في عام 2016 شاءت الأقدار أن يكون “عيدي في السجن”، حبيسًا بين جدران زنزانة كئيبة لا ترحم. بلا بهجة ولا فسحة ولا تليفزيون ولا أهل وأصحاب، مضت أيام العيد مظلمة كأنها مناسبة للفقد والعزاء لا للسعادة والتواصل الإنساني المبهج.
وسط المطالبات هذه الأيام بالإفراج عن سجناء الرأي بمناسبة عيد الأضحى، حاصرتني ذكريات السجن في العيد. عدت إلى الوراء لعدة سنوات، فشعرت متأثرًا بلهفة الأهل الذين ينتظرون خبر إخلاء سبيل ذويهم، ليصبح العيد “عيدين”، بعد شهور أو سنوات من غياب قاس وغير مبرر.
للاحتفال بالعيد طقوسه التي اعتاد عليها المصريون، طقوس لا تبدأ بصلاة العيد في الصباح الباكر ولا تنتهي بالزيارات العائلية والخروج إلى أماكن الفسح والسهر والترفيه. تلك الطقوس يلغيها السجن تمامًا بكآبته، باستثناء صلاة العيد التي كانت مكفولة للكثير من النزلاء، (كانت تجربتي كسجين تخلو من صلاة العيد لأسباب لا يعلمها إلا الله).
يشاء القدر لهؤلاء السجناء أن يمضوا أيام العيد بين جدران زنزانة كئيبة تحاصرهم فيها أسراب من “النمل” أحيانًا، وكثير من ذكريات الأهل والأصدقاء والأحباب، فضلًا عن اشتياق لا ينتهي لنسمات الحب والانطلاق والحرية.
كل ما يشعر به السجناء الآن أعرفه جيدًا، فقد مررت به وعشته. والمؤكد بالنسبة لي أن كل من هم بين جدران السجون الآن يشعرون بكل الأوجاع والضغوط النفسية والعصبية التي تزيد من آلام فقد الحرية. أثق تمامًا أن كل سجين رأي يتذكر الآن آخر احتفال بالعيد قضاه في أجواء الحرية، ستسيطر عليه تمامًا التفاصيل التي اعتاد عليها منذ اليوم الأول للعيد، ستحاصره الأماكن والأشياء والأصوات التي كان يسمعها ويتحدث إليها، سيختنق بالدموع وهو يشعر بالفقد والوحدة والغربة في هذا المكان الممل البائس الموحش، بارد القلب شديد القسوة.
في العاشرة من صباح اليوم الأول للعيد سيبدأ كل سجين رأي في انتظار دخول عسكري الحراسة ليبشره بزيارة من أسرته -إن كان يُسمح له بالزيارة طبعًا- ويدعوه لأن “يجهز” للقاء أسرته التي جاءت لتحمل له الزيارة وتطمأن على أحواله، وبقدر اشتياق كل سجين لرؤية أسرته في هذا اليوم، بقدر إحساسه بثقل اللحظة وغرابتها، فبهجة العيد وتفاصيله الجميلة التي اعتاد عليها تتحول عند كل سجين رأي لمجرد زيارة عابرة من الأسرة وسط حراسة مشددة وفي فترة زمنية لا تتجاوز الساعة بأي حال من الأحوال، تلك الزيارة على أهميتها ودفئها الإنساني تزيد، في هذا اليوم بالذات، من الإحساس بالفقد والغربة والغياب.
بعلبة من “الكعك والبسكويت” إذا كان السجين يقضي عيد الفطر، أو ببعض من المأكولات والعصائر وغيرها إذا كان السجين يقضي عيد الأضحى، يعود كل إنسان إلى زنزانته بعد انتهاء الزيارة، وخلال المسافة الفاصلة ما بين مكان الزيارة وباب الزنزانة الكئيبة تسيطر الذكريات عليه تمامًا، تبدأ في عقله الأسئلة التي لا تتوقف، بداية من السؤال الطبيعي عن أسباب التواجد في هذا المكان، ونهاية بشعور بالظلم يضغط على الأعصاب بشدة، وما بين هذا وذاك تحاوط كل سجين صورة أسرته وأصدقائه ويغرق في تصورات عن ما يفعلونه الآن وطريقة احتفالهم بهذا اليوم وعن التأثير الذي تركه غيابه على إحساسهم بالعيد وبهجته. شعور لا ينتهي بأن كل الأيام في السجن صعبة، بينما أيام العيد هي الأكثر قسوة وصعوبة بما لا يمكن مقارنته بغيرها من الأيام.
قواعد السجن خلال العيد شريكة تمامًا في إحساس كل سجين بالعزلة والاغتراب، فلائحة السجن تعتبر أن الأعياد أيام إجازات رسمية، ما يعني عدم فتح الزنازين طوال اليوم وعدم السماح للخروج “للتريض”، وفي بعض الأوقات تطول الإجازة لتصل إلى أسبوع كامل، لا يتم فيها فتح الزنازين ولا السماح بالخروج منها دقيقة واحدة. هذه القواعد التي تنظمها لوائح السجن تزيد من الإحساس بالعزلة من ومن ألم القيد المفروض على الحرية والحياة.
لا زلت أتذكر خلال تجربتي الشخصية أن كل المحاولات التي قررت أن أهرب بها من شعوري بالسجن في يوم العيد باءت بالفشل، بداية من طلبي من مأمور السجن أداء صلاة العيد مع السجناء، ومرورًا برغبتي تمديد زيارة أسرتي لنصف ساعة أخرى، فجميع مطالبي تم رفضها وترسخت وحدتي بين جدران الزنزانة، تحاوطني ذكريات العيد في أجواء الحرية، وتفاصيل البهجة والتواصل الإنساني مع الأهل والأصدقاء.
وبشعور كل من لا يقبل على الحياة ظلت كل الأشياء التي حملتها لي أسرتي خلال زيارة يوم العيد في ركن قصي في الزنزانة، لم اقترب منها، لم أشعر ببهجة “الكحك والبسكويت”، فالأصل في البهجة هو الشعور النفسي بالراحة والأمان، وهما اللذان غابا تمامًا في نفس اللحظة التي عرفت فيها أنني سأقضي العيد بين جدران الزنزانة القميئة، وقتها دعوت الله ألا أقضي عيد الأضحى في هذا المكان الموحش، واستجاب الله لدعائي وعادت لي حريتي قبل أيام قليلة من عيد الأضحى، وتبدو هنا المفارقة واضحة بشكل مذهل، فما بين الإحساس النفسي بقضاء العيد في الزنزانة وبقضائه وسط الأهل والأصدقاء هناك فارق مذهل لن يعلمه حقًا إلا كل من مر بقسوة تجربة السجن ووطأتها على النفس، وتأثيرها على قدرة الإنسان على الإقبال على الحياة أو الانسحاب منها.
الآن، أشعر بإحساس كل سجين فقد حريته لشهور أو سنوات وهو يقضي العيد بين الجدران، وحيدًا محبطًا لا يملك إلا استعادة الذكريات والتدثر بها، ربما تعوضه ولو قليلًا من آلام الغربة والسجن، وشعور الوحدة والعزلة، والغياب القاسي عن الأهل والأحباب، الآن أشعر بمرارة في حلق أسر كل سجناء الرأي وهم لا تجمعهم بأبنائهم سوى دقائق معدودة في أيام هي بطبيعتها تصبح أكثر جمالًا وإنسانية بالتواصل والتجمع، الآن أشعر بقسوة التجربة على هؤلاء الذين فقدوا حريتهم وحقهم في الحياة الحرة لمجرد أنهم عبروا عن غضبهم أو رفضهم، أو استخدموا كلمة “لا” في مواجهة موقف سياسي، وارتأوا أن الأكثر نبلًا ونقاءً هو تسجيل حقهم الإنساني والدستوري في الرفض والاعتراض.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا