زار الرئيس الأمريكي الشرق الأوسط، وبدأها بإسرائيل ثم الأراضي الفلسطينية، واختتمها في السعودية حيث التقى بزعماء دول الخليج العربي بجانب مصر والأردن والعراق. ومثلت هذه الزيارة تحولًا في بعض توجهات بايدن وتأكيدًا لبعضها الآخر، ورغم تعدد ملفاتها إلا أن أبرز تلك الملفات كان ملف الطاقة والتحدي الإيراني والعلاقات مع إسرائيل ثم تأتي في النهاية القضية الفلسطينية وملف حقوق الإنسان.
اقرأ أيضًا.. تونس بين دستورين
صعوبات الخيار الاحتوائي
يسعي مشروع الحزب الديمقراطي لتجسيد الفكرة الليبرالية الأمريكية في بلد صنعه مهاجرون، والتي تقوم على إنه يمكن دمج أي إنسان أو أي مشروع سياسي في المنظومة الأمريكية بصرف النظر عن عرقه ودينه طالما التزم بالدستور والقانون، وهنا سنجد الأمريكيين من أصل أفريقي ولاتيني وعربي جزءا ظاهرا من إدارة بايدن، ويعكس التنوع الموجود في أمريكا الذي اعتبر كثيرون أن ترامب حاول أن يختزله لصالح “تفوق العرق الأبيض”.
هذه الفكرة سحبت في أحيان كثيرة على دول وجماعات سياسية ومنها إيران، حيث اعتبر تيار مؤثر في الولايات المتحدة وخاصة في الإدارة الديمقراطية، إنه يمكن تعديل توجهات إيران عبر تبني سياسات لينة واحتوائية تنقلها من دولة ممانعة خارج المنظومة العالمية، إلى دولة ممانعة من داخلها، وهو سيعني من الناحية العملية فتح الباب أمام المجتمع الدولي للتأثير في النظام الإيراني من خلال التفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي ودفعه عمليًا نحو الاعتدال.
وقد شكل “اتفاق خمسة +1” الذي وقعه الرئيس الأسبق باراك أوباما مع إيران في 2015، فرض قيود على تخصيب اليورانيوم وأي إمكانية لإنتاج إيران لقنبلة نووية، حتى عاد ترامب وأعلن انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق.
ومع مجيء بايدن للسلطة ومعه إداراته الديمقراطية دخلت الولايات المتحدة في مفاوضات متعثرة مع الجانب الإيراني من أجل العودة لهذا الاتفاق، ولازالت هناك ضغوط إسرائيلية من أجل ألا توقع الولايات المتحدة على أي اتفاق مع إيران.
والمؤكد أن حسابات العرب ودول الخليج الأساسية ليست في رفض التوقيع على اتفاق نووي مع إيران، إنما في قدره “السياسة الاحتوائية” الأمريكية على دفع إيران إلى لجم أذرعها وتدخلها في أكثر من بلد عربي وهو أمر لم يحدث حتى هذه اللحظة.
التحدي النفطي
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وفرض الغرب لعقوبات اقتصادية على روسيا طالت قطاع الطاقة، بدأت أوربا وأمريكا في البحث عن بدائل للنفط والغاز الروسي، واتجهت ناحية دول الخليج وخاصة السعودية من أجل حثها على زيادة إنتاجها من النفط الذي يلعب دورًا كبيرًا بالنسبة لبايدن المقبل على انتخابات تشريعية تتراجع فيها فرص الديمقراطيين في الاحتفاظ بالأغلبية داخل مجلس النواب.
واستجابت السعودية جزئيًا لجانب من هذه المطالب وقبلت زيادة تدريجية في حصتها من النفط حيث أعلنت منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) أنها ستزيد الإنتاج بمقدار 648 ألف برميل يوميًا وهي زيادة أقل مما تطلبه أمريكا.
وقد تزيد السعودية عقب زيارة بايدن من نسبة إنتاجها النفطي بصورة أكبر قليلًا من الزيادة الحالية، ولكنها لا ترغب أن تكون استجابتها للمطالب الأمريكية سببًا في انخفاض أسعار النفط بعد زيادته مؤخرًا.
استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وعدم إيجاد حل سياسي قبل الشتاء القادم من شأنه أن يعرض اقتصاد العالم لأزمات كبيرة خاصة أن العقوبات المفروضة على روسيا تؤثر أيضًا على الغرب، كما أنه من غير الوارد أن تجد أوروبا في المستقبل المنظور بدائل حقيقية للنفط والغاز الروسي في ظل عدم قدرة دول الخليج على أن تكون بديلًا لمصادر الطاقة الروسية.
ملفات إبراء الذمة
في زيارة بادين للشرق الأوسط هناك ملفان طرحا على طاولة التفاوض “لإبراء الذمة” وهما ملف حقوق الإنسان في البلدان العربية وخاصة مصر والسعودية، والقضية الفلسطينية.
والحقيقة أن تعليق الرئيس بايدن الشهير عقب جريمة اغتيال “خاشقجي” بأنه يجب جعل السعودية “دولة منبوذة” قد طوي وذهب بايدن لزيارتها، صحيح إنه قال في معرض رده على سؤال صحفي بخصوص مقتل خاشقجي، إنه تكلم في هذا الموضوع، وأن ولي العهد أكد له أنه لم يصدر أوامره بقتله، ووصف سؤال حول ضمانات عدم تكرار ذلك في المستقبل بأنه “سذاجة وسخف”.
يقينًا ملف حقوق الإنسان حاضر في رؤية الإدارة الديمقراطية الأمريكية التي اعتبرته أحد أدواتها في السياسة الخارجية، خاصة أن التيارات الليبرالية واليسارية والحقوقية قد دعمت بايدن في معركته ضد ترامب واعتبرت القضية الحقوقية على سلم أولوياتها، وكثيرًا ما انتقدت أوضاع حقوق الإنسان في مصر والسعودية والإمارات، ومع ذلك فإن قدرة الإدارة الأمريكية الحالية (وأي إدارة) على وضع هذا الملف على حساب المصالح الأمريكية غير وارد، ولذا بقيت مكتفية بعرض أهمية التمسك بقيم حقوق الإنسان على الساحة الدولية والعربية دون أي قدرة على تحويلها إلى قضية توافق عالمي.
أما القضية الفلسطينية أو حل الدولتين فقد اعتبره بايدن “حل بعيد المنال” رغم قناعته به. ورغم أن موقف إدارة بايدن يختلف عن موقف ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ولم يزر الأراضي الفلسطينية طوال فترة رئاسته وأوقف الدعم الأمريكي لمنظمة غوث اللاجئين (الأونروا) في حين زار بايدن مدينة بيت لحم واجتمع بمحمود عباس وقدم دعمًا ماديًا للفلسطينيين ولمستشفيات القدس، كما أكد ضرورة إيجاد حل سلمي للقضية قائم على حل الدولتين.
والحقيقة إن كل ذلك يمثل نوايا إيجابية لا تسمن ولا تغني من جوع، لأنها من ناحية مجرد نوايا طيبة لا تحمل أي خطة لتحقيق السلام، كما أن التعنت والاستعلاء الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني يجعل هناك صعوبة عملية في إيجاد تسوية للصراع، كما أن انشغال العالم والولايات المتحدة بقضايا التغير المناخي وأزمة الطاقة والتنافس مع الصين والتحدي الإيراني، وضع بكل أسف القضية الفلسطينية العادلة في مرتبة متأخرة جدًا من اهتمامات العالم.