يُعرف الإنسان عند الخلاف، فالخلافات تختبر ليس فقط قوة العلاقات ولكنها أيضًا تكشف عن أخلاق الإنسان، وقيمه ومنظومة رؤيته للحياة.

على قدر بساطة العبارة ووضوحها، لكنه شرك نسقط فيه، فكل إنسان مهما بدا بسيطًا فهو يُخفي الكثير، طِباع قد لا تظهر إلا عند الغضب، محبة مطوية في خجل، كرم يعوزه سِعة في الرزق، بُخل لا يُكتشف بسهولة، الإنسان ذلك الكائن المتعدد الرؤي والتوجهات، القادر على الإدهاش دومًا، فلا أحد يمكن توقع رد فعله وسلوكه طول الوقت.

خناقات زمان

يرى البعض أن الناس تغيرت إلى الأسوأ، فالناس زمان كانت أفضل، وأكثر أخلاقًا ورُقيًا، وهذه الآراء لا يُمكن الجزم بها، ولنبدأ بسؤال ما هي مرجعيتنا عن الناس زمان؟

السينما والأدب وكتب الرحلات وحتى كتب التاريخ وهي جميعًا تقدم نماذج مختارة، فلو كانت السينما هي مرجعيتنا في الأزياء وطريقة الكلام، فقد كانت تنقل شريحة، او نمطًا، ولا تقدم الجميع، فالسينما كفن ترفيهي ليس مطلوبًا منها التوثيق، فهو ليس دورها، وهنا نتحدث عن السينما الروائية، وليست السينما التسجيلية، وحتى السينما التسجيلية كانت تختص بموضوعات وليس نقل الحياة اليومية لشارع.

الناس قديمًا كانت لديها خلافاتها التي تتقاتل من أجلها، كانت النساء تدخل في وصلات من الردح لبعضهن، أو لجيرانهن، وكان يمكن ان تقوم عاركة في شارع ويُشارك بها أغلب السكان، ويسقط من يسقط قتيلًا أو مُصابًا ومن ثم لا يمكننا توصيف أشكال الخلاف.

لكن ثمة أمر هام في خلافات الماضي ذلك أن طموحات المرء كانت محدودة، والأولويات معروفة، وبالتالي فإن أسباب الاخلاف تذهب في طرق واضحة ويمكن حصرها، ولأنه في ذاك الزمن كان الطلاق مُجرم اجتماعيًا، كانت حالت الطلاق محدودة ولا تتم إلا في ظروف ضيقة، وهي لذلك ليست ظاهرة، الخلافات ذات أسباب واضحة كأن يكون  بين امرأتين حول رجل، أو بين رجلين حول امرأة، خلافات المال سواء من عمل أو ميراث، ولأنه قديمًا كانت الحياة بسيطة، غير متعددة السبل في التواصل والترفيه فكان تدخل شخص عاقل ومناقشة المشاكل بحياد يُنهي المشكلة، وكثير من الخلافات كان يتم حلها في وقت قصير، لم تكن الناس أكثر أخلاقًا لكنها كانت أقل ضغوطًا، ولم تكن الناس أكثر رُقيًا لكنها كانت أقل تواصلًا.

خناقات دلوقتي

ليس من العدل أن تطلب من إنسان أن يحمل ثِقل ويصعد به سلم، ثم تُحاسبه إن لم يصعد كل السُلم في حين فعلها غيره بنفس الحِمل، فالمثل الشعبي “البرد على قد الغطا” مثل يكشف حكمة العامة ووعيهم، بأن الصعاب تُناسب قدرة الإنسان على تحملها، وهي نعمة كبيرة من الله، فالعبء أو المشكلة التي يمر بها شخص ويحكي لك عنها وتراها تافهة بينما هي منهكة له، لأن هذه هي قدراته، لكننا اعتادنا الحكم وأسقطنا نقائصنا على غيرنا، فيصنع البعض من نفسه بطلًا على حساب آخر.

الخلافات في الغالب أسبابها الحقيقية لم تتغير، لكن تفاصيلها تعددت والشيطان يكمن في التفاصيل، فغيرة النساء موجودة منذ بداية الحياة، لكنها الان اتخذت أشكال أخرى، يمكن لامرأة أن تغار من أخرى لأي سبب، قديمًا لم يكن الموضوع يتعدي، كلمات بين الرفقة، نميمة في لقاءات متفرقة، الآن النميمة أصبحت منشورات على مواقع التواصل، سواء كانت مجهلة أو يتم ذكر الأسماء، والمنشورات يتم تداولها، ثم يبدأ كل مار يدلي بدلوه، فتشتعل الخناقة أكبر وتصير حربًا، وكلما تطاول فرد مدفوعًا بتعليقات من أصدقائه تصاعد رد الفعل، فأصبحت الخناقة التي كانت تنتهي بعد ساعة تستمر لفترة طويلة، ومنحت السوشيال ميديا مساحات من الانتشار لكل فرد ليُعبر عن رأيه ويُشارك أصدقائه الحقيقيين والافتراضيين ما يشاء من أراء ومواقف.

اتسعت أرض المعركة، وشارك الكثير في معارك حتى وإن بدأت بكلمة، أو موقف عابر، الرغبة في التميز جعلت البعض يحاول أن يتعالى على غيره مدعيًا الحكمة، أو مُصدرًا أحكامه على من حوله، أو موصيًا بوجهات نظر تُزيد النار اشتعالًا.

ازدادت الجرأة على الخلاف، وتفرعت المشكلة، وأصبح كل فرد يصنع من نفسه قاضي يحكم ويعتبر أراءه مُلزمة، ويسعى لفرضها على غيره لتأكيد قوته وكسب مزيدًا من المتابعين.

لازالت أسباب الخلاف كما هي، لكنها تفرعت وتشعبت، ومنحتها السوشيال ميديا وقودًا ومساحة تليق بالاشتعال، فالناس ليست أقل أخلاقًا لكن ضغوط الحياة زادت، واتسعت طرق التشهير والتقليل من كرامة أو مكانة الإنسان فزاد عُنفه، وتأهب للدفاع عن مساحته الصغيرة.

اختلفت الحياة وظلت أداة القياس المتبعة في مراجعة نموذج الأخلاق والرُقي هي أداة مرجعيتها السينما أو حكايات وذكريات لفترة ماضية.

إذا خاصم فجر

أسوأ ما في أي خلاف أن يكون أحد طرفيه من تلك النوعية التي إذا خاصمت فجرت، فأذاعت أسرارًا، وحرفت كلامًا، وعملت على إلحاق الأذى بالطرف الآخر، وتتجلى هذه الصورة بوضوح في غالبية حالات الطلاق، ذلك أن اختفاء التجريم الاجتماعي للطلاق ساعد بشكل واضح على زيادة حالات الطلاق بوضوح، فامتلأت المحاكم بقضايا الطلاق وتوابعها، وتحول الطلاق من شكل جديد لعلاقة إلى نقطة ارتكاز لانطلاق قذائف تنال من السُمعة وتسعي للقصاص من الآخر وكأن هناك ثأر بينهما.

من أسوأ استخدامات السوشيال ميديا هو طرح الأمور الشخصية والسعي لتشويه الآخرين، وسط مجتمع لم يتدرب أو يعتاد تحري الحقيقة والبحث عن الصدق.

ولأن السوشيال ميديا وفرت لكل انسان يملك حساب وأجهزة تتيح لها الدخول إلى التطبيقات، وفرت قناة بث وجهاز إعلامي متكامل صوت وصورة ومقروء، توفرت القنوات وعلى الناس أن تملأ ساعات البث، صنعوا الضحايا والجلادين، يؤلفون الحكايات ليحصدوا مزيدًا من المتابعين.

يتمادون في تشويه الآخر، أو اظهار مظلومية بشكل مبالغ فيه، فتشتعل الخلافات في الفضاءات الرقمية ويُشارك فيها القاصي والداني، فتُصبح معارك كُبرى، تستدعي أن تستمر مشتعلة فتضيع الخصوصية، وتُصبح الحياة الشخصية مشاع، وتعزف اللغة في اصداراتها السوقية دورًا هامًا فتصير لُغة السباب والإهانة مادة من مواد استمرار الاشتعال، ما دام ذلك يُزيد عدد المتابعين، ويُزيد التعاطف فلا بأس من مزيد من الفُجر في الخصومة، ربما فتح ذلك مكسب يُعوض الخسارة الحالية، لكنه للأسف استخدام السوشيال ميديا في الخناقات الشخصية لا يفعل سوى زيادة الخسائر.