المصريين القدماء أول من استخدم النمط القصصي للسخرية، فقد استخدموا القط والفار للتعبير عن جبن القط وجسارة الفار.

الموال

الموال لون من الشعر استعمل ضمن إطار غنائي وانتشر في المنطقة العربية، أول من نطق به أهل مدينة واسط في العراق التي أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي عام 82 هجرية، ذكر السيوطي في (شرح الموشح) أن هارون الرشيد لما قتل البرامكة ومن بينهم جعفر البرمكي أمر أن يرثى بشعر، فرثته جارية جعلت تقول (يامواليا) ويرى بعض المؤرخين أنه اكتسب من هنا اسم الموال، وكانت الجارية تقول في موالها:

يا دار أين ملوك الأرض؟ أين الفرس؟ أين الذين حموها بالقنا والترس؟

قالت تراهم رمم تحت الأرض الدرس.. سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس

والموال بحر من بحور الشعر (البسيط)

برز الموال في مصر منذ العصر العباسي، ليعبر عن أحزان المصريين وهمومهم بصورة غنائية، فضلا عن أفراحهم، عبر عنه بقوة في مصر الفنان شفيق جلال الذي غني (شيخ البلد) وهو من أشهر المواويل المصرية، لكن كانت كلمات وتلحين المبدع محمد الكحلاوي لموال الصبر والذي أداه ببراعه وغناه شفيق جلال قمة التعبير عن قدرة الصبر على المحبوب، الذي فسره البعض على أنه المحبوب بالمعني العاطفي بين الرجل والمرأة، لكن سياقه يدل أنه قيل للصبر بصورة عامة وللصبر على الظلم القاسي بصورة خاصة وكلماته:

أنا بعلم الصبر يصبر على صبر حبيب جارنا
وبقول يا صبر صبرك عليه حتى يجي جارنا

إن كان غيرنا حلي وإحنا اللي مررنا، الله يهون عليهم وإحنا يصبرنا

قال يا خوخ خانونا الحبايب واحنا لم خنا

قال يا لمون لامونا العوازل واحنا لم لمنا

قال يا نبق نبقي عيش وملح كان يوم بينا

قال يا فل فتنا في هواهم ليه فاتونا هما

قال يا نخل اخلى مكان واسمع ما كان بينا

يا عود ريحان ريح قلوب سابق ريحوك هما

ياتمر حنة رحلنا وحنت منازلنا

أنا ندر عليا يا دار لو عدنا كما كنا

أنا لزوقك يادار بالورد والحنة

وأجيب عزولى قصاد عينى يشاهد البنا

يا قلبي اصبر دول آخر عشرتك هما

في إطار خلاف بين الكحلاوي وشفيق حول موال الصبر الذي صار أشهر موال مصري لكونه يعبر عن فلسفة الصبر عند المصريين، عارض هذا الموال فنان غنى عشرة آلاف موال هو محمد طه بموال آخر عن الصبر قال فيه:

يا معلم الصبر أنا اللي الصبر علمني

وسهرني الليالي ومش الناس علمني

ونزلت بحر الغرام والحب علمني

ودقت طعم الفراق والهجر علمني

بقى يا معلم الصبر هو الصبر بيتعلم

كان محمد طه فنانا متعدد المواهب، تعلم ارتجال الموال من أستاذه مصطفى مرسي، ولم يستطع الالتحاق بنقابة الفنانين لكونه لم يحصل على مؤهل عال، وهو نفس الموقف الذي واجهه مطربو المهرجانات اليوم، فذهب للقضاء، فسألته المحمكة هل أنت فنان؟ فأجاب نعم، وسأله القاضي: وإيه يثبت؟ فارتجل موالا أمام القاضي جاء فيه:

أنا فى محكمة العدل أصل العدل للعادل

واسمع يا منسي أنا مش منسي

دا أنا فى الكلام عادل

وإذا حكمتم يكون الحكم بالعادل

أنا اسمى عدل الكرام محمد أبو طه

أبو نفس عالية ما يوم وطاها

وحياة محمد نبينا وعيسى والنبى طه

تكسب عدوك بصبرك اقرأ (سورة طه).

حكم له القاضي على الفور بقبوله في عضوية نقابة الفنانين، إذا كان محمد طه محدود التعليم الرسمي، لكنه ألف ولحن وغنى عشرة آلاف موال فمن أين أتى بهذا كله؟

أتى به من المروث الشفاهي المصري والثقافة التي جرى تناقلها عبر العصور بين المصريين، التي هي الآن في حكم المندثرة، هذا ما يهدد جانبا هاما من عمق وقوة الثقافة المصرية، ويفسر لماذا تدنى مستوى الأغنية الشعبية في مصر وقدرتها على التعبير، بعد أن تسيدت لسنوات وعبرت عن المصريين.. لن أتحدث هنا عما غناه الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم والشاعر المبدع زين العابدين فؤاد، لأنها كانت رسائل واضحة صريحة، لكن أيضا عن المغني الشعبي أحمد عدوية في أنجح أغنية شعبية احتجاجية على فشل السلطة في مصر في حل أزمة تكدس المرور والزحام وتكدس وسائل المواصلات في أغنية (زحمة يا دنيا زحمة) التي غنيت عام 1969، وهي من كلمات حسن أبو عثمان وتلحين هاني شنودة مدخلا الآلات الغربية بنجاح للأعنية الشعبية وكلماتها:

زحمة يا دنيا زحمة

زحمة وتاهوا الحبايب

زحمة ولا عادش رحمة

مولد وصاحبه غايب

الغناء هو صدى للحياة والمجتمع، لذا حين نسمع كلمات الأغاني ونرى صدى لنجاحها نعرف الكامن في النفوس، فالعظيمة شادية حين غنت (غاب القمر يا ابن عمي) كانت الأغنية تعبيرا عن المحبه لابن العم وخوفه على زوجة المستقبل، فالمجتمع المصري لم يكن يشجع زواج الأقارب إلا من منطلق الخوف والحفاظ على الفتاة، في حين أننا في الأغاني -خاصة من الفنانات- نرى تحديا للرجل بل والحث على هجرانه، بدلا من بث روح في الحفاظ على المحبة، ثم نتحدث عن عدد حالات الطلاق، ولذا فإن المطلوب هو تحليل أغاني المهرجانات التي هي معبر عن شرائح محددة في المجتمع المصري، وانهيار منظومة القيم وشيوع الظلم من الأفراد للأفراد ومن الأفراد للمجتمع، ومن مستويات مختلفة، بل حتى الخيانة من الصديق لصديقه.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا