صباح يوم 23 يوليو/تموز 1952، التقى السفير الأمريكي في القاهرة بالقائم بالأعمال البريطاني ليسأله عن نية بلاده في حال إذا طلب منها ملك مصر المعزول فاروق تدخل بريطانيا لتأمين حياته، وألمح له أن «التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي المصري سيتسبب في إحداث كارثة».
بالتوزاي أبلغ وزير الخارجية الأمريكية دين أتشيسون ممثل بريطانيا في واشنطن بأنه «طبقا للتحليلات الخارجية الأمريكية فإن حركة الجيش التي أزاحت الملك لا تتعدى كونها شأنا داخليا صرفا»، وأخطر الأمريكان بريطانيا رسميا بأن «الولايات المتحدة لن تتدخل مع القوات البريطانية لصالح الملك فاروق».
اقرأ أيضًا.. اللعب بنار “الإخوان”
حاولت أمريكا بكل وسعها منع البريطانيين من اتخاذ أية إجراءات فعالة ضد حركة الضباط الأحرار، وسعت إلى تبديد الانطباع الذي وصل إليهم بأن الشيوعيين والإخوان المسلمين هم من وراء هذا الانقلاب، وضح ذلك في رسالة تسلمتها الخارجية البريطانية من نظيرتها الأمريكية في 24 يوليو/تموز أكدت فيها واشنطن أنها «تعرف كل شيء عن هوية العناصر الثورية التي نفذت الانقلاب» وأنها على دراية كبيرة بتوجهاتهم.
وفي واشنطن بذل مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى جهودا كبيرة لإقناع السفير البريطاني في واشنطن بأنه من الصعب على شخص مثل علي ماهر الذي تم ترشيحه لمنصب رئيس وزراء مصر أن «يستخدم كواجهة للشيوعيين».
وكانت الشائعات قد سرت بأن القوات البريطانية المرابطة في القناة تستعد للزحف نحو القاهرة، فحاول الضباط الأحرار قطع الطريق أمام احتمالات أي تدخل عسكري بريطاني وغيرهم من الأجانب الذين شكوا في أن هؤلاء الضباط يعملوا لصالح الشيوعيين أو الإخوان المسلمين.
وبعد ساعات قليلة من تحرك الضباط الأحرار وسيطرتهم على مقر الجيش، تواصلوا مع السفارة الأمريكية لينقلوا عبرها رسالة إلى السفير البريطاني مفادها أن ما يجرى شأنا داخليا مصريا وأنهم سيقاومون أي محاولة للتدخل العسكري من جانب بريطانيا لتغيير الوضع القائم.
الدكتور محمد عبد الوهاب سيد أحمد أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، يقول في كتابه «العلاقات المصرية الأمريكية من التقارب إلى التباعد.. 1952-1958» إن صناع القرار في واشنطن بنوا موقفهم تجاه الحركة الجديدة والتي أرادوا أن يحيدوا موقف بريطانيا منها بناء على العديد من الدراسات التي قدمت إليهم وكان من جملتها أحد تقارير المخابرات والذي رفع إليهم تحت عنوان «النتائج المحتملة للاحتلال البريطاني للقاهرة والإسكندرية».
وأشار تقرير المخابرات الأمريكية إلى أن المعالجة العسكرية للموقف سوف تؤدي إلى نمو وتقوية شوكة الاتجاهات المتطرفة وستساعد على نمو الدعاية الشيوعية التي تركز على أن «الغرب الاستعماري يتآمر ويسعى للسيطرة على الشرق الأدنى».
ومنذ الساعات الأولى للثورة، حاولت العناصر الثورية، بحسب عبد الوهاب، إبراز انحيازها للغرب، واتضح ذلك حين ذهب المتحدث الرسمي باسم الضباط الأحرار إلى السفارة الأمريكية صباح 24 يوليو/تموز، وأكد أنه «سيتم الحفاظ على الأمن الداخلي مهما تكلف الأمر وشدد على معادة الانقلاب للشيوعية».
ونقل الصاغ حسين فوزي النجار المتحدث باسم الضباط الأحرار رسالة إلى السفارة الأمريكية تؤكد أن «سياسة الجيش هي تصفية الموقف الداخلي»، وأن هذه السياسية تنوي «إعادة تنظيم فروع المخابرات بالجيش والشرطة بمساعدة المخابرات الأمريكية والبريطانية من أجل تنظيم حملة ضد الشيوعية»، وكانت تلك محاولة لكسب التأييد الأمريكي في هذه المرحلة، حتى تقنع واشنطن بريطانيا بعدم التدخل عسكريا في مصر.
كان الأمريكان يتابعون الوضع الداخلي في مصر عن كثب، وذهبت تقاريرهم إلى أن هناك حدثا جللا سيغير الأوضاع المهلهلة في ذلك البلد الذي شهد العديد من الاضطرابات منذ بداية عام 1952، في المقابل كان الإنجليز يغطون في ثبات عميق فرغم وضع الحكومة البريطانية وأجهزتها الأمنية، ما يجري في الشارع المصري تحت المجهر، ورغم محاولة خبرائها التوصل إلى تقدير موقف حقيقي للأزمة التي تصاعدت عقب إقالة حكومة الوفد عشية حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني من ذات العام، إلا أن أحدا من هؤلاء الخبراء لم يتوقع ما ستصل إليه الأمور.
في آخر تقرير أعدته السفارة البريطانية قبل الثورة بعشرة أيام فقط، وأرسلته إلى الخارجية البريطانية فى 13 يوليو/تموز 1952، قدم القائم بالأعمال البريطانى كريزويل تصور خبراء السفارة البريطانية بمصر لتطور الأوضاع السياسية الداخلية فى البلاد فى الشهور الثالثة التالية (يوليو/تموز –أغسطس/آب – سبتمبر/أيلول 1952).
التقرير الذي عرضه المؤرخ الكبير الدكتور رؤوف عباس حامد في كتابه «تاريخ مصر.. إلى أين؟»، يبين إلى أى مدى كانت أحداث الثورة مفاجئة بالنسبة للإنجليز الذين كانوا يضعون أيديهم على نبض الحياة السياسية فى مصر.
«إن نوايا الملك فاروق هى مفتاح الموقف كله، فمنذ 26 يناير لدينا الدليل الكامل على أنه كان على استعداد للتخلص من أي وزارة تمارس سياسة تتعارض مع أهدافه الخاصة، ولهذا السبب يصعب تحدي السياسة التي سوف تتبعها وزارة حسين سري باشا الذي تولى السلطة فى 2 يوليو، فمهما كانت أفكار حسين سري فإنه لن يتم تنفيذها إلا إذا تطابقت مع أهداف الملك»، يقول التقرير.
وذهب التقرير إلى أن الملك فاروق أراد بإسقاط وزارة نجيب الهلالي ومجيء سري إلى الحكم، الحيلولة دون عودة الوفد إلى السلطة واستمرار العمل بالأحكام العرفية، مع بذل الوعود بالقضاء على الفساد وإصلاح قانون الانتخاب دون الإقدام على عمل حقيقى فى هذا الاتجاه.
وأشار التقرير إلى أن الملك أراد أيضا التوصل إلى حل للمسألة المصرية يعطى القصر ووزارته رصيدا سياسيا فى مواجهة الوفد، وفى حالة اضطراره إلى إجراء انتخابات في أكتوبر/تشرين الأول 1952 فإن عليه أن يعقد صفقة مع الوفد، تحقق نوعا من التوازن بين أهداف الطرفين، كما استبعد التقرير اتجاه الملك إلى تعطيل الدستور.
وبعد استعراض لتصريحات رئيس الوزراء المكلف حسين سري باشا عن توليه الوازرة والصعاب السياسية التي تواجهها، انتهى التقرير إلى النتائج التالية:
• أن التطورات السياسية على مدى الشهور الثالثة القادمة (يوليو/تموز – أغسطس/آب – سبتمبر/أيلول 1952) سوف ترتبط بإرادة الملك ومصالحه الشخصية.
• أن الملك سوف يعمل على تفادى عودة الوفد للحكم بقدر الإمكان دون أن يورط نفسه فى صراع علنى معه لإبقاء خط الرجعة مفتوحا إذا اضطرته الظروف إلى التعاون والسماح له بالعودة إلى الحكم.
• أن حكومة سري ضعيفة ولا مفر لها من مداهنة الملك حتى تستمر فى السلطة، ولا تستطيع أن تتبنى خطة للإصلاح أو الدخول فى مواجهة مع الوفد.
• أن الحركات المتطرفة قد لا تظهر بصورة فورية لأن الحكومة ستعمل على صرف الأنظار عن الأحوال الداخلية بإثارة الانتباه إلى المشاكل الدولية، غير أن التوتر السياسى سوف يزداد مع الفشل فى معالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
• أن سري باشا سيعمل على التوصل إلى تسوية مع الإنجليز بتأييد من الملك ومحاولة حث الأمريكان على الضغط على الإنجليز للتوصل إلى مثل هذه التسوية لكسب تأييد المعتدلين وسد الطريق أمام المتطرفين.
• أن حكومة سرى ضعيفة وأنه فى حالة عجزها عن التوصل إلى نتائج سريعة على صعيد العلاقات المصرية البريطاينة وإلى حل المشاكل الاقتصادية فإن ذلك سوف يؤدى إلى سقوطها بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر.
ورغم إدراك الإنجليز للمأزق السياسى فى مصر، إلا أنه يتضح من هذا التقرير أن السفارة البريطانية كانت تتوقع استمرار اللعبة السياسية التى بدأت عشية 26 يناير/كانون الثاني 1952 بنفس قواعدها حتى سبتمبر/أيلول على أقل تقدير، وتنبأت باحتمالات عودة الوفد إلى الحكم في حالة إجراء انتخابات حرة في أكتوبر/تشرين الأول.
أخفقت هذه الحسابات تماما، فلم يكد يصل هذا التقرير إلى لندن (22 يوليو/تموز) حتى استقالت وزارة سري، وشكل أحمد نجيب الهلالي باشا وزارته الثانية التي لم تعمر أكثر من 24 ساعة، فقد وقعت الثورة مساء نفس اليوم الذي حلفت فيه الوزارة اليمين الدستورية أمام الملك.
وفى دوائر القصر الملكي كان الأمل فى استمرار الأوضاع على ما هى عليه كبيرا، فقد قابل المستر كريزويل القائم بالأعمال البريطانى حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي مساء 22 يوليو/تموز 1952، ونقل ما دار فى المقابلة إلى وزارة الخارجية البريطانية فى برقية أرسلها الساعة الحادية عشرة مساء نفس اليوم.
كريزويل ذكر في رسالته أن حافظ عفيفي قال له: «إننى الآن أكثر ثقة بالمستقبل مما كانت عليه منذ ستة شهور مضت، فقد عاد نجيب الهلالي إلى الحكم وفق شروطه، وأن الحكومة الجديدة ستستمر فى الحكم لفترة طويلة، وقد قبل الملك شروط الهلالي، لأنه لا يقبل بديله على ماهر فى الحكم، وأن الملك الآن أصبح يدرك خطورة التدخل المتزايد للقصر فى عمل الحكومة، وأنه غاضب على إلياس أندراوس وكريم ثابت وأصبح يدرك مساوئهما، وأن الحكومة الجديدة ستكون حكومة حقيقية….».
ويقول الدكتور رؤوف عباس في كتابه المشار إليه: «هكذا عندما كان ضابط اللاسلكى بالسفارة البريطانية يرسل هذه البرقية إلى لندن الساعة 19:11 مساء 22 يوليو كانت طلائع قوات الضباط الأحرار تتجه نحو رئاسة الجيش بالقاهرة لاحتلالها، وما كادت البرقية تصل إلى لندن ظهر يوم 23 يوليو 1952 حتى أصبحت غير ذات موضوع؛ فقد فرض أولئك الضباط، الذين ظن حافظ عفيفى أن بعض الترقيات سوف تفرغ طاقاتهم الثورية، واقعا جديدا وقلبوا رأسا على عقب الحسابات… كل الحسابات».
فلم تعد السفارة البريطانية، وفقا لعباس، صانعة للأحداث بل أصبحت تستمد معلوماتها من جهة أخرى وهي السفارة الأمريكية. «إن المعلومات الخاطئة حول الشخصية التى قادت الثورة، وحول التوجه السياسى للمجموعة التى قادت الثورة بينت أن المفاجأة كانت مهولة: فقد بنيت الحسابات على أساس استمرارية الوضع السياسي القائم، وعلقت الآمال على وزارة نجيب الهلالي، وارتاح بال رئيس الديوان الملكي الذي أعلن للقائم بالأعمال البريطاني اطمئنانه للوضع قبل الثورة بساعة واحدة وأنه يعتزم السفر إلى أوروبا لقضاء أجازة صيف، فإذا بالضباط الأحرار يعصفون بكل هذه الآمال ويفتحون صفحة جديدة من تاريخ مصر المعاصر».
تكشف الوثائق التي عرضها المؤرخان رؤوف عباس ومحمد عبد الوهاب في كتابيهما هشاشة وضع المؤسسات والأجهزة البريطانية، وتشير أيضا إلى أن هناك قوة بازغة تعمل على إرث الإمبراطورية القديمة التي أجبرتها المتغيرات والظروف على لملمة أوراقها، فإذا بدولة أخرى تسحب تلك الأوراق وتعيد ترتيبها لصالحها.