“لا تحمل الأرقام معنى في حد ذاتها إلا بوضعها ضمن سياق أو مقارنات تمنحها روحًا ومعنى وتأويلاً”.. تنطبق هذه المقولة على تسعير المحروقات بمصر، والذي ارتفع بنسبة تتراوح بين 7 و10% في آخر تعديل. فالحكومة متمسكة بأن السوق المحلية لا تزال ضمن الدول العشرة الأرخص بأسعار السولار والبنزين عالميًا. لكنها لا تتطرق في الوقت ذاته للعلاقة بين التضخم السعري للوقود عالميًا ومستوى الدخول عالميًا.
الخميس الماضي، أعلنت لجنة التسعير التلقائي للمنتجات البترولية عن رفع سعر لتر بنزين 80، الأكثر شيوعًا واستخدامًا بمصر، إلى 8 جنيهات (0.42 دولار). وكذلك رفعت سعر بنزين 92 إلى 9.25 جنيه (0.49 دولار). أما 95 الأقل استخدامًا، فوصل سعره إلى 10.75 جنيه (0.57 دولار). كما ارتفع سعر السولار ليصبح 7.25 جنيه للتر (0.38 دولار) من 6.75 جنيه (0.35 دولار). وهي الزيادة الأولى منذ عامين.
رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، قال في مؤتمر صحفي أخيرًا، إن مصر تعتبر واحدة بين أرخص 10 دول العالم في أسعار السولار. ووفق هذا التصريح، تُعد واحدة ضمن 20 دولة بأرخص سعر للبنزين على مستوى العالم.
وقد أكد مدبولي -في الوقت ذاته- على وجود دول مستوى دخل الفرد فيها أقل من مصر، وسعر المنتجات فيها أعلى من الموجود بالسوق المحلية.
قبل الزيادة الأخيرة، كانت مصر تحتل المرتبة الثامنة عالميًا في أسعار السولار، بما يعادل 0.35 دولار. بينما تتربع إيران على عرش الأرخص سعرًا بـ 0.01 دولار (سنت واحد)، تليها فنزويلا بـ 0.02 دولار، ثم ليبيا بـ0.03 دولار، وسوريا بـ 0.13 دولار. وتأتي السعودية بـ 0.16 دولار، فالجزائر بـ 0.19 دولار، ثم أنجولا بـ 0.31 دولار.
بالنسبة للبنزين، احتلت مصر المرتبة الـ 13 عالميًا. وجاءت فنزويلا في المرتبة الأولى بـ 0.02 دولار للتر. وتلتها ليبيا بـ 0.03 دولار، ثم إيران بـ 0.05 دولار، وسوريا بـ 0.28 دولار، تبعتها الجزائر بـ 0.313 دولار، فالكويت بـ 0.34 دولار. ثم أنجولا 0.37 دولار، فنيجيريا التي تُسعِره عند 0.417 دولار.
الوحيدة المستوردة بقائمة الأرخص
مصر هي الدولة الوحيدة المستوردة للنفط التي تقع ضمن الدول الأرخص عالميًا، فالقائمة تتصدرها الدول المنتجة.
لكن في عرف الكثير من الاقتصاديين، تحركات لجنة التسعير التلقائي في رفع الأسعار مرهون بنسبة الـ10% للرفع أو الخفض في كل اجتماع لها مستهدفات التضخم، التي وضعها البنك المركزي عند 7% تزيد أو تنقص بنسبة 2%.
الدول المستوردة تعتلى قائمة الأعلى سعرًا. فبالنسبة للسولار جاءت هونج كونج في المرتبة الأولى بنحو 2.8 دولار، تليها السويد بنحو 2.44 دولار، ثم أيسلندا بنحو 2.43 دولار، وسويسرا بنحو 2.38 دولار، وتتبعها المملكة المتحدة بـ 2.36 دولار. بينما تحتل الدنمارك المرتبة العاشرة بنحو 2.2 دولار للتر وبعدها هولندا في المرتبة الــ 11 بسعر 2.15 دولار للتر.
أما البنزين، فاحتلت هونج كونج المركز الأول أيضًا بـ 3.02 دولار، ثم أيسلندا بـ 2.46 دولار فالنرويج بـ 2.36 دولار، فإسرائيل بـ 2.38 دولار فالدانمارك 2.35 دولار.
من المتوقع أن تسبب زيادة سعر المحروقات في ارتفاع التضخم مجددًا، بعدما تراجع إلى 13.2% في يونيو/حزيران على أساس سنوي مقابل 13.5% في مايو للمرة الأولى خلال سبعة أشهر. وهو رقم أعلى من مستهدفات البنك المركزي للرقم القياسي للأسعار عند 7 (موجب أو سالب 2). وما يزيد أعباء الوقود في مصر هو سعر صرف الدولار ونقصه الذي يفرض ضغوطًا إضافية غير تجرك سعر البرميل عالميًا.
هل سعر اللتر المعيار الوحيد للحكم على الوقود؟
لا يمثل سعر النفط المعيار الذي يتم الحكم عليه منفردًا. بل يجب أن يتم النظر للنمط الاقتصادي الدارج والدعم الحكومي ومستوى الدخول وجودة الحياة التي تؤهل المواطنين لتحمل الأعباء.
غالبية الدول الواقعة ضمن الأغلى في سعر المحروقات تأتي بقائمة الأعلى أيضًا في جودة الحياة. وتتضمن هذه القائمة سويسرا بنحو 188.36 نقطة، تليها الدانمارك بـ 186.25 نقطة، ثم هولندا بمستوى 180.27 نقطة.
مؤشر جودة الحياة يقيس ثمانية عوامل أساسية تتضمن: القوة الشرائية (بما في ذلك الإيجار). إلى جانب السلامة، والرعاية الصحية، وتكلفة المعيشة. وأيضًا نسبة سعر الممتلكات إلى الدخل، والتلوث، والمناخ، وتكلفة المعيشة.
دولة مثل الإمارات التي رفعت أسعار البنزين 5 مرات خلال عام 2022 مقابل 3 مرات لمصر، وضعت برنامجًا اجتماعيًا لحماية المواطنين من التأثيرات، والحفاظ على مستويات المعيشة.
تضمنت الحزمة الإماراتية رفع مستوى الاستحقاق للأسر محدودة الدخل إلى 25 ألف درهم شهريًا حسب الحالة الاجتماعية. فضلًا عن مخصص سكن يتراوح بين 1500 و2500 درهم شهريًا. إلى جانب 5 آلاف درهم شهريًا، مخصصة للعاطل عن العمل ممن يتجاوز عمره 45 عامًا، والرقم ذاته للباحث عن العمل لمدة 6 شهور.
كما وضعت الإمارات أيضًا علاوة مواد غذائية تعادل 75% من قيمة التضخم. وكذا دعم شهري للكهرباء بقيمة 50% للاستهلاك أقل من 4 آلاف كيلو وات. وأيضًا للمياه بقيمة 50% لاستهلاك أقل من 26 ألف جالون شهريًا (الجالون يعادل 3.6 لتر). ذلك بالإضافة إلى علاوة الوقود دعم شهري بقيمة 85% من زيادة سعر الوقود عن 2.1 درهم للتر.
التوجه الاقتصادي.. كلمة السر في التسعير
يسود قائمة الدول الأرخص في أسعار النفط نموذج اقتصادي بعيد عن الرأسمالية. فإيران الأقل في أسعار جالون البنزين والسولار تتبنى نموذجًا يقوم على سيطرة الدولة على الاقتصاد وقطاع الطاقة. ذلك مع امتلاكها رابع أكبر احتياطي نفطي مؤكد وثاني احتياطي من الغاز الطبيعي عالميًا. أما ليبيا فظلت اشتراكية ولم تتخذ سوى خطوات بسيطة نحو اقتصاد السوق. وهي تعيش حاليًا نموذج يمكن تسميته بـ”الرأسشتراكية”.
فنزويلا أيضًا تتبع “التشافيزية” الاقتصادية القائمة على الاشتراكية والاعتماد على ملكية الدولة للمؤسسات. وفي سوريا يتم انتهاج المبدأ ذاته عبر حزب البعث العربي الاشتراكي.
وفي المقابل، فإن الدول الأعلى في سعر النفط هي دول رأسمالية صرفة؛ لا تتدخل الدولة في الاقتصاد إلا على مضض. بينما ظل القطاع النفطي مملوكا للسعودية بالكامل حتى قبل خمس سنوات، حينما بدأ الحديث عن طرح جزء من أرامكو عملاق النفط للاكتتاب بسوق المال.
بحسب بعض المحللين الاقتصاديين، فإن توجه الدول الاقتصادي يحكم طبيعة تعاملها مع النفط؛ فالدول الأرخص في أسعار السولار تعاني من مشكلات عميقة بينها عقوبات دولية، إلى جانب ارتفاع كبير في معدلات الفقر والتضخم، وتنظر حكوماتها للوقود المتوافر بكثرة وباحتياطيات ضخمة على أنه وسيلة لمنع تفاقم ملف الأسعار محليًا ودعم المنتج المحلي.
هل تدعم مصر أسعار النفط؟
مسئول بوزارة المالية يؤكد أن أسعار الوقود بعد زيادتها لا تزال مدعومة من قبل الدولة، فمتوسط تكلفة السولار خلال آخر 3 أشهر تناهز 11 جنيهًا للتر، ما يعني وجود فجوة بين سعري التكلفة والبيع (7.25 جنيه) تعادل نحو 3.75 جنيه للتر، ما يحمل الدولة نحو 157 مليون جنيه يوميًا، كما تتحمل الموازنة أيضًا أعباء تأجيل زيادات أسعار الكهرباء، حتى نهاية العام الحالي ما يحمل الموازنة عبئًا يعادل 10 مليارات جنيه.
يضيف المسئول أن الدولة حتى الآن لا تسمح بتسريب الزيادة العالمية كاملة للمستهلك المصري وتتحمل العبء الأكبر. وهو أمر حد من التضخم المحلي، فأسعار الطاقة كانت المساهم بنسبة 42% في ارتفاع معدل التضخم خلال يونيو/حزيران التي بلغت 8.6%، كما سجلت بعض دول المنطقة القوية معدلات تضخم تجاوزت الـ 20%.
افترضت وزارة المالية متوسطًا متوقعًا لسعر برميل النفط عند 80 دولارًا للبرميل خلال العام المالي الحالي 2022/2023 مقابل 75 دولارًا للعام السابق 2021\2022، وهو أقل من متوسط سعر خام برنت الحالي الذي يدور في فلك 100 دولار للبرميل.
لكن الحكومة تراهن، حاليًا، على الغاز الطبيعي إذ تستهدف تحويل 55 ألف سيارة للعمل به مقابل 31.5 ألف سيارة العام الماضي، ما يقلل الضغط على الوقود التقليدي، ويخفف أعباء استيراد من الخارج. وارتفاع سعر النفط لتفوق الافتراضات المتوقعة بالموازنة العامة للدولة بنحو دولار للبرميل سيؤدي ذلك لتدهور صافي العلاقة مع الخزانة، وبالتالي زياد العجز المستهدف بأكثر من مليار جنيه عما هو مقدر بالموازنة.