على الرغم من امتناع تركيا عن استخدام حق النقض ضد انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو خلال قمة مدريد. إلا أن التفاؤل الأولي بشأن التقارب مع الغرب، والذي ظهر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، قد تلاشى. كذلك، إلى جانب مساوماته داخل الناتو، أثار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ضجة دولية بتهديد سيادة اليونان. وكذلك إعلانه عن خطط جديدة للتوغل في سوريا.

أدت هذه التحركات -معًا- إلى إعادة طرح الأسئلة حول التوجه الأساسي للسياسة الخارجية لتركيا. والتي يمكن أن تكون جزءا من استراتيجية طويلة المدى، وكذلك، قد تكون إشارة إلى عودة سياسة المواجهة إزاء الغرب، كما حدث خلال عام 2020.

في استطلاع أعّده المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية SWP، تناول عدد من خبراء الشأن التركي، التحركات الدبلوماسية والعسكرية. على الصعيدين الأوروبي والشرق أوسطي. وسط تحديات عالمية وإقليمية متغيرة. الآن، ترتبط تركيا مع روسيا بعلاقات وثيقة مكنتها من تعويض التهميش الدولي الذي تعرضت له من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.

وقد استثمرت تركيا -بالفعل- إمكاناتها الجيوسياسية في شراكتها مع روسيا. الأمر الذي أكسبها نفوذًا دوليًا. مثل تفعيل خط غاز “ترك ستريم”، الذي جعل تركيا مركزًا استراتيجيًا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. وعلى مستوى الداخل التركي، حصل أردوغان على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. ما مكنه من تثبيت مقاليد الحكم في يده.

اقرأ أيضا: تركيا تتحرك من روسيا إلى الغرب.. لماذا؟

تطوير استراتيجي لتركيا

يلفت حسين باغجي، الباحث بمعهد السياسة الخارجية في أنقرة. إلى أن تحرك تركيا لتأجيل الطلبات الفنلندية والسويدية لعضوية الناتو، لم يكن يهدف إلى إعاقة القرار الاستراتيجي الكبير لتوسيع الحلف ردًا على العدوان الروسي على أوكرانيا. ولكن بدلاً من ذلك، لمعالجة القضايا الأمنية على المستوى الثنائي.

يقول: مصالح تركيا الأمنية المشروعة في شمال سوريا وشمال العراق. لا تتلاقى مع النهج الفنلندي والسويدي تجاه حزب العمال الكردستاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي. العوامل الداخلية، مثل الهجرة الجماعية المرتبطة بالصعوبات الاقتصادية، واستمرار القتال ضد حزب العمال الكردستاني بنجاح كبير حتى الآن. تغذي توكيد الحكومة التركية. لا تزال عملية أستانا على حالها، وتركيا هي الضامن لوحدة أراضي سوريا إلى جانب روسيا وإيران.

ويستبعد باغجي أن تتبع تركيا سياسة المواجهة مثل عام 2020 “لأن مصلحتها الوطنية الآن هي أن يكون لها قدم في الناتو والأخرى في الشرق الأوسط. من المحتمل أيضًا أن يعامل الغرب تركيا الآن على أنها “لاعب إقليمي خاص” جزئيًا بسبب حرب روسيا ضد أوكرانيا. وأيضًا الانعطاف الأخير في علاقات تركيا مع دول الخليج وإسرائيل ومصر، والتي تتجه نحو التفضيلات الغربية.

ويشير الباحث اليوناني رونالد ميناردوس إلى أن الحرب في أوكرانيا أدت إلى تطوير استراتيجي لتركيا، وفتحت فرصًا جديدة لأردوغان للترويج لبلاده كقوة إقليمية رائدة.

يؤكد: في الفترة التي سبقت قمة الناتو في مدريد، كانت قضية العضوية الاسكندنافية تدور حول احتواء حزب العمال الكردستاني. على الأقل ظاهريًا. ومع ذلك، عند الفحص الدقيق، يمكننا أن نرى كيف “استغل” الرئيس أردوغان حق النقض. لإجبار الرئيس الأمريكي على الموافقة على بيع طائرات مقاتلة F-16 محدثة إلى تركيا.

علاوة على ذلك، فإن سياسة أنقرة تجاه اليونان متقلبة ومرة ​​أخرى تصادمية. ومع ذلك -وفق ميناردوس- فإن الصراع اليوناني التركي يدور حول أكثر من الغرور الشخصي. حيث تنتهج أنقرة استراتيجية طويلة الأجل في بحر إيجه، في انتظار الظروف المناسبة لتنفيذ المخطط الكبير لـ “الوطن الأزرق“.

إعادة ضبط مع الغرب

كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن خطوط صدع جيوسياسي، في عصر تحولت القوة إلى رؤية واسعة النطاق في أنقرة. مفادها أن تركيا تحتل الآن موقعًا رئيسيًا في تشكيل النظام العالمي الناشئ متعدد الأقطاب. الذي سيكون فيه دور القوى الإقليمية بالغ الأهمية. كما يلفت توبا إلدم، الباحث بمركز دراسات تركيا التطبيقية (CATS).

يقول: بصفتها داعمًا طويل الأمد لسياسة الباب المفتوح لحلف الناتو. لم تكن معارضة تركيا الأولية لعضوية فنلندا والسويد رفضًا صريحًا للتوسع التاريخي للحلف. بل كان انعكاسًا للشعور بالثقة الزائدة، ووسيلة تطالب عن طريقها بأخذ مخاوفها المتعلقة بالأمن القومي، وصناعة الدفاع، في الاعتبار على قدم المساواة من قبل حلفائها الغربيين، ولا سيما الولايات المتحدة.

وتابع: تصر أنقرة على الرأي القائل بأن حلف شمال الأطلسي يجب أن يغير موقفه بأن مشاكله هي مشاكل تركيا. لكن مشاكل تركيا ليست مشاكل الناتو. يتعلق هذا أيضًا بإعلان أنقرة المفتوح عن عملية جديدة عبر الحدود في شمال سوريا. والإعلان عن خطط لإعادة توطين مليون لاجئ سوري في منطقة آمنة شمال سوريا بعد توغل محتمل، وكانت مدفوعة أيضًا بالحسابات السياسية المحلية، والرغبة في الاستفادة من المشاعر المتزايدة المعادية للاجئين. وبالتالي، تعزيز الدعم قبل انتخابات 2023 الحاسمة.

وأوضح أنه من المتوقع أن” يستمر خطاب السياسة الخارجية الحازم لتركيا. لأنه يساعد شاغلي المناصب على إحداث تأثير حاشد داخل ناخبيها”.

ينفي طوني ألارانتا، الباحث بالمعهد الفنلندي للشؤون الدولية في هلسنكي. الرأي القائل بأن تركيا أجرت إعادة ضبط مع الغرب في عام 2021. يرى أن “محاولة إعادة الضبط المزعومة كانت تهدف إلى جذب إدارة بايدن إلى نوع مماثل من المساومة التي استمتع بها أردوغان مع ترامب. ولما ثبت أن هذا غير قابل للتحقيق، تخلت تركيا عن الإدلاء بمزيد من التصريحات التعاونية، وتم التركيز على محاولة تطبيع العلاقات مع دول الشرق الأوسط”.

ويشير ألارانتا إلى أن محاولة تركيا في الحصول على حكم ذاتي استراتيجي وتقليص اعتمادها على الغرب تتطلب أقطابًا مختلفة. مثل روسيا والصين، بحيث يمكنها استخدامها كقوى موازنة.

اقرأ أيضا: تعاون تركيا وإسرائيل في نقل الغاز إلى أوروبا.. من يحلم ومن يتوجّع

سياسة الرجل الواحد

يشير بول ليفين، من معهد الدراسات التركية بجامعة ستوكهولم. إلى أنه عند محاولة فهم السياسة الخارجية التركية، في ظل حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه أردوغان. فإنه من المفيد مراعاة المصالح الوطنية المتصورة على نطاق واسع، والمصالح الشخصية، ونظرة القيادة الحالية للعالم. فبعض الشكاوى التركية -مثل نزاع ترسيم الحدود البحرية مع اليونان والدعم الغربي لوحدات حماية الشعب في سوريا- تتجاوز الخطوط الحزبية “هنا، لا تتوافق مصالح تركيا ببساطة مع مصالح العديد من حلفائها. ويجب أن نتوقع من أي حكومة تركية تقريبًا الحفاظ على موقف مماثل”.

مع ذلك، فقد أصبح صنع السياسة الخارجية التركية غير مؤسسي، وأصبح متروكًا بشكل متزايد لرجل واحد.

يقول ليفين: حاليا، الرئيس قلق بشأن بقائه السياسي. الانتخابات قادمة في عام 2023 وأرقام اقتراعه منخفضة. الاقتصاد يتدهور، ويستمر الاستياء من اللاجئين السوريين في الغليان. تستمر خلافات كهذه في الظهور لأن هناك “عامل دفع” أساسي يدفع تركيا وحلفائها الغربيين للانفصال عن بعضهم البعض. وفقًا لقيادة حزب العدالة والتنمية، لم يعد الوطن الطبيعي لتركيا هو -بالضرورة- المجتمع الأوروبي الأطلسي للدول الديمقراطية العلمانية.

أيضا، يشير لارس هوجوم، الأستاذ بمركز دراسات الاستخبارات، بالمدرسة النرويجية للاستخبارات في أوسلو. أن أنقرة “تستغل موقعها في الناتو، والضعف النسبي لروسيا، لمتابعة أهداف السياسة الخارجية والأمنية المركزية”.

يؤكد: من المحتمل أن تثير أي حكومة تركية مسألة الدعم الخارجي للمنظمات الكردية المسلحة. فيما يتعلق بالطلبات السويدية والفنلندية لعضوية الناتو. ومع ذلك، فإن نهج أنقرة تجاه هذه المسألة، يجسد استراتيجية السياسة الخارجية الحازمة، والمعاملات التي رأيناها في عهد أردوغان، والتي يتم فيها استخدام المواجهة والمصالحة بالتبادل.

يضيف: ربما تكون العلاقات مع الغرب قد دخلت الآن مرحلة جديدة من المواجهة. لكن، لا يوجد تغيير حقيقي في استراتيجية تركيا. أشك في أن يكون للحكومة التركية أي هدف نهائي محدد في تحركاتها الأخيرة، باستثناء انتزاع التنازلات في قضايا السياسة الخارجية. مثل جعل الناتو يركز أكثر على التحديات الأمنية التركية، وكبح الدعم الخارجي للمنظمات الكردية المسلحة، وتيسير تصدير المعدات والتكنولوجيا العسكرية.

هل يوجد أي تفاؤل بشأن سياسة تركيا الخارجية؟

تؤكد ليزيل هينتز، من جامعة جونز هوبكنز، بواشنطن. أن التقارب السيبراني مع الولايات المتحدة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا “كان في غير محله”. وأن اعتراضات تركيا في حلف شمال الأطلسي -جزئيًا- تنبع من محاولاتها لاستخدام نفوذها الحالي للحصول على تنازلات، بعد الاستياء التركي الواسع النطاق تجاه الغرب لعدم أخذ مخاوفها على محمل الجد.

تقول: من دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب، ورفض تسليم العقل المدبر للانقلاب فتح الله جولن -وكلاهما زاد من القيمة السياسية المحلية لمعاداة أمريكا- إلى تعاون تركيا في مجالي الطاقة والأمن مع روسيا. لا يبدو في الأفق أي تقارب حقيقي مع الولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، تهدف مبادرات أردوغان تجاه الولايات المتحدة بشكل أساسي إلى تخفيف التعقيدات الأمنية والدفاعية الناتجة عن شرائها أنظمة S-400 الروسية.

وفي سياق متصل، اندلع غضبه من رئيس الوزراء اليوناني، بعد ما اعتبره البعض اجتماعًا مشجعًا بين الاثنين في مارس/ أذار. بعد أن حث الأخير الولايات المتحدة على عدم بيع طائرات F-16 لتركيا.

ويؤكد إيلهان أوزجل، أستاذ العلاقات الدولية بأنقرة، أن أردوغان في أضعف نقطة له منذ وصول حزبه إلى السلطة قبل 20 عامًا.

يقول: إنه يفقد قوته في السياسة الداخلية، والاقتصاد في حالة سقوط حر. وتركيا معزولة إقليمياً، وتواجه إدارة أمريكية غير ودية، وقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تعقيد علاقات الرئيس أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي كانت إشكالية بالفعل. على الرغم من أن حكومة أردوغان قد اتخذت موقفًا أكثر تصالحية تجاه الغرب. فقد أدرك أن رضوخه للضغط الغربي لا يؤدي إلى فوائد فيما يتعلق بإلغاء العقوبات، أو حتى تلقي دعوة رسمية إلى البيت الابيض.

يشير أوزجل إلى أنه في ظل هذه الظروف غير المواتية، ومع محاولته الأولى لتطبيق المعاملات من موقع ضعيف. كان أردوغان يستخدم أوراقه التفاوضية الأخيرة المتبقية، سواء حق النقض علنًا داخل الناتو. أو يمكنه العمل في بحر إيجه وشمال سوريا. بهذه التحركات، يريد أن يُظهر للغرب أنه لا يزال لديه القدرة على تغيير قواعد اللعبة.