الجدل الذي صاحب صدور التقرير السابع من الباروميتر العربي حول تراجع ثقة شريحة من المواطنين العرب بقدرة النظم الديمقراطية على حل مشاكلهم الاقتصادية يحتاج إلى نقاش مفصل. حتى لو كانت هناك بعض المحاذير على عمل الفريق البحثي لهذه التقارير.

وقد شمل التقرير مواطنين من 12 دولة يمثلون نحو 80% من تعداد سكان العالم العربي. وأجري معهم استطلاع رأي في الفترة من أكتوبر 2021 إلى شهر يوليو من هذا العام. وهم مبحوثون في كل من الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا والأردن ولبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان والكويت.

وقد ذكر القائمون على التقرير في مقدمته أن “الباروميتر العربي” أجرى مقابلات مع أكثر من 26 ألف مواطنة ومواطن. واستمرت لمدة 45 دقيقة بالاستعانة بالتابلت الحاسوبي على انفراد ووجهًا لوجه مع أفراد اختيروا عشوائيا من أجل التمثيل العادل والمعبّر عن مجتمعاتهم.

ورغم أن هذا التقرير وضع أسماء الجهات المانحة “أمريكية وبريطانية” في مقدمته وأيضا أسماء الباحثين ومؤسساتهم التي شاركت في العمل فإن هذا لن يمنع غياب ثقة بعض القطاعات في العالم العربي في هذا العمل لارتباطه بمؤسسات أجنبية. ومع ذلك فإن أهمية الجزء المتعلق بالديمقراطية أن نتائجه مهمة ولافتة. خاصة أنها جاءت منسجمة مع انطباعات كثيرين في العالم العربي والعالم بأن هناك حالة من عدم الثقة بالنظم الديمقراطية. وتحديدا في قدرتها على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما يبني عليه البعض الآخر نظرية تقول إن العالم العربي غير مهيأ للديمقراطية.

من المهم مناقشة التحدي الأول الحقيقي الخاص بقدرة النظم الديمقراطية على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وليس مناقشة النظرة الفاسدة التي تعتبر أن هناك شعوبا غير مهيأة للديمقراطية أو الحياة الكريمة.

وقد أشار التقرير إلى ما أسماه “تزايد قلق المواطنين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إزاء المشكلات المرتبطة بالنظام السياسي الديمقراطي”. وكيف أن الديمقراطية غير حاسمة ومليئة بالشد والجذب والتردد قبل اتخاذ القرارات. وأنها غير فعالة في ضمان الاستقرار.

وأكد أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم في سبعة بلاد تأييدهم لمقولة أن الأداء الاقتصادي ضعيف في ظل النظام الديمقراطي.

هذا الرأي منتشر أكثر في العراق “72 بالمئة” وتونس “70 بالمئة” وهما البلدان اللذان كانت الانتخابات فيهما حقيقية وفعالة على مدار العقد الماضي. في الوقت نفسه يعتنق هذا الرأي عدد كبير من المواطنين في فلسطين “63 بالمئة” وليبيا “61 بالمئة”. أما أقل بلدين قناعة بهذا الأمر هما المغرب “43 بالمئة” وموريتانيا “42 بالمئة” وفق ما جاء في التقرير.

ولا خلاف أن المواطنين في كل دول العالم وليس فقط العالم العربي يسعون إلى إيجاد حلول لمشكلاتهم الحياتية واليومية. وتشمل على سبيل المثال لا الحصر الكساد الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة وتكاليف المعيشة.

واعتبر التقرير أنه في السنوات الأخيرة بدت الكثير من النظم غير الديمقراطية أكثر جاذبية لقطاع من الناس. وخاصة في العالم العربي. كما هو بالنسبة للنظام الصيني الذي حقق معدلات نمو كبيرة وحضورا على الساحة الدولية. مما ساعد في تقوية شكوك البعض حول مزايا الديمقراطية.

والحقيقة أن اعتبار الانتخابات الديمقراطية في كل من تونس ولبنان والعراق لم تكن الحل السحري لمشكلات هذه البلدان الاقتصادية والسياسية مقولة صحيحة. ليس لأن الديمقراطية نظام غير صالح إنما لأن اثنتين من هذه التجارب تعاني نظمهما من عيوب هيكلية لا يصلح معها الاستبداد أو الديمقراطية. وهي نظم المحاصصة الطائفية في كل من العراق ولبنان. أما تونس فقد عانت من سياق سياسي أنتج نظاما هجينا “شبه برلماني” عاجز عن الفعل والإنجاز. وظلت الفوضى والمحاصصة الحزبية والمواءمات هي السائدة على مدار عشر سنوات. فتعمقت أزمة النظام وأفقدت قطاعا من الشعب التونسي الثقة بالديمقراطية.

وهنا يصبح السؤال المطروح: “هل الأزمة في النظام الديمقراطي أم في النظام الهجين؟”. و”هل تحول تونس إلي النظام الرئاسي سيجعل هناك ثقة أكبر بالديمقراطية وقدرتها على حل مشكلات البلاد؟”. هذا سؤال ستتضح إجابته في المستقبل المنظور.

يقينا فإن تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم العربي شهدت أزمات كبيرة. والانتخابات الديمقراطية التي شهدها أكثر من بلد “تم تركيبها” على إما نظم طائفية أو هجينة. فانتظر الناس “النظام المخلص” غير الديمقراطي. وإما على الرجل القوي الذي سيقضي على الفوضى والانقسام ويوحد الأمة ويبني نهضتها.

والحقيقة أن هذا “الرجل” مستحيل أن يأتي في العراق ولبنان. لأنه إذا قُبل من شريحة أو طائفة سيُرفض من الأخرى. وأن الحل في تغيير المنظومة الطائفية وليس في “ديمقراطية” الطوائف أو الاستبداد الذي لن يعود.

أما بالنسبة لمسألة الإعجاب بالنموذج الصيني فهو إعجاب مشروع. لأن الصين حققت ما يشبه المعجزة الاقتصادية والعلمية والعسكرية في أقل من 75 عاما. ولكنها غير قابلة للاستنساخ لأن مسارها الذي بدأته عبر ثورة عظمى في 1949 وأنتج نظاما متقدما اقتصاديا قائما على العلم والإنجاز تواكب معه نظام حزب واحد عقائدي وشمولي. وإن استنساخ شمولية الصين دون ثورتها وحزبها الشيوعي وخبرتها التاريخية لصالح أي نظام دكتاتوري في المنطقة سينتج نظاما مسخا سيحتفظ بالشمولية لا الإنجاز.

ستظل هناك أزمات كبيرة تواجه النظم الديمقراطية وخاصة في تجارب التحول الديمقراطي والديمقراطيات الناشئة. وإن هذه الأزمات تتطلب مناقشة سياق كل تجربة للتعرف على طبيعة أزماتها الحقيقية. سواء كانت في منظومتها الطائفية أو نظامها الدستوري الهجين. وأيضا لا تراهن على أنها بالشمولية ستصبح الصين. لأن شروط نجاح الصين وكوبا غير متوفرة في التجارب التي تأخذ منها شموليتها وتكون عاجزة عن بناء تقدمها.