“لا أتذكر كيف تحولت المحادثة إلى السياسة، لكنني بالتأكيد لم أخطط للذهاب إلى هناك”؛ بدأت أناستاسيا كاريير الصحفية المقيمة في نيويورك شهادتها كمواطنة صدقت الدعاية الروسية، حتى انتقلت إلى أمريكا، وفق ما عنونه العدد الأسبوعي من مجلة POLITICO

تقول: لقد كنت حريصة حول الموضوع مع والديَّ الروس لعدة أشهر. كان ذلك عام 2018، وكنت في غرفتي في بلدة جامعية صغيرة في غرب فيرجينيا، حيث انتقلت من روسيا قبل أقل من عامين. كانت والدتي على الجانب الآخر من مكالمة FaceTime في إحدى جلسات المتابعة الأسبوعية، وبدت متوترة. فلم أكن أتحدث بإيجابية عن فلاديمير بوتين”

لقد كان شيئًا بسيطًا قلته، شيئًا مثل، “بوتين ليس جيدًا لروسيا”. أو “ليس من الوطني تجاهل كل الأشياء السيئة في البلاد، على أمل أن يحلوا أنفسهم بأنفسهم”. ابتعدت عن الكاميرا، في محاولة لإخفاء دموعها.

جلسنا في صمت للحظة قبل أن أغير الموضوع. منذ متى كان للخلاف السياسي القدرة على جعل والدتي تبكي؟ إلى أي مدى تغيرت عائلتي من خلال الدعاية منذ أن هربت من مخالبها؟

مثل والدي، كنت مؤيدة لبوتين ذات مرة. اعتقدت أن روسيا “أنقذت” شبه جزيرة القرم من المتمردين والنازيين الجدد. وأنها كانت ضحية حملة تشويه عالمية، لأن العالم لم يتحمل حقيقة أن روسيا كبيرة جدًا وغنية بالنفط. ولكن، منذ أن انتقلت إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة البكالوريوس الثانية، ووقعت في حب الصحافة. أدركت أن آرائي السياسية لم تكن متجذرة في الحقائق، ولكن في التعرض المستمر لآلة الدعاية في الكرملين.

اقرأ أيضا: بوتين.. مراكمات “الموت الجميل” التي أعلنت الحرب

لا تزال عائلتي في روسيا، وعلى مر السنين، أصبحت آراء والديّ العاقلين والمتعلمين تعليماً عالياً -واللذين كانا يتمتعان بميول ليبرالية غربية تقريباً- مثل العديد من الروس. يعتقدون أن غزو أوكرانيا هو مجرد “عملية للقضاء على النازيين الجدد”.

لقد أجريت العديد من المحادثات المماثلة مع والدي منذ أن تحدثت مع والدتي. الآن، أنا عادة من يتأذى. لم تكن هذه المناقشات سهلة أبدًا، لكنها الآن -مع الحرب في أوكرانيا- ضرورية بقدر ما هي مقززة. هناك تكلفة على الناس الذين يؤمنون بالدعاية الروسية، وهي دموية.

كيف عرفت بوتين؟

أنا لم أتخل عن والدي. قد نكون في قارات مختلفة، لكن السياسة هي التي ميزتنا بين العالمين.

مثل العديد من أبناء جيلي الذين نشأوا في عهد بوتين، كنت غير سياسية إلى حد كبير طوال معظم حياتي. نشأت في يوشكار-أولا، عاصمة إحدى أفقر المناطق الروسية، في عائلة من المعلمين.

جدتي -التي عاشت معنا- افتقدت الاتحاد السوفيتي. لقد أحبت الفكرة المثالية للوحدة، واليقين من وجود وظيفة لها. لقد كانت أستاذة لغة ألمانية محبوبة، وتتمتع بوظيفة مستقرة وآمنة. علمتني أغاني من العهد السوفيتي، وكثيراً ما كانت تقول إن الناس كانوا أكثر لطفًا في ذلك الوقت. أتساءل عما إذا كانوا “أكثر لطفًا”، فقط، لأنهم كانوا قلقين من أن أحدهم قد يتنبه لهم.

عندما ظهر بوتين كنجم لامع، كانت جدتي متحمسة قدر الإمكان. تم تعيينه رئيسًا للوزراء في عام 1999 من قبل الرئيس -آنذاك- بوريس يلتسين، وجاء صعوده الصاروخي من معالجته للرد على سلسلة من تفجيرات المباني السكنية في العام نفسه -11 سبتمبر/ أيلول الروسية- التي أودت بحياة أكثر من 300 شخص وجرحت عددا أكثر بكثير. ألقى بوتين باللوم في التفجيرات على الشيشان، وأصبح ذلك أحد مبررات حرب الشيشان الثانية.

علمت لاحقًا أن بعض المؤرخين والصحفيين، يعزون هذه التفجيرات إلى محاولة جهاز الأمن الفيدرالي -المعروف باسم FSB– لانتخاب مديرهم السابق بوتين. لكن عندما كنت طفلة، بدا بوتين شابًا وواعدًا. اصطحبتني جدتي معها للتصويت له في انتخابات عام 2000. لمشاركة الإثارة حول هذه “اللحظة التاريخية”، رفعتني، وأظهرت لي أين أضع علامة الاقتراع لها.

أصبح الأمل متعبًا

تلاشت الحماسة الأولية بشأن بوتين على مر السنين. كنا نتوقع منه أن يغير حياتنا للأفضل، ولكن مع عدم تحسن أي شيء، أصبح الأمل متعبًا. كانت الطرق لا تزال فوضوية، وشرطة المرور والمسؤولون المحليون لا يزالون فاسدين، والرواتب ظلت منخفضة والضرائب مرتفعة. لم يخطر ببالي أبدًا أنه في مكان آخر، كان الناس سيصوتون لشخص آخر في الانتخابات القادمة. ربما لأن الخيارات الوحيدة التي رأيناها في الأخبار كانت إما غير أكفاء أو مهرجين. لقد لجأت إلى تجاهل السياسة تمامًا.

بدأنا نأمل مرة أخرى في عام 2008، عندما تم انتخاب ديمتري ميدفيديف -رئيس وزراء بوتين- رئيسًا. اعتقدت أنا وزملائي أنه قد يجعل من روسيا ديمقراطية حقيقية. بحلول ذلك الوقت، كنت قد غيرت المدرسة. للمرة الأولى، كان لدي مدرسون حاولوا إقناعنا بإعادة فحص التاريخ السوفيتي والتشكيك في الوضع الحالي لروسيا، حتى عندما كان ذلك يعني انتقاد الكرملين. حتى أن أحد المعلمين تجرأ على انتقاد حكم ستالين والقمع السياسي الذي خلف ملايين القتلى. لم يكن الأمر أن هؤلاء المعلمين كانوا فريدين.

مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن ميدفيديف كان يحافظ على دفء المقعد لبوتين.

في عام 2008، في عهد ميدفيديف، أدى تعديل دستوري جديد إلى إطالة فترة الرئاسة البالغة أربع سنوات إلى ست سنوات. في سبتمبر/ أيلول 2011، عندما أعلن بوتين أنه سيرشح نفسه للرئاسة مرة أخرى في عام 2012. أدركت أنا وأصدقائي أن ذلك يعني فرصة قوية لبوتين لمدة 12 عامًا أخرى.

لم يكن هذا بالتأكيد هو الاتجاه الديمقراطي الذي كنت أتمنى أنا وأصدقائي أن تسلكه روسيا. في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، اندلعت أكبر احتجاجات مناهضة للحكومة منذ التسعينيات في جميع أنحاء البلاد. ردا على اتهام بوتين وحزبه -روسيا المتحدة- بتزوير الانتخابات البرلمانية.

كانت صور حشد يهتف “بوتين لص!” و “روسيا بدون بوتين!” وجدت طريقها إلى بطريقة ما على شبكة VKontakte، وهي شبكة اجتماعية روسية مستوحاة من Facebook.

اقرأ أيضا: الدوما.. أحزاب الـ “ماتريوشكا” على مكتب بوتين

بوتين هو الخيار الوحيد

لقد سمعت أنا وأصدقائي كلامًا كافيًا عن أن بوتين فاسد حتى نصدق ذلك. لقد أصبحنا أخيرًا أكبر سنًا بما يكفي للتصويت، وأخذنا الأمر على محمل الجد. بحثنا عن المرشحين، وناقشنا وعودهم الانتخابية. أحب معظمنا ميخائيل بروخوروف، الذي وعد بعكس التعديلات الدستورية وقمع دعاية الدولة والفساد. شعرت أن جيلنا -الذي نشأ في عهد بوتين- يمكنه أخيرًا إحداث تغيير. حتى ثقة جدتي في بوتين اهتزت.

لكن شيئًا ما تغير في اللحظة الأخيرة. كانت هناك موجة من “الصحافة السلبية” ضد بروخوروف و”الصحافة الإيجابية” لبوتين. شعرت أن روسيا بحاجة إلى شخص ذي خبرة لحمايتنا، وكان بوتين هو الخيار الوحيد. أحسست بالهزيمة والارتباك عندما جاء يوم الانتخابات. إحدى أصدقائي شعرت بنفس الشعور. أخبرتني أن “بوتين هو الخيار العقلاني الوحيد الآن، وصوتي غير المستخدم سيحسب له تلقائيًا على أي حال”.

لم يكن مفاجئًا إعادة انتخاب بوتين وسط مزاعم بالتزوير.

للأسف، كان ضم شبه جزيرة القرم هو الذي وضعني بشكل مباشر في المعسكر الموالي لبوتين. تلقت ثورة الميدان الأوروبي في 2013-2014 في أوكرانيا قدرًا مناسبًا من البث على الأخبار الروسية. ولكن بدلاً من إظهار الأوكرانيين وهم يحتجون على حكومة فاسدة، وللإطاحة بنجاح بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وصفت الرواية الروسية الحكومة الأوكرانية الجديدة على أنها “عصابة فاشية”، وأثنت على جهود بوتين لإنقاذ شبه جزيرة القرم وسكانها من أصل روسي من الحكم الفاشي.

أقسمت الدعاية أن العملية كانت ديمقراطية. أتذكر أنني رأيت صورة على الإنترنت لمبنى سكني -يُزعم أنه في شبه جزيرة القرم- مع العديد من الأعلام الروسية المعلقة من النوافذ. وكنت أعتقد أن هذا هو أكثر الأدلة الحقيقية التي قد يحتاجها المرء.

سمع والدي، في مكان ما، أنه حتى مسقط رأسنا رحبت باللاجئين الأوكرانيين. وأن الروس يتخلون عن أماكنهم في طابور للمساعدة الاجتماعية. لقد اكتسبت احترامًا لبوتين لم أكن أحظى به من قبل.

السعي إلى الحقيقة

وفقًا لمركز levada ، وهو منظمة استطلاع وبحوث روسية مستقلة. ارتفعت شعبية بوتين من 69% في فبراير/ شباط 2013، إلى 82% في أبريل/ نيسان 2014. وتدفقت الدعاية من كل مكان، وأذهلتني.

كان من الأسهل قبول خط الكرملين كحقيقة، بدلاً من التشكيك في كل حجة مربكة. أصبحت أعتقد أن الهجمات الغربية على أفعال بوتين كانت مرادفة للهجمات على بلدي. تحول مفهومي عن الوطنية إلى دعم أعمى لروسيا. هذه المرة، لم أناقش الأمر مع أصدقائي، لكنني كنت متأكدة من أنهم شعروا بنفس الشعور.

على مدى السنوات الماضية، أصبح من الصعب على مستهلك الأخبار غير الرسمية في روسيا العثور على وسائل إعلام مستقلة. ازدادت الصعوبة الجديدة منذ بدء الحرب في أوكرانيا، مع توقيع بوتين على قانون يهدد أي شخص ينشر “أخبارًا كاذبة”، أو رواية غير معتمدة من الكرملين، بغرامات أو بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا.

جمدت بعض المنافذ الإخبارية عملياتها، وغادر العديد من الصحفيين البلاد. الروس الذين ما زالوا يرغبون في الحصول على أخبار حقيقية يستخدمون VPN للوصول إلى المواقع الإخبارية التي حظرها الكرملين. بالنسبة للآخرين، مثل والديّ، فإن هذا سيل من الدعاية على التلفزيون وفي المطبوعات وكذلك على وسائل التواصل الاجتماعي،

تغير كل شيء عندما انتقلت إلى وست فرجينيا في يناير/ كانون الثاني 2016 للحصول على درجة البكالوريوس الثانية.

لم أكن سياسية نشطة، لكن -كلما سنحت الفرصة- كنت أدافع عن بوتين وروسيا ضد ما اعتقدت أنه دعاية أمريكية. ذات مرة، كان أصدقائي يشاهدون فيلمًا وثائقيًا حول ما حدث في شبه جزيرة القرم. وبدأت في حديث صاخب حول كون كل شيء إما مزيفًا، أو مجرد حالة غير عادلة من قطف الكرز.

بالتأكيد لم تكن هناك دبابات روسية في القرم، ولم يقتل الروس أحدا.