لأول مرة ومنذ أطلق رئيس الجمهورية دعوة الحوار السياسي تعلو أصوات سياسية جادة لتطالب “بتعليق” المشاركة في الحوار، بل ووصلت أصوات أخرى -أقل عدداً- إلى مساحات أبعد وطالبت بالانسحاب من المشاركة في الحوار، والاعتذار للجمهور الذي طالبته هذه القوى بالانتظار والصبر حتى الوصول لنتائج سياسية مرضية، والتي بشرته أن الحد الأدنى الذي ستخرج به القوى السياسية هو إطلاق سراح سجناء الرأي المحبوسين منذ شهور أو سنوات.

وليس سراً أن الاجتماع الأخير للحركة المدنية الديمقراطية، وهي الطرف المعارض الأبرز والأكثر حضوراً، ناقش بشكل حقيقي دعوات تطالب بتعليق المشاركة في الحوار السياسي، وإعلان هذا التوجه بشكل واضح في البيان الذي سيصدر عن الاجتماع، ومع ذلك فإن الحاضرين قد اتفقوا في نهاية الاجتماع على التحلي بمزيد من الصبر، والتأكيد على التمسك ببيان ٨ مايو الصادر عن الحركة، وربط المشاركة في الجلسات الرسمية للحوار بالإفراج عن عدد كبير من سجناء الرأي بما يمهد البيئة اللازمة لإنجاح دعوة الحوار، والمؤكد أن المطلب الأخير عليه إجماع بين كل مكونات الحركة المدنية.

والحقيقة إن الإحساس العام “بالإحباط” من دعوة الحوار، أصبح بالفعل له ما يبرره، فمنذ شهر إبريل الماضي،وقت إطلاق الدعوة، وحتى الآن لا تقدم يذكر على صعيد خلق أجواء مناسبة ومواتية لنجاح الدعوة، بل على العكس تماماً فإن كثيراً من المؤشرات لا توحي بجدية السلطة في إجراء حوار حقيقي، ولا في الوصول لنتائج تصنع تغييراً مأمولاً انتظرته مصر وأحزابها وقواها السياسية، فمنذ اللحظة الأولى تعامل الجميع بنوايا حسنة، لكن الواقع للأسف لم يكن على مستوى تلك النوايا، ويبدو أن الطريق لكل ما هو محبط “مليء” بالنوايا الطيبة.

المؤشر الأول والأهم والكاشف لعدم جدية السلطة في إجراء حوار يصل لنتائج حقيقية كان التعامل “البارد” والمتسلط مع ملف سجناء الرأي، فرغم التوافق بين رموز مهمة في السلطة وبين قيادات معارضة على ضرورة البدء بالإفراج عن سجناء الرأي لتوفير بيئة مناسبة لنجاح الحوار، ورغم تسليم السلطة بهذا الاتفاق والتأكيد أن الإصلاح السياسي قد تأخر لأسباب لها علاقة بالأمن والاستقرار فإن السلطة حتى الآن لم تبد التزاماً جاداً في هذا الملف إلا في أضيق الحدود، مع الإصرار الغريب وغير المفهوم على ربط قرارات العفو بمناسبات وطنية ودينية، باستثناء حالتين فقط هما الصحفي حسام مؤنس والمهندس يحيي حسين عبد الهادي، فيما عدا هذا فإن السلطة تتمسك بقاعدة الإفراج في المناسبات فقط، في إشارة موحية ومحبطة في آن، وهي أنها لا تسلم لطلبات المعارضة بالإفراج عن السجناء وتتمسك بإصدار قرارات العفو في التوقيت الذي تختاره هي فقط وبالكيفية التي تراها هي وحدها، وهو تفكير عقيم ينسف فكرة الحوار والتوافق من الأساس، ويفتح الباب أمام اليأس والشعور بأن دعوة الحوار لم تكن أكثر من مناورة سياسية في ظل أزمة اقتصادية كبيرة يعيشها البلد.

المؤشر الثاني والكاشف على أن لا شيء يحدث لإنجاح الحوار هو محاولات مجلس الأمناء في العمل الجاد، واجتهادهم في تنظيم الأمور كما يجب، وطرح القضايا المهمة بعقلانية واتزان، ورغبتهم في الوصول لحوار جاد وحقيقي، إلا أن هذا الجهد المقدّر للأسف الشديد لا يتوازى معه خطوات من السلطة تسهل الأمور، وتبني أجواء ثقة تبدد الشكوك، وتدفع في اتجاه التفاؤل بأن تغييراً ما سينتج عن الحوار، لهذا فقد بدا الأمر وكأن مجلس الأمناء يعمل في اتجاه بينما السلطة تعمل في اتجاه آخر، أو أن السلطة في أفضل الحالات لا تساعد في نجاح الجهود التي يقدمها المجلس في محاولاته الوصول إلى صيغة تدفع الحوار خطوات للأمام.،

في المقابل فإن المعارضة أضحت أكثر شعوراً بخيبة الأمل من تعامل السلطة مع ملف السجناء، وارتفعت لأول مرة أصوات تدعو لتعليق المشاركة في الحوار، والتأكيد على أن قرارات الإفراج عن سجناء الرأي هي المدخل الوحيد والصحيح لأي حوار حقيقي، وأن أي رغبة في بدء جلسات الحوار بدون تحقيق تقدم جاد في هذا الملف هو “خداع” للناس لن تتورط فيه الأحزاب المعارضة ولن تقبله.

لا يمكن لوطن يسعى لحوار جاد أن يستيقظ على قرارات بحجب مواقع صحفية لها توجه مستقل عن السلطة، كما حدث مع موقع المنصة، ولا يمكن تصديق أن حواراً جاداً في الطريق بدون إطلاق حرية الصحافة والإعلام، وفتح الباب لهم لكي يعبروا عن اتجاهات الرأي العام وقوى المجتمع الحية، هذه القرارات غير المفهومة وغير المدروسة هي جزء من أسباب الإحباط الذي سيطر على المشهد السياسي مؤخراً، وبات حاكماً لقرارات ومواقف كثير من القوى السياسية والحزبية.

أدرك تماماً أن فكرة الحوار في حد ذاتها ليست ضمن أدبيات السلطة الحالية طوال السنوات السبع الفائتة، وهو ما يصعب الوصول إلى توافقات جادة في ملف الحوار السياسي، وأدرك أيضاً أن السلطة الحالية تقدم كل ما هو “أمني” على كل ما هو “سياسي”، وصحيح أن القرار الأول والأخير في كل المجالات للأمن، إلا أن دعوة الحوار صدرت من رئيس الجمهورية، وهو الذي وضع قاعدة أن الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية، وهو الذي أكد أن الوقت قد حان للبدء في حوار سياسي بين جميع القوى الوطنية، وعليه فإن تلك القواعد التي وضعها رئيس الدولة تلزمها خطوات “سياسية” جادة، فالسياسة هي القاطرة التي تقود المجتمع، والارتكان غير المفهوم للأمن في اتخاذ كل القرارات كلف هذا البلد الكثير طوال السنوات الفائتة، فلا حوار حقيقي دون قرارات سياسية واضحة تبدأ بالإفراج عن السجناء السياسيين ممن لم يتورطوا في العنف، وتفتح المجال العام لمشاركة الجميع بوجهات نظره وتصوراته لمستقبل البلد، أما سياسة الجري في المكان والمناورات السياسية والإصرار على التسلط على ملف السجناء فقد صنع حالة الإحباط الحالية، وما زال يضيع الفرص والأمل لأن يتجه هذا الوطن إلى مرحلة جديدة على طريق الدولة المدنية الديمقراطية، دولة العدل والحرية والشفافية واحترام حقوق الإنسان.

إما أن ينتصر الأمل بقرارات سريعة وعاجلة للإفراج عن أعداد كبيرة من سجناء الرأي، ورفع القيود عن الإعلام وفتح المجال العام كمقدمات طبيعية لأي حوار حقيقي، وإلا فإن أجواء الإحباط التي ظهرت الآن ستسيطر على المشهد بشكل كامل، وستهدم كل جهد صادق يحاول الخروج بالبلد من أزمته، وستضع النهاية لقصة الحوار قبل أن يبدأ، والأمر كله في يد السلطة التي عليها الاختيار.. ودفع الثمن!