في سبتمبر/ أيلول من هذا العام، تصادف الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال السفير الأمريكي في ليبيا كريس ستيفنز، وثلاثة من موظفي السفارة في بنغازي. وقتها، ألقى نائب الرئيس -آنذاك- جو بايدن كلمة رثاء مؤثرة حول ستيفنز وزملائه في بهو وزارة الخارجية الأمريكية. عندما أُضيفت أسماؤهم إلى اللوحة التذكارية للدبلوماسيين الذين قتلوا أثناء أداء مهامهم في الخارج.

اليوم، تعود ليبيا من جديد لواجهة الاهتمامات الأمريكية. حيث يقترحها البعض كبديل أو مساعد قوي، للخروج من الأزمة النفطية التي أنتجتها الحرب الروسية- الأوكرانية. مع زيارة بايدن للشرق الأوسط، ولقائه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي -أحد اللاعبين الرئيسيين في المشهد الليبي- خلال مشاركتهما في “قمة جدة للأمن والتنمية”.

ركز الرئيس الأمريكي خلال رحلته الأخيرة إلى إسرائيل والسعودية على “صنع السلام”. في إشارة واضحة إلى إقناع الرياض بتوقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل. كذلك كان من ضمن الأهداف المهمة الضغط على السعودية لزيادة إنتاج النفط. نجح مساعدو الرئيس الأمريكي في إقناع منظمة الدول المصدّرة للنفط “أوبك”، بزيادة إنتاج النفط، ببضع مئات الآلاف من البراميل في اليوم. خلال شهري يوليو/ تموز، وأغسطس/ آب.

رغم هذا، يلفت بين فيشمان، المدير السابق لشؤون شمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي. إلى أن زيادة الإنتاج السعودي -حيث يتناقش الخبراء حول مقدار ما يمكن أن تزيده السعودية فعليا على أساس مستدام- لن تعني الكثير، إذا بقي الاعتماد على إنتاج النفط الليبي غير ممكن.

اقرأ أيضا: الإمارات في ليبيا.. اللعب على التناقضات من أجل السيطرة

استقرار ليبيا والاستقرار النفطي

يشير فيشمان، في تحليل نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. أنه “قد يكون لتنشيط العلاقات الأمريكية- السعودية أهمية استراتيجية أكبر، ولكن تكثيف التعامل الأمريكي مع ليبيا طال انتظاره. كما أنه لا يتطلب تنازلات أخلاقية. في إشارة إلى تعامل بايدن مع ولي العهد السعودي بعدما وعد خلال حملته الانتخابية أن يجعله “منبوذ” عالميا.

وأضاف: يمكن أن يؤدي تحقيق الاستقرار في ليبيا إلى عودة ما بين 500 ألف ومليون برميل في اليوم إلى السوق بسرعة. كما سيوجه ذلك ضربة استراتيجية لروسيا، التي نشرت مرتزقة “مجموعة فاجنر” في ليبيا لفترة دامت ثلاث سنوات على الأقل.

بعد ثورة 2011 على نظام القذافي، انتعش إنتاج النفط في ليبيا بشكل غير متوقع إلى مستوى ما قبل الحرب. والذي بلغ 1.3 مليون برميل يومياً. ومنذ ذلك الحين، وصل إلى 1.4-1.5 مليون برميل في اليوم. لكنه انخفض إلى لا شيء تقريباً خلال الحرب الأهلية في الفترتين 2014-2015 و2019-2020.

يرى فيشمان أن الحقول ومحطات التصدير تحتاج إلى ترقيات واستثمار “لكن الأهم من ذلك هو الاستيلاء المنتظم على المرافق. من أجل ابتزاز الحكومة المؤقتة لدفع مبالغ ما. أو -في حالة الجنرال خليفة حفتر- احتلال الحقول والمحطات في المناطق التي يسيطر عليها من أجل الإيرادات.” ولفت إلى أنه في وقت ترتفع فيه الأسعار، كلف حفتر ليبيا أكثر من 3 مليارات دولار من عائدات النفط المفقودة.

لا يشكّل حل الاضطرابات السياسية في ليبيا مهمةً سهلة. في الوقت الحالي، تتوسط الأمم المتحدة في المفاوضات الجارية بين المجلسين البرلمانيين المتنافسين في ليبيا -كلاهما تجاوز فترة ولايته منذ مدة طويلة- لتحديد “أساس دستوري” لإجراء انتخاباتٍ تشتدّ الحاجة إليها والتي تم تأجيلها منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي.

يتابع: بالطبع، فإن الانتخابات ضرورية لوضع البلاد على أساس أكثر استقراراً. وقد أحرز الطرفان -بالفعل- تقدماً كبيراً في الجولة الأخيرة من المحادثات، ولكنّ نقطة خلافية بقيت قائمة بشأن شروط الترشح. والتي تُعد أساساً مفتاحياً لإمكانية ترشُّح حفتر أو الشخصيات الإشكالية الأخرى -مثل نجل القذافي سيف الإسلام- للرئاسة مجدداً.

الدعم الدولي وتنشيط الدبلوماسية الأمريكية

يُعتبَر اتضاح المسار المؤدي إلى الانتخابات أهم من الخلاف القائم حول شرعية الحكومة المؤقتة الحالية. بينما “ينفد صبر الشعب الليبي بشكل متزايد، مع انتشار الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد ضد الطبقة القيادية المتعصبة. بسبب الجمود السياسي، وندرة الخدمات الأساسية”.

“طوال الفترة الماضية، دعمت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون جهود الأمم المتحدة، ولكن ليس بشكل كافٍ”. كما يرى المدير السابق لشؤون شمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي. ففي مراحل مختلفة، عقدت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مؤتمرات للضغط على “الأطراف المعنية”. من أجل التوصل إلى تسوية سلمية “لكن تلك الجهود لم تستمر، وسرعان ما وقع على عاتق الدبلوماسيين من المستوى الأدنى العمل معا على نقاش الليبيين. بينما عملت جهات فاعلة أكثر نشاطاً في المنطقة في ذات الوقت على تقويض التقدم المحتمل بشكل روتيني”.

من جانبها، ركّزت الولايات المتحدة، مؤخراً، على آلية اقتصادية. من أجل دفع “مصرف ليبيا المركزي” و”المؤسسة الوطنية للنفط” إلى معالجة الشكوى الأساسية للّيبيين في شرق البلاد، وهي عدم توزيع عائدات النفط بشكل عادل وشفاف.

بالفعل، أقرّ فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المعيّن من قبل مجلس النواب الليبي. والذي “يفترض” سيحل محل “حكومة الوحدة الوطنية” المعترف بها دولياً. بأن “استراتيجية حصار النفط ستنتهي بمجرد تمويل ميزانيته”. وأدت عمليات إغلاق المنشآت الأخيرة إلى انخفاض الإنتاج الليبي بنحو 600 ألف برميل في اليوم، منذ بداية عام 2022. وهو ما يعادل انخفاضاً يزيد عن ضعف زيادة “أوبك”، التي تعهدت بها السعودية والإمارات.

اقرأ أيضا: إغلاقات النفط الليبي.. استدعاء الخارج في الصراع بين “الوحدة” و”الاستقلال”

صراع أمريكي- روسي على محابس النفط

بينما كانت القوى على الساحة الليبية تعمل على جعل النفط رهينة المفاوضات، حرص باشاغا على نقل رسائل طمأنة للقوى الغربية. مؤكدا خلال حوار مع صحيفة The Telegraph البريطانية أن “ليبيا يمكن أن تساعد في تعويض النقص في إمدادات النفط الروسي إذا ساعدها الغرب على التعافي من سنوات الحرب”.

وأوضح رئيس الوزراء أنه “من خلال الروابط التجارية التي تأسست، يمكن تحسين حياة الشعب الليبي وتوفير الموارد التي نعلم أن أوروبا والعالم بحاجة إليها”..

لكن في مارس/ أذار الماضي، أغلق مسلحون بمنطقة الزنتان -إحدى مدن الغرب الليبي التي تبعد عن العاصمة بنحو 170 كيلو متر- صمام خط نفط حقلي “الشرارة” و”الفيل”. والذي يربطهما بميناء مليتة النفطي، ما أفقد ليبيا 330 ألف برميل يوميا من صادراتها النفطية.

هذا الأمر، في ذروة ارتفاع أسعار النفط، فجّر غضب الإدارة الأمريكية. التي كانت تقود تحركات وتمارس ضغوطا على الدول المصدرة للنفط، لزيادة صادراتها للسوق الدولية من أجل استقرار الأسعار. نتيجة الاضطراب الناجم عن الحرب الروسية على أوكرانيا.

حينها طالب المبعوث الأمريكي إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، بفك الحصار عن النفط فورا. ولكون الزنتان، تقع في منطقة سيطرة حكومة الوحدة، أمر الدبيبة، قواته بالتحرك لفتح الصمامات بشكل عاجل. بينما موسكو -التي تنحاز لحكومة باشاغا- من مصلحتها تراجع صادرات النفط الليبية، لأنه يعقد المساعي الغربية لوقف استيراد المحروقات من روسيا.

استخدام الأساليب الصعبة مع حفتر

تكمن أزمة الثروات النفطية في فكرة أن وجود آلية محايدة لتوزيع عائدات النفط إلى حين إجراء الانتخابات، سواء برعاية دولية أو اتفاق ليبي داخلي. من شأنها أن تمنح حفتر وحلفاءه -مثل باشاغا- القدرة على السيطرة على عائدات النفط. دون ضمان تسوية سياسية “وإذا حصلوا على الإيرادات، فلن يعود لديهم حافز لدعم الانتخابات”.

يرى فيشمان أنه “حان الوقت لاستخدام الأساليب الصعبة مع حفتر”. وهو أمر لم تكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة على استعداد للقيام به.

يقول: يجب إخباره بشكل لا لبس فيه، بأن عليه رفع أي إغلاق لمنشآت نفطية قبل قبوله في أي عملية سياسية. وبصفته مواطناً أمريكياً، يمكن تجميد أصوله، ويمكن توسيع دعوى قضائية مدنية ضده مؤخراً في ولاية فرجينيا، حيث يُتهم بممارسة التعذيب.

وتابع: يجب إبلاغ مصر، المدافع الرئيسي عن حفتر. بأن دعمها له يضرّ بالمصالح الأمريكية. وعلى الرئيس بايدن أن يوضح للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن مصر مسؤولة أيضاً عن إعادة إنتاج النفط الليبي إلى الخط. وفي الوقت نفسه، يجب أن تتوقف الاشتباكات بين الجماعات المسلحة الموالية لكل جانب.

وأوضح الدبلوماسي الأمريكي السابق أن بإمكان مصر وتركيا -وهما الداعمان الرئيسيان لجانبي الصراع في ليبيا- الضغط من أجل هذا الشرط. لأن “أياً من الدولتين ليس لديها مصلحة في رؤية العودة إلى الحرب الأهلية”. لافتا إلى أنه من الصعب تصوّر حدوث مثل هذا التنسيق الدبلوماسي دون قيام تنسيق نشط من قبل الولايات المتحدة.