كل هذه التصريحات تم إطلاقها تمهيدا لقمة الناتو في بولندا في يوليو 2016. وبالتالي، ليس غريبا أو مفاجئا أن تكون بولندا تحديدا في مقدمة الدول الأطلسية. فرئيس مكتب الأمن الوطني البولندي بافيل سولوه قال إنه “بصرف النظر عن أي شائعات وأنباء في وسائل الإعلام، فإن رأي الحلف بأسره قاطع، ولن تكون هناك عودة إلى العمل كالمعتاد مع روسيا.. ورغم موقف روسيا، فإن قمة الناتو في وارسو ستشهد تحولا، حيث ستتخذ قرارات توسيع الحضور العسكري للناتو شرقا، بما في ذلك في بولندا.. ولن تكون هناك قواعد كلاسيكية، إلا أن ذلك الحضور الدولي الدائم يهدف إلى حماية الدول الأعضاء، وليس إجراء تدريبات فقط”. أما وزير الخارجية البولندي فيتولد فاشيكوفسكي فقد رأى أن بلاده ستوافق على الدعوة لاجتماع مجلس “روسيا- الناتو”، فقط بعد أن يتم تحديد التزامات الحلف بتعزيز الجناح الشرقي، واتخاذ قرار بشأن التواجد العسكري للحلف على أراضيها.
وعلى الرغم من كل هذه التصريحات البولندية والأمريكية، وتصريحات دول البلطيق ضد روسيا، أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج، في 31 مايو 2016، أن الحلف يرغب بأن يجتمع مجلس “روسيا- الناتو”، قبل انعقاد قمة الحلف المرتقب في يوليو في العاصمة البولندية وارسو. وشدد على أن “الناتو لا يبحث عن مواجهات مع روسيا، نحن لا نريد حربا باردة جديدة”. ولكنه استدرك واصفا روسيا بأنها “أحد التهديدات للناتو من جهة الشرق”. كما أعلن ستولتنبرج أن النفقات الدفاعية للدول الأوروبية الأعضاء في الحلف ستزداد لأول مرة منذ سنوات طويلة. وقال إنه “بحسب التنبؤات لعام 2016 التي تعتمد على المعطيات الواردة من الدول الأعضاء، سيصبح العام الجاري 2016 هو العام الأول الذي سيشهد زيادة النفقات على الدفاع للحلفاء في أوروبا لأول مرة منذ سنوات طويلة”. وأشار إلى أن دول الحلف تواجه آفاقا غامضة وعددا أكبر من الأخطار والمشاكل في مجال الأمن يزيد مقارنة بالجيل السابق، مؤكدا ضرورة تعزيز الوحدة والقدرات والاستقرار.
من الواضح أن قادة الحلف كانوا يعرفون جيدا أن روسيا حريصة على حضور مجلس “روسيا– الناتو” لأسباب كثيرة، على رأسها تفادي العزلة. وبالتالي، فالحلف وضع موسكو أمام اختيارات صعبة، ولم يترك لها أي مجال للمناورة. وأمام هذه المعادلة الصارمة، صرح المندوب الروسي الدائم لدى حلف الناتو آنذاك ألكسندر جروشكو بأنه لم تجر بعد أي مشاورات حول اجتماع جديد لمجلس “روسيا– الناتو”. هذا إضافة إلى تحذيرات الكرملين ووزارة الخارجية الروسية المتكررة من خطوات الناتو والولايات المتحدة وتلاعبهما بجوهر وصمام أمان الأمن الأوروبي.
وفي منتصف عام 2016، كانت تجري حملة تبادل اتهامات شديدة الوطأة بين موسكو وواشنطن. وعلى خلفية المواجهة الباردة بين الطرفين، سواء في أوكرانيا أو في سوريا أو حول نشر عناصر الدرع الصاروخية في أوروبا. فالسفير الأمريكي السابق في روسيا جون تيفت، أعلن أن منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية غير موجهة ضد روسيا، ولا تعرقل الإمكانيات الاستراتيجية الروسية. وأكد تيفت على أن “موسكو هي التي ترفض الحوار حول منظومة الدرع الصاروخية، ورفضت كافة مقترحات تطوير التعاون في هذا المجال”.
هذا التصريح جاء ردا على اتهامات روسيا بأنها قدمت عروضا إلى الولايات المتحدة لمناقشة برنامج نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، حيث قال نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف إن الولايات المتحدة رفضت العروض الروسية لمناقشة برنامج الدفاع الصاروخي الأمريكي ووصف الرفض الأمريكي بأنه خطوة “خطيرة للغاية”. وقال المسؤول العسكري الروسي إن المشروع المدعوم من الولايات المتحدة يثير المشاكل لروسيا والصين، مشيرا إلى أن موسكو دعت واشنطن مرارا لإعادة النظر في خططها. وأوضح: “لقد عرضنا عليهم التعاون كثيرا وأوجدنا سبلا لحل الموقف، لكننا لم نتمكن من إقناعهم بمواصلة الحوار بشأن هذه القضية. وأعتقد أن الوقت ليس هو الأنسب بالنسبة لهم لإجراء مشاورات”. وشدد أنطونوف على أنه “من الخطير للغاية أن تحمي دولة أمنها على حساب أمن الدول الأخرى”.
وفي المقابل قال تيفت إن “منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية ليست مرتبطة بروسيا. وهي غير موجهة ضد روسيا ولا تقوض قدرات الردع الاستراتيجية الروسية. إن هدف منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية هو التغطية الكاملة وحماية دول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو من المخاطر المتنامية المرتبطة بانتشار الصواريخ الباليستية”. واعترف تيفت بأن “الولايات المتحدة وحلف الناتو اقترحا على روسيا، عدة مرات، التعاون في مجال الدرع الصاروخية، بما في ذلك إنشاء مجلس “روسيا- الناتو”، وخطط لتحقيق الشفافية بين الطرفين.. ولكن روسيا رفضت كل هذه المقترحات التي كان بإمكانها أن تساهم في تطوير التعاون والشفافية. الجانب الروسي هو من أنهى العمل باتفاقية حوار الشراكة في العام 2013”.
أما السكرتير الصحفي للسفارة الأمريكية في موسكو، ويليام ستيفينس، فقد رد مباشرة على إعلان موسكو بقوله، إن “واشنطن تعتبر التصريحات حول عدم رغبة الولايات المتحدة في التعامل مع روسيا في قضايا الدرع الصاروخية نوعا من الافتراء. فقد أعربت الولايات المتحدة، مرارا وبشكل واضح، عن استعدادها للتعامل مع روسيا في طيف واسع من القضايا المتعلقة بالاستقرار الاستراتيجي، كما أشارت إلى ضرورة اتخاذ خطوات حقيقية وهامة لتحقيق مزيد من الأمن القابل للتنبؤ”.
واستبق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كل ذلك وأعلن، أثناء زيارته إلى اليونان في 27 مايو 2016، أن موسكو ستضطر للرد على نشر منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية برومانيا، مؤكدا التأثير السلبي لنشرها، حيث أشار إلى أن الولايات المتحدة كانت قد خرجت بصورة منفردة من اتفاق الدفاع الصاروخي، وبذلك، بدأت بتقويض أسس الأمن الدولي. وأوضح بوتين أن “روسيا، منذ بداية القرن، تكرر باستمرار عبارة واحدة هي أننا سنرد بشكل ما. ولكن لا أحد يسمعنا، ولا يريد أحد محاورتنا، ولا نسمع شيئا غير العبارات العامة بأن المنظومة ليست موجهة ضد روسيا ولا تهدد أمنها”. وفي النهاية قال إن “روسيا ستضطر لاتخاذ تدابير جوابية لأن منظومة الصواريخ المضادة في رومانيا يمكن تحويلها إلى منظومة هجومية بمجرد تغيير البرمجيات، مضيفا أن الأمر نفسه سيتكرر في بولندا”.
غير أن المثير هنا أن مندوب روسيا الدائم لدى حلف الناتو ألكسندر جروشكو، ظهر على قناة (روسيا 24) ليؤكد أن “نشاط الناتو بالقرب من الحدود الروسية ليس تهديدا مباشرا لروسيا، ولكنه يخلق مخاطر جادة، لأننا نرى أنه بالقرب من حدودنا يتسبب في واقع عسكري جديد”. وذهب جروشكو إلى أنه “بذريعة الأزمة الأوكرانية، تم افتعال تهديد جديد من الشرق وبناء آلة عسكرية.. وأن ما يجري في البلطيق ليس إلا بناء عسكري.. ولكننا نملك كافة الإمكانيات لإيجاد ردود ملائمة”. ومن أجل التخفيف من حدة تصريحات بوتين، أكد جروشكو على عدم وجود خطط لدى روسيا لمهاجمة بولندا، وأن تصريحات وارسو حول هذه النقطة عبثية”. ثم انتقل إلى قلق بلاده من البرامج الثنائية للتعاون بين الدول الأعضاء في الناتو وأوكرانيا، وبالذات في ما يتعلق بتدريبات القوات الخاصة والمسلحة الأوكرانية.
من الواضح أن كلا الجانبين الروسي والأمريكي كان لديه ما يخفيه. أو بتعبير أدق، لديه أسبابه التي يخفيها وراء حجج ومراوغات. ولا يريد أي طرف منهما الإفصاح عن الأسباب الحقيقية وراء كافة الإجراءات القائمة بشأن الدرع الصاروخية أو توسع الناتو شرقا، أو الأزمتين السورية والأوكرانية. كان هناك صراع قاس ومعركة عض أصابع بين موسكو وواشنطن في عدد ضخم من الملفات الساخنة والخفية في آن معا، وغالبيتها مرتبطة بالطاقة وطرق نقلها وتجارة السلاح، وإيجاد مناطق جديدة لتصريف التراكمات المالية الضخمة وفوائض القيمة التي لم تعد مناطق نفوذهما تتسع لها.
هذا المشهد التاريخي المهم يمكنه أن يفسر ولو جانب أو اثنين من النتائج الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا والتي ظهرت في قمة حلف الناتو في مدريد يوم 29 يونيو 2022. فقد كانت روسيا تريد وقف تمدد حلف الناتو نحو حدودها، ووقف حصول الدول الأخرى على عضويته وبالذات أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وعمل توازن قُوَىَ مع الغرب بمكوناته الثلاثة (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو).. فماذا حدث؟! حدث أن:
– أصبح حلف الناتو يقف اليوم على حدود روسيا المباشرة وعلى أكثر من اتجاه!
– التحقت فنلندا والسويد بالحلف، وعلى المديين المتوسط والبعيد قد يتم إلحاق مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا! وربما أيضا دول أخرى.
– تشكل تكتلان جديدان في منطقة آسيا والمحيط الهادي. مجموعة (كواد) المكونة من 4 دول هي الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان. وهي نواة لمجموعة أوسع قد تنضم إليها دول آسيوية أخرى ليظهر شكل محدد له مهام وأهداف وبرامج عملية على الأرض علميا وتقنيا من جهة، وعسكريا وأمنيا واقتصاديا من جهة أخرى. ومجموعة “أوكوس” التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا. وهي مجموعة تعاون أمني- عسكري بالدرجة الأولى تضم رموز مهمة في أمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا (أي في 3 قارات). وهذا له دلالات مهمة ومخيفة قد تطرح تداعيات يخشى البعض أن يناقشها علنا، على الأقل في الوقت الراهن.
– زيادة ميزانيات الدفاع في بلدين كانت عليهما قيود معينة في مجالات العسكرة والتسليح، وهم ألمانيا واليابان.
– يظل التوازن النووي لصالح الغرب، حيث هناك 3 قوى نووية في مواجهة روسيا النووية.
– روسيا تعيش حصارا غير مسبوق، ومحرومة عمليا من الحركة خارج حدودها إلا في نطاقات المنظمات السياسية مثل الحوثيين وحزب الله وحماس وطالبان، والتعامل مع بعض الرؤساء مثل بشار الأسد ونيكولاس مادورو. إضافة إلى تعاملات محدودة مع بعض دول شمال أفريقيا ومنطقة الخليج.
– باتت روسيا مرة أخرى محرومة من التقنيات الدقيقة. وسوف تعود مرة أخرى لسرقة وقرصنة الأسرار العلمية كما كان عليه الوضع إبان وجود الاتحاد السوفيتي السابق.
– صارت روسيا محاصرة بأجواء معادية. بمعنى أنها محاطة بدول معادية بالفعل سواء في البحر الأسود أو بحر قزوين من جهة، إضافة إلى دول مثل أوكرانيا وجورجيا وبولندا والنرويج وفنلندا إستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا من جهة أخرى.
– لم يعد يوجد إلا طاجيكستان وقيرغيزستان فقط تدينان بالولاء لروسيا تحت ضغوط وتهديدات أمنية وعسكرية، أما بقية دول آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان وكازاخستان فلديها خطط وتحالفات أخرى. كما أن دول مثل أذربيجان لديها خطط مع تركيا من جهة، ومع الولايات المتحدة وفرنسا من جهة أخرى. أما أرمينيا التي تحتاج دوما إلى روسيا، فقد بدأت تفقد الثقة بعد أن انحازت روسيا إلى أذربيجان في حربها ضد أرمينيا، بهدف كسب ودها ومنعها من التوجه التام نحو تركيا والغرب.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا