داخل “توكتوك” في أحد الأحياء الشعبية بحي فيصل، يجلس شاب في مقتبل العشرينات خلف المقوّد بينما تدوي أغاني “عصام صاصا” بصوت مرتفع في الخلفية. أغانٍ يتماهى معها الشاب تماما ويبدو أنه يحفظ كلماتها عن ظهر قلب بينما يرددها متأثرا.
“كانوا ملمومين حواليا علشان معايا فلوس كانوا كل يوم جنبيا مانا جيبي كان متروس.. مبدأكوا مكنش ليا مبدأكوا ده للفلوس.. مفيش جديد عايش حزين أنا في الحياة ومش سعيد”. عند هذا المقطع تحديدا يزفر الشاب متأففا ثم يقول: “هي فين الفلوس دي أصلا. مش كان الواحد طلع ابن أي حد من العيال اللي مقضّياها في الساحل الصيف كله.. ده الواحد بيشوف حاجات على إنستجرام تتعِب ورب الخلق”.
ثم يبدأ في وصلة معتادة -يعرفها ركاب التوكتوك المتمرسين- عن مدى تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار واليومية التي لا تكفي لسداد احتياجات المنزل. وبالطبع لا مانع من سب كل من يعتقدهم مسؤولين عن ذلك بأقدح الألفاظ.
كان سخط الشاب الأكبر مما يطالعه يوميا على “إنستجرام” من فيديوهات لرواد “الساحل الشرير”، كما يصفه، في حفلات باذخة هنا وهناك. ويقول: “مهما كنت سوي من جواك لازم هيجي عليك وقت تتعب وتقول: اشمعنا أنا”.
تلفت كلماته الأنظار إلى الجدل الدائر تلك الأيام بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي حول الأسعار المبالغ فيها لحفلات الساحل الشمالي والتي تصل إلى عشرات ومئات الآلاف، في وقت تعاني فيه الأغلبية من تدهور مستواها الاقتصادي وقدراتها الشرائية تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية الحالية المتفاقمة.
يصوّر البعض ذلك وكأنه تعبير عن “طبقة فاسدة” وصلت إلى ثرواتها بطرق غير مشروعة، بينما يصوّره البعض الآخر كـ”حقد طبقي” تجاه أشخاص حققت ثرواتها بمجهودها وتحاول أن تستمتع قليلا بأموالها التي جنتها. لكن البعض الآخر التفت إلى ما يعنيه ذلك من تفاوت ضخم في توزيع الثروة وسياسات حكومية أنتجت اللامساواة بشكل يومي، وفيها انتهجت خطة اقتصادية جعلت الفقير أكثر فقرا والثري أكثرا ثراءً.
من يملك الثروة في مصر؟
في تقرير لمؤشر “هينلي” الأمريكي للثروة في أفريقيا -صدر في مايو/أيار الماضي- جاء: إن مصر تعد ثاني أغنى دولة في أفريقيا من حيث الثروة الخاصة، بثروة تقدر بـ307 مليار دولار. ويُقسّم التقرير عدد الأثرياء في مصر إلى أربع فئات:
- الفئة الأولى: من يملك ثروة تزيد على مليون دولار وعددها يقترب من 17 ألف نسمة.
- والفئة الثانية: من يملك أكثر من 10 ملايين دولار وهم “أصحاب الملايين” وعددهم 880 نسمة.
- وبلغ عدد المصريين الذين يمتلكون أكثر من 100 مليون دولار 57 مصريًا.
- وبلغ الذين يمتلكون أكثر من مليار دولار أو “المليارديرات” 7 أفراد. وبالتالي “مصر لديها أكبر عدد من المليارديرات في القارة السمراء“.
بينما تشير بيانات Global wealth databook للثروة في مصر عام 2020 -الصادرة عن بنك “كريدي سويس”- إلى أرقام أكثر اختلافا ولكن أكثر تفصيلا:
- نحو 6 آلاف مصري ثروتهم بين مليون إلى 5 ملايين دولار.
- و6 آلاف ثروتهم بين 5 إلى 10 مليون دولار.
- و8 آلاف ثروتهم بين 10 إلى 50 مليون دولار.
- و176 شخصًا ثروتهم بين 50 إلى 100 مليون دولار.
- و97 شخصًا ثروتهم بين 100 إلى 500 مليون دولار.
- وأخيرا 12 شخصًا ثروتهم أكثر من 500 مليون دولار.
تقول دراسة صادرة عن معهد “بروكنجز” بعنوان: “أسباب ونتائج عدم المساواة في مصر” إن عدم المساواة، جنبًا إلى جنب مع عدد من التحديات التي تواجهها مصر، بما في ذلك زيادة الاستبداد، وتغير المناخ، والضغوط الديموغرافية، والأمن المائي من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلاد.
وتجادل الدراسة التي أجراها عادل عبد الغفار، زميل غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية بالمعهد الأمريكي، بأن “عدم المساواة لا تزال مصدر قلق رئيسي. وإذا تُركت دون معالجة، فقد تؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار على المدى الطويل”.
وللإشارة للفجوة الواسعة في توزيع الدخول والثروة وسوء التوزيع، تخبرنا الدراسة أن نحو 10% من سكان مصر يمتلكون نحو ثلثي ثرواتها. بينما تمتلك أغنى 1% من السكان نحو نصف الثروة. هذا في الوقت الذي يعيش فيه واحد من كل ثلاثة مصريين تقريبا تحت خط الفقر، وفقا للجهاز المركزي للإحصاء في 2021 (يُذكر أن معدل الفقر الذي تحدده الحكومة أقل من المعدل العالمي ما يعني أن الأرقام أكبر وفقا للمؤشرات العالمية). ونصف المصريين إما فقراء أو معرضين للفقر، بحسب “البنك الدولي“.
تشير الدراسة “يتم إعادة إنتاج عدم المساواة في مصر من خلال إدامة وتقاطع أنواع مختلفة من عدم المساواة بما في ذلك: الدخل والثروة والتعليم والجندر والتوظيف والصحة”. وما يتبع ذلك من تأثير على الوصول إلى التعليم الخاص -حيث جودة التعليم أفضل من الحكومي- والمساواة بين الجنسين وعدم المساواة في الرعاية الصحية.
أرقام صادمة عن فجوة اللا مساواة المتزايدة
لا تتركنا الأرقام عند ذلك الحد من الصدمة، فوفقا لدراسة أجراها فريق من الباحثين التابعين للبنك الدولي عام 2016 فإن طفل واحد فقط من بين 10 أطفال لعائلات “محرومة” يمكنه الالتحاق بالجامعة.
وإذا تزامن هذا الرقم مع بدء إجراءات “الإصلاح الاقتصادي” التي فرضها صندوق النقد الدولي، وما تبعها من تدهور كبير في مستويات الرعاية الاجتماعية والوصول للخدمات العامة فبطبيعة الحال ارتفع هذا الرقم خلال الأعوام الماضية.
ومن هنا فإن “فرص الحياة في التعليم تعتمد بشكل كبير على من وأين أنت ولدت”، بتعبير دراسة أخرى صادرة “بروكنجز”. ما يوضح أن العديد من المظالم في مصر ترتبط بعدم المساواة، مثل: تدهور التعليم العام والرعاية الصحية والفساد المزمن ورأسمالية المحسوبية ووحشية الشرطة وظروف العمل السيئة وانخفاض الأجور وعدم المساءلة، وفق باحثي البنك الدولي.
لا تزال الأرقام المفجعة لا تريد أن تتراجع. فبحسب “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” عام 2017 فإن المصريين الأثرياء ينفقون 70 مرة أكثر من المواطنين الأفقر و”إنفاق أغنى شخص في مدينة ما أكثر 100 مرة من أفقر شخص في ذات المدينة”. وتضيف أن أغنى 10% من المصريين ينفقون على الصحة وزيارات الأطباء أكثر 40 ضعف من أفقر 10% وهي نسبة تنخفض إلى 20 ضعف في التعليم.
ومجددا فإن تلك الإحصاءات كانت مع بدء تساقط “ثمار” الإصلاح الاقتصادي. وفي يومنا هذا فإنها تضاعفت بالتأكيد. لذا فالإحصائية التي صدرت آنذاك بأن مصر تحتل المرتبة الثامنة بين أسوأ دول العالم من حيث توزيع الثروة، ربما قفزت عدة مراكز للأمام.
الإصلاح الاقتصادي وثماره الفاسدة
يقول تحليل اقتصادي صادر عن “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” إن الإصلاح الاقتصادي نتج عنه زيادة مباشرة في عدم المساواة.
إذ أدى تحريك أسعار السلع والخدمات لتقترب من قيمتها السوقية، مع التحول نحو الدعم النقدي للمستحقين، إلى مواجهة الشرائح الأقل دخلا، تراجعا حادا في قدراتها الشرائية التي استُهلكت في الوفاء بالاحتياجات الأساسية بأسعارها الجديدة، بما قلص من قدرتها على تمويل الاستثمار في رأس مالها البشري (كالتعليم والصحة) أو المادي لزيادة دخلها المستقبلي. وهو ما قوّض من الحراك الاقتصادي لجزء أكبر من المجتمع وعزز عدم المساواة.
ومع تعزيز عدم المساواة في الدخل والثروة، يتصاعد عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وذلك في صوره العنيفة وغير العنيفة، والقانونية وغير القانونية على حد سواء -بحسب التحليل- وهو ما يغذّي مناخ “عدم اليقين” في البيئة السياسية المحيطة، بما يدفع لتراجع الاستثمار؛ نظرا لحساسيته البالغة تجاه عدم اليقين، وهو ما يؤدي لتراجع النمو الاقتصادي.
“ضغطت الحكومة على المواطنين من خلال التخفيضات في الدعم، والضرائب التنازلية، وزيادة رسوم الخدمات “العامة”. وعاني المصريون من ركود الأجور وارتفاع الأسعار والبطالة المرتفعة، حيث يعيش حوالي 30 مليون مواطن على دخل يقل عن 3.20 دولار في اليوم”، يقول روبرت سبرنجبورج الباحث المرموق وأحد أبرز الخبراء المعنيين بالشأن المصري.
وتراوح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في نطاق 3000 إلى 4000 دولار ما صنف مصر في المرتبة 135 من أصل 213 دولة. وبالتزامن أدت عمليات الخصخصة المتسارعة أو إغلاق المؤسسات المملوكة للدولة، مثل مصنع حديد حلوان التاريخي الذي كان يعمل فيه 7000 عامل، إلى زيادة الضغط على العمالة الإجمالية.
وشدد سبرنجبورج على أن النظام المصري زاد من خفض القوة الشرائية للمصريين من خلال إجراء تخفيضات شاملة في دعم الوقود والمياه والطاقة والنقل والغذاء. واستهدف حتى أهم المواد الغذائية، الخبز.
الضرائب كمحرك رئيسي لعدم المساواة
أحد المحركات الرئيسية لعدم المساواة في الثروة هو النظام الضريبي، حيث حولت السياسات الحكومية على مدى العقدين الماضيين عبء الضرائب إلى ذوي الدخل المنخفض.
هذا في الوقت الذي يتمتع فيه الأثرياء والشركات الكبرى دائمًا بفرص أفضل للحصول على الحوافز والإعفاءات الضريبية. ووفقًا للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ينفق 10% من أفقر المواطنين في البلاد 6.4% من دخولهم على ضريبة القيمة المضافة. بينما ينفق أغنى 10% نحو نصفهم، بمعدل 3.34%.
يقول باحثو البنك الدولي إن الضرائب في مصر أصبحت أكثر تنازلية، لاسيما منذ عام 2005. وخلال هذه الفترة “أصبحت علامات عدم المساواة أكثر وضوحا”.
وفي ظل عدم وجود سياسة ضريبية عادلة، يمكن حتى للاختلافات الصغيرة في الدخل أن تتحول بسرعة إلى فوارق هائلة في الثروة، بحسب الباحث الاقتصادي أسامة دياب في تحليله للنظام الضريبي على موقع “مدى مصر“. إذ أن الضرائب التصاعدية هي إحدى الوسائل الأساسية للحد من عدم المساواة، والضرائب التنازلية تفعل العكس بطبيعة الحال.
ويلفت إلى أن مصر تعاني وضعًا من الضرائب التنازلية الشديدة -أي أنه كلما زاد المال الذي يجنيه المرء، قلت الضرائب التي يدفعها كنسبة مئوية من الدخل.
ويضرب مثالا: الشركات الفردية الصغيرة التي تقل عملياتها عن مليوني جنيه حققت متوسط ربح 5892 جنيهًا سنويًا، وتدفع 28% منها كضرائب. وعلى الجانب الآخر، بلغ متوسط ربح الشركات الفردية العملاقة التي تزيد عملياتها التجارية عن مليار جنيه نحو 22.6 مليون جنيه، ودفعت ما معدله 3.5٪ فقط من أرباحها كضرائب.
وقد قدمت ورقة صادرة عام 2018 عن “مركز حلول للسياسات البديلة” تصورًا لضريبة تصاعدية شاملة على الثروة في مصر، يمكنها أن تولِّد عوائد تصل إلى 28 مليار جنيه سنويًّا في المتوسط، أي ثلاثة أضعاف ما يتم تحصيله حاليًا ضريبةً على الممتلكات، إذا تم الالتزام بالتعريف الرسمي للضريبة.
وذلك باتباع سيناريو تصاعدي يبدأ بمعدل 1% للشريحة التي تمتلك أكثر من مليون دولار، ويتزايد تدريجيًّا حتى يصل إلى 5% لمن تفوق ثروتهم المليار دولار.
أحد الأعمدة الرئيسية للضريبة الشاملة المقترحة على الثروة هو ضرورة اصلاح هيكل الضريبة العقارية؛ حيث يبلغ نصيب الأصول غير المنقولة من إجمالي الثروة في مصر 68%. وتقترح الورقة مجموعة من المعايير والإجراءات لضمان عملية أكثر شفافية. إذ من شأن هذا الإصلاح تشجيع الاستثمار في القطاعات الأكثر إنتاجية، وتحجيم الاستثمار في العقارات كنشاط ريعي.
يقول تقرير للبنك الدولي (ص10) إن العاملين في الاقتصاد الرسمي -بصفة أساسية موظفي القطاع العام- يتحملون وطأة الضرائب المباشرة. بالإضافة إلى ذلك فإن التمييز بين الأطراف الداخلية -المرتبطة بالأسر الحاكمة أو الجيش أو الجماعات السياسية أو التكتلات التجارية- ينعكس في صورة معدلات متفاوتة إلى حد كبير من الضرائب الفعلية.
وتضرب مثالا على عدم عدالة النظام الضريبي “نجد أن الشركات المصرية التي تتمتع بصلات سياسية تزداد احتمالات حصولها على المزايا الحصرية كالإعفاءات الضريبية أو الرسوم الجمركية.. ويرتبط تفاوت تنفيذ القواعد بتصورات الفساد”.
وقد صنف 68.2% من أصحاب المشروعات في مصر الفساد كعائق رئيسي أمام أنشطتهم. ونتيجة لذلك، يشهد توزيع الدخل في مصر مستوى مرتفع من عدم المساواة كذلك.
“المركزية” كمحفّز لعدم المساواة
تُرجع دراسة لـ”مبادرة الإصلاح العربي” هذه التفاوتات إلى نظام شديد المركزية لصنع السياسات وإدارة الموارد وتوزيع الخدمات – والذي تم تطبيقه منذ عام 2014- وتشمل أيضًا ارتفاع معدلات الفساد.
ويقول محمد شنتير، مؤلف هذه الدراسة، إن السلطة التنفيذية الحالية تفضل الحفاظ على نموذج الدولة المركزية الحالي، على الرغم من حقيقة أن معظم المحليات في جميع أنحاء الوجه القبلي والوجه البحري تخضع للتفاوتات الجغرافية وعدم المساواة. وبالتالي، احتلت مصر المرتبة 114 في مؤشر الالتزام بالحد من عدم المساواة لعام 2020.
فالفقر في الريف أكبر من الفقر في الحضر وفقا للأرقام الحكومية. وسوء تصميم الإصلاحات وأولويات السياسة فشلت في الحد بشكل صحيح من عدم المساواة في الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم وظروف المعيشة. وحتى توزيع الاستثمارات والخدمات غير عادل إذ تحظى محافظات بالنسبة الأكبر ويتم تجاهل أخرى.
بينما الفساد المستشري نتيجة لسياسات وإجراءات مكافحة الفساد غير الفعالة أو انتشار الإفلات من العقاب. وهنا فإن تفاقم الفساد والتفاوتات الاجتماعية وعدم تكافؤ الفرص كلها تخلق شعورا بالحرمان لدى الأفراد والأسر، بالنظر إلى حقيقة أنهم مستبعدون من الفرص والخدمات العامة وأولويات تنمية المجتمع المحلي..
ولهذا شعر سائق التوكتوك الشاب بالإنهاك مما يراه من كل مظاهر ترف على “إنستجرام” لأنه أدرك أنه سيبقى دائما على الهامش.