من 23 يوليو 1952 إلى 20 يوليو 2022 -وقت نشر هذه السطور- يكون قد انقضى سبعون عاما كاملة من العمل الدؤوب المتواصل لأجل إعاقة الديمقراطية في مصر، اختلف الضباط الذين تعاقبوا على حكم مصر في كل شيء تقريبا، لكنهم اتفقوا على شيء واحد هو الجامع المشترك الذي يربط بينهم والذين يجعل من السبعين عاما نضالا متواصلا يقودونه من موقعهم على رأس الدولة ضد الديمقراطية. فدولة يوليو من تاريخ إعلان الجمهورية 1953 حتى الجمهورية الجديدة 2014 – 2022 لم تخلص لشيء مثلما أخلصت في عدائها للديمقراطية، غيرت وتغيرت وبدلت وتحولت وتقدمت وتراجعت وزاغت وانحرفت عن كثير من شعاراتها ومبادئها إلا موقفها من الديمقراطية، فقد بقي عداؤها لها كما لو كان من ثوابت العقيدة والدين لا يتغير ولا يتبدل، فقط تبرير هذا العداء هو ما قد يتغير من ضابط إلى ضابط ومن حقبة إلى حقبة داخل إطار الأعوام السبعين.

بين الاستعباد والاستبعاد ينقسم تاريخ الدولة الحديثة في مصر من مطلع القرن التاسع عشر حتى لحظة كتابة هذه السطور، استعباد المصريين واستبعاد المصريين، الاستعباد كان الطبع الغالب على حكم محمد علي باشا وسلالته، والاستبعاد كان ومازال الطبع الغالب على الحكام من ضباط دولة 23 يوليو، الاستعباد كان قائما على أساس أن الباشا أخذ مصر بالسيف ثم ورثها لسلالته باتفاق دولي يعترف بها ضيعة عائلية مملوكة ملكية خاصة له ولسلالته فيها حق التصرف فهو وبنوه وأحفاده سادة ومن دونهم من المصريين ليسوا أكثر من عبيد إحسانات، الاستبعاد كان ومازال قائما على أساس أن نجاح حركة الضباط نقل ملكية وحكم البلاد من سلالة محمد علي باشا إلى الجيش وأن ضباط الحركة بصفتهم أبناء الشعب هم وكلاء عنه ثم تطورت الوكالة عنه -بمنطق القوة- إلى وصاية عليه، فانتقلوا من وكلاء يمثلون الشعب إلى أوصياء يختارون له ويقررون له ويفرضون عليه ما يرونه في مصلحته.

فكرة الاستعباد رد عليها المصريون بثلاث ثورات، العرابية 1881، ثورة 1919، ثورة 23 يوليو 1952، فكرة الاستبعاد رد عليها المصريون بنضالات مستمرة وصلت تعبيرها القوي الواضح في ثورة 25 يناير 2011.

ليس كل الاستعباد سواء، وليس كل الاستبعاد سواء، ففي بعض مراحل الاستعباد استطاع المصريون خلق مساحات من الحرية رغم أنف الحكام، حتى تم إرغام سلالة محمد علي باشا على قبول الحكم الدستوري، كذلك الاستبعاد يختلف من مرحلة لأخرى، ففي عهد عبد الناصر تم استبعاد الشعب بكامله من السياسة، لكن ذلك كان في مقابل مزايا اقتصادية واجتماعية لشرائح واسعة من المصريين كانت ترى في الاستبعاد السياسي في مقابل المزايا الاقتصادية والاجتماعية صفقة مقبولة بل ورابحة من منظور وضعهم الطبقي، ثم من بعد عبد الناصر بدأ الحكام من ضباط الجيش التخلي التدريجي عن الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية مع تطوير منظومة الاستبداد حتى بلغت ذروتها مع الجمهورية الجديدة حيث: تجريد المواطن من أي مزايا اقتصادية أو اجتماعية مع تطبيق سياسات النيوليبرالية التي تصاحب ما يتم الحصول عليه من قروض صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما، ثم حيث قبضة قاسية غليظة من حديد ونار تفوق بمراحل كثيرة جدا ما كانت عليه القبضة في عهود السابقين من الحكام من ضباط الجيش.

في 26 يوليو 1952 وبعد ساعات معدودة من نجاح الجيش في خلع الملك فاروق، طلب اللواء محمد نجيب -أول رئيس من الضباط- من الشعب الإخلاد إلى الهدوء والسكينة، فليس مطلوبا من المصريين غير التزام بيوتهم. ثم في 24 يوليو 2013 وبعد عشرين يوما من نجاح الجيش في عزل الرئيس الدكتور محمد مرسي، طلب الفريق أول عبد الفتاح السيسي -وزير الدفاع ثم رئيس الجمهورية ثم مؤسس الجمهورية الجديدة- تفويضا من المصريين، ثم ألزمهم بيوتهم، ثم فرض عليهم الصمت خوفا وقهرا فلا يتناجون إلا همسا ولا يتحدثون إلا توريةً.

****

ثورة 23 يوليو 1952 وضعت الديمقراطية في الترتيب السادس والأخير بين أهدافها الكبرى، لكن دولة يوليو على مدار السبعين عاما من نجيب إلى السيسي جعلت الديمقراطية هي الخطر رقم واحد عليها.

والحقيقة هو خطر متوهم ومزعوم حتى وإن قالت دولة يوليو غير ذلك.

عندما قامت دولة يوليو -قبل سبعين عاما- كانت ترفض الديمقراطية على زعم أن الديمقراطية سوف تأتي بالطبقة القديمة إلى الحكم من جديد بما في ذلك حزب الوفد صاحب الأغلبية في ذاك التاريخ، وهذا باطل من أساسه، لسبب بسيط أن الاستعمارين القديم والجديد، بريطانيا وأمريكا، اللذين سمحا للضباط بالانقضاض على النظام الملكي بكامله، لم يكن لهما مصلحة في عودة الوفد مثلما لم يكن لهما مصلحة في بقاء الملك، تصفية الوفد كان مطليا استعماريا متوافقا عليه بين الانجليز والأمريكان، الانجليز يؤدبونه على إلغاء اتفاقية 1936 كما يؤدبونه على غض البصر عن كتائب الكفاح المسلح ضد قواعدهم في منطقة القناة.. والأمريكان يؤدبونه على رفضه الأحلاف العسكرية وعلى رفضه الشراكة في الحرب الكورية، لو كان الوفد مازال له دور أو ما زال مرغوبا كان من عاشر المستحيلات أن يتم السماح ثم النجاح لحركة الضباط، لقد جاءت حركة الضباط إيذانا بعهد جديد لا مكان فيه لسلالة محمد علي باشا وتجلياتها بما في ذلك الوفد نفسه، هذه هي الحقيقة، والضباط كانوا يعلمون أنها الحقيقة، مثلما كانوا على يقين أن ملك مصر وحكمها قد آل إليهم بتوافق دولي منقطع النظير، فقد اتفقت بريطانيا وأمريكا على إعلان أن الحركة شأن داخلي مصري لا يجوز للقوى الخارجية أن تتدخل فيه، فتم بذلك توفير الشرعية والحماية معا للحركة مما يعني مباشرتها أمور الحكم الفعلي الواقعي للبلاد، فبخلع الملك آلت كل أعمال السيادة للضباط، ومازالت بين أيديهم حتى كتابة هذه السطور، فثورة 23 يوليو 1952 نقلت السيادة من الملك لمجلس قيادة الثورة ثم انتقلت من المجلس إلى الحكام من الضباط على التوالي من 1952 حتى هذه اللحظة 2022 دون انقطاع بما في ذلك العام الذي حكمه الإخوان، فقد كانت لهم السيادة النظرية بينما كانت السيادة الفعلية في يد الطبقات العميقة من دولة يوليو.

ومازالت دولة يوليو في طبعتها الأخيرة -الجمهورية الجديدة- على خوفها من الديمقراطية على زعم أن الديمقراطية لما تم تفعيلها بعد ثورة 25 يناير 2011 جاءت برئيس من الإخوان ومجلس شعب أغلبيته من الإخوان ومجلس شورى أغلبيته من الإخوان وأن كل ما فعلته الديمقراطية هو تسليم مصر للإخوان، وهذا زعم باطل من جذوره مثلما هو زعم باطل من فروعه، وذلك من عدة زوايا:

– الأولى: عندما كان النظام الملكي يتساقط بعد الحرب العالمية الثانية كانت مصر في طريقها لأحد مصيرين، إما المؤسسة الأكثر تماسكا داخل جهاز الدولة وهي الجيش، وإما القوة السياسية الأكثر انتشارا في الشارع وهي الإخوان، وقد توافق الاستعمار القديم مع الاستعمار الجديد أي الانجليز مع الأمريكان على أن يكون الحكم للجيش مع الاحتفاظ بدور كبير للإخوان، وبالفعل آلت مقاليد البلد للجيش مع دور استثنائي للإخوان، فقد تم إلغاء كل الأحزاب إلا الإخوان، ثم اختلف الشريكان حتى انقض الجيش على الإخوان بصفة نهائية في مارس 1954.

– الثانية: عندما أرادت دولة يوليو تغيير بوصلتها عقب رحيل عبد الناصر وتنصيب السادات تم استدعاء الإخوان من جديد وتمتعوا في عهدي السادات -مبارك بحقبة انتشار وازدهار سواء في مصر أو في خارجها لم تحدث من قبل بما في ذلك الحقبة الذهبية تحت جناح الملك والاستعمار من 1928 – 1949 حيث جرى اغتيال المرشد العام ردا على اغتيال الإخوان رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي.

– الثالثة: عندما كان نظام مبارك يتساقط في العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت مصر أمام خيارين، إما العودة إلى المؤسسة العسكرية، وإما أن تكون من نصيب الإخوان، وكان توافق الاستعمار الجديد أن تذهب إلى الإخوان مع الاحتفاظ بدور ممتاز للجيش، وعلى هذا الأساس منحهم الجيش ممثلا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أدار الفترة الانتقالية من ثورة 25 يناير 2011 حتى تسليم السلطة للإخوان في صيف 2012، منحهم الجيش كل ما من شأنه تيسير وصولهم للحكم، منحهم اعترافا قانونيا رسميا ظلوا محرومين منه من مارس 1954، منحهم حزبا شرعيا، ومنحهم كل ما يمكنهم من الترشح على كل المناصب، وأدار لهم الانتخابات، وأعلن فوزهم، وسلمهم مقادير البلاد، على أساس أن هذه هي كلمة الشعب.

– الرابعة: مثلما اختلف الشريكان بعد ثورة يوليو، تكرر الأمر بعد ثورة يناير لكن مع غطاء شعبي خدم الجيش، ومثلما أكل الجيش الإخوان في المرة الأولى عاد وأكلهم في المرة الثانية.

– الخامسة: الدور التاريخي الذي لعبه الإخوان يدا بيد مع دولة يوليو هو اشتراكهم الحاسم في إعاقة الديمقراطية مرتين، مرة بعد ثورة يوليو، ثم مرة بعد ثورة يناير، في كلا المرتين أعطى الإخوان الحكام من الضباط المسوغات والمبررات الكافية للانقضاض على الديمقراطية.

****

ثورة 23 يوليو 1952 -من منظور الديمقراطية- هي نقيض كل ما سبقها من ثورات المصريين، فعلى مدى سبعين عاما من الثورة العرابية مرورا بثورة 1919 وصولا إلى ثورة 23 يوليو، على مدى ذلك كله كانت الديمقراطية بما تعنيه من حكم الدستور كانت مع مطلب الاستقلال الوطني في ارتباط وثيق لا تنفك عراه، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتفصل بين المطلبين، فأنجزت مطلب الاستقلال الوطني ولكنها أسقطت المطلب الديمقراطي عمليا وفعليا من زاوية أنه يعني حكم الدستور والقانون وإخضاع الحاكم لإرادة الشعب.

الذي حدث هو العكس تماما، ثورة يوليو ثم دولة يوليو، أسست لنموذج سياسي شديد الإحكام لم يحدث مثله من قبل، أسست -نظريا وعمليا- نموذجا رئاسيا يجعل من الرئيس حاكما فردا مهيمنا ومسيطرا وقابضا فوق الدولة، ثم تجعل من الدولة -كجهاز ضبط وسيطرة- قوة فوق الشعب، باختصار شديد: الرئيس فوق الدولة، والدولة فوق الشعب، فبعد ثلاثين عاما من نضال المصريين لغل يد الحاكم بالدستور من 1923 حتى 1953، أتاحت ثورة يوليو ثم دولة يوليو لكل حكامها من الضباط إمكانية كتابة الدساتير وفق مطامحهم السياسية وتشكيل كافة مؤسسات الدولة بما يوافق مصالحهم، وأصبح هذا تقليدا مستقرا وحقا مكتسبا.

في 13 يونيو 1956 رحل آخر جندي بريطاني وتم الجلاء الذي كان محلا لكفاح المصريين 70 عاما، ثم بعد ذلك بعشرة أيام فقط في 23 يونيو 1956، وضعت الأسس الصلبة لديكتاتورية يوليو، حيث تم الاستفتاء على دستور مكتوب بيد شخص واحد، كذلك الاستفتاء على شخص واحد كمرشح للرئاسة دون منافس على الإطلاق.

” كان عدد الناخبين المقيدة أسماؤهم في جداول الانتخاب خمسة ملايين وستمائة وسبعة وتسعين ألفا وأربعمائة وسبعة وستين ناخبا، شارك منهم في الاستفتائين خمسة ملايين وخمسمائة وثمانية ألاف، وثلاثمائة وأربعة عشر ناخبا”.

” بلغ عدد الموافقين على الدستور خمسة ملايين، وأربعمائة وثمانية وثمانين ألفا، ومائتان وخمسة وعشرون ناخبا، وبلغ عدد غير الموافقين عشرة آلاف، وستة وأربعين ناخبا، وبذلك نسبة الموافقين على الاستفتاء سبعة وتسعون وستة من عشرة في المائة”.

“وبلغ عدد الموافقين على انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية خمسة ملايين، وأربعمائة وأربعة وتسعين ألفا، وخمسمائة وخمسة وخمسين ناخبا، وبلغ عدد غير الموافقين خمسة آلاف، ومائتين وسبعة وستين ناخبا، فتكون النسبة تسعة وتسعون وتسعة من عشرة في المائة”. [ص 253 وص 254 من عبد الرحمن الرافعي ثورة 23 يوليو 1952 تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952- 1959م، الطبعة الثانية 1409هجرية 1989م، دار المعارف]

من ذاك التاريخ 23 يونيو 1956 انقطعت صلة الدولة المصرية بالديمقراطية، بات من واجباتها الأساسية إرضاء كل رئيس، فاحترفت -بإتقان شديد- تزييف الاستفتاءات وفبركة الانتخابات والتلاعب بإرادة الشعب على أساس أنه الطرف الحاضر على الورق والمدون في دفاتر الانتخاب ولكنه مستبعد من المشاركة الفعلية، هذا الاستبعاد في ذاك الوقت المبكر من تاريخ دولة يوليو كان له مقابل من مزايا اقتصادية واجتماعية أفادت منها طبقات اجتماعية لم يتم انصافها من قبل مثلما تم انصافها في ذاك العهد، ثم تطور هذا الاستبعاد ليكون -في الجمهورية الجديدة- استبعادا بلا مقابل، استبعادا شاملا، استبعادا من الحقوق السياسية والحريات العامة مع تجريد المواطنين مما كانت تتيحه يوليو القديمة من مزايا اقتصادية واجتماعية.

****

نموذج الرئيس فوق الدولة والدولة فوق الشعب وصل ذروته مع الجمهورية الجديدة فهل له مستقبل؟

هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.