بعد أيام قليلة من قمة جدة بمشاركة الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية، انطلق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى إيران للمشاركة في قمة طهران التي جمعته بالرئيسين الإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان. الزيارة أثارت التساؤل إذا كانت قمة طهران تشكل ردًا روسيًا مباشرًا على قمة جدة، أو تستهدف توثيق علاقتها مع حلفائها في المنطقة، أم أنها انعقدت بشكل رئيسي استجابة للأوضاع المتفاقمة في سوريا في ظل التلويح التركي بشن عملية عسكرية في شمال شرق هذا البلد العربي.
القمة أكدت التزام الدول الثلاث بالحفاظ على سيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها، والعمل على مكافحة الإرهاب، ورفض كافة المحاولات الرامية إلى خلق حقائق جديدة مثل مبادرات الحكم الذاتي غير المشروعة، وإدانة الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا. كما جرى الاتفاق على التحضير لمفاوضات أستانا 19 المقرر عقدها نهاية العام، والتي تأتي ضمن إطار “عملية أستانا للسلام” الرامية لإنهاء النزاع السوري المتواصل منذ العام 2011..
اقرأ أيضًا| سوريا.. بين ضربة عسكرية تركية محتملة ودعم خريطة المصالح الإيرانية
أهداف بوتين من زيارة طهران
شكلّت إيران المحطة الثانية لجولات الرئيس بوتين منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، واحتل الملف السوري الجزء الأكبر من الزيارة، حيث يتكون البيان الختامي للقمة من 16 بندًا متفقًا عليها من قبل الدول الضامنة لمفاوضات أستانا.
استعادة النفوذ الروسي أولًا
روسيا نقلت كثيرًا من إمداداتها العسكرية من حيث المعدات والخبراء والمتمرسين العسكريين وحتى المرتزقة من سوريا إلى ساحة الحرب في أوكرانيا، وتسبب انشغال روسيا بالحرب، في إفساح المجال لباقي القوى الإقليمية لمحاولة الاستحواذ أو العبث بخريطة التوازنات في سوريا. حيث تم نقل القواعد الروسية التي تم التخلي عنها إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله. كما كثفت إسرائيل من هجماتها العسكرية، كذلك تتأهب تركيا عسكريًا لشن عملية جديدة على قوات سوريا الدمقراطية “قسد”.
دعم نظام الأسد
نشر موقع “جيوبوليتيكل مونيتور” تقريرا مفاده بأن الرئيس السوري “بشار الأسد” يراهن على انتصار روسيا على الغرب ما يضمن بقاءه في السلطة، ومن أجل ذلك، اتخذ الأسد جملة من المواقف التي تتسم بالجرأة. حيث أعلن تأييده لقرار الغزو الروسي، كما اعترف رسميا في 29 يونيو/ حزيران، بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين، ما يوقعه في مزيد من العقوبات الغربية، ولذلك تستهدف روسيا من القمة تأكيد التضافر مع نظام الأسد، وتخفيف المخاوف بشأن العملية التركية المحتملة التي تهدد أهدافه في استعادة السيطرة على كامل سوريا.
أستانا وليس جنيف
صرح المبعوث الأممي الخاص في سوريا “جير بيدرسن”، بعدم القدرة على عقد الدورة التاسعة للهيئة المصغرة للجنة الدستورية التي كانت مقررة في جنيف في الفترة من 25 إلى 29 يوليو/ تموز الجاري، عقب رفض سوريا إرسال وفدها إلى جنيف بتوصية من روسيا بهدف تجميد مسار العملية السياسية السورية في إطار جنيف.
وفي ظل التصعيد بين روسيا والغرب، تحاول روسيا الانفراد بتقرير مستقبل سوريا، حيث تسعى نحو إخراج العملية السياسية من جنيف، ومن ناحية أخرى تعمل على تفعيل مبادرتها السياسية “مفاوضات أستانا” بمشاركة الدول الحليفة لإملاء قراراتها على الغرب.
ردع تركيا
تلعب تركيا على الظرف العالمي المرتبط بالغزو الروسي والأزمات الاقتصادية المرتبطة بالنفط والتضخم بهدف تعظيم مكاسبها في مختلف الملفات، على سبيل المثال، رعايتها لجهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، كذلك التنازلات الأوروبية التي حصلت عليها مقابل الموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو. وفي سوريا، تنتظر الضوء الأخضر لأجل تنفيذ عملية عسكرية بعمق 30 كيلومترًا داخل حدود سوريا، بمزاعم الحفاظ على الحدود التركية آمنة من المسلحين الأكراد. كما تعيد استخدام ورقة اللاجئين مرة أخرى، حيث أعلنت إعادة حوالي مليون سوري إلى بلادهم وحاجتها إلى “تصفية” الشمال السوري لأجل توطين السوريين العائدين، وطالب بوتين خلال القمة بوقف العملية العسكرية التركية أو تأجيلها لما تمثله من انتهاك لسيادة النظام السوري.
تعويض إيران
قبل وصول بوتين إلى طهران، وقعت شركة “غازبروم” عملاق الغاز الروسي صفقة بقيمة 40 مليار دولار للمساعدة في تطوير حقول الغاز والنفط في إيران، وتسعى روسيا إلى تحصيل المزيد من أوراق الضغط في مواجهة الغرب من خلال الوقوف إلى جانب إيران، والإصرار على إلغاء العقوبات المفروضة على طهران.
وكشفت قمة جدة مدى الحرص الأمريكي على تأليب الشرق الأوسط ضد إيران، ولكن تحرص روسيا على إفشال الطموحات الأمريكية لإيجاد تحالف إقليمي بمشاركة إسرائيل، الذي من شأنه تهميش حليفتها إيران وتقييد نفوذها. كذلك الاتهامات الأمريكية بتزويد روسيا بمسيّرات إيرانية لاستخدامها في الحرب ضد أوكرانيا، لذلك فعلى الرغم من أن زيارة بوتين تأتي كجزء من مسار أستانا، إلا أنها تؤكد على عمق العلاقات بين البلدين، إذ صرح المتحدث باسم الكرملين “دميتري بيسكوف”، أن التعاون مع إيران هو سياسة طويلة الأمد، وليس حدثا طارئاً عرضياً، مؤكدًا أن إيران شريك يمكن الوثوق فيه، باعتبار أن إيران وروسيا في الوقت الراهن في خندق واحد.
أيضًا الترحيب بالموقف الروسي الإيراني الموحد تجاه رفض أي عملية عسكرية تركية تستهدف سوريا، حيث قام وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” منذ أيام بزيارة إلى تركيا بهدف احتواء التصعيد وإدارة الأزمة. كذلك انطلق من تركيا متجها إلى سوريا وعرض سبل المفاوضات بينها وبين سوريا، إذ أنه ليس من مصلحة إيران قيام تركيا بشن أي غزو في الوقت الراهن.
تأكيد التعاون الثلاثي
ترتبط الدول الثلاث بمصالح متشابكة فيما بينها، ومن مصلحة روسيا، الحفاظ على جبهة موحدة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في ظل السعي الأمريكي نحو إعادة استقطاب الدول العربية مرة أخرى، وتعتبر سوريا أهم مراكز الثقل الروسي في المنطقة. كما يساهم التفاهم الروسي التركي الإيراني في تخفيض حدة التصعيد وتعزيز التنسيق وضبط التحركات المشتركة لاسيما في مواجهة التحركات من الجهات الفاعلة الأخرى.
ردود فعل متباينة
تابعت القوى الدولية عن كثب توصيات القمة، التي عكست مدى الاهتمام الروسي بالملف السوري، وبالنسبة للولايات المتحدة، أثارت القمة ردود فعل واسعة لديها. حيث أكد منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض “جون كيربي”، أن زيارة بوتين دليل على عزلته وعزلة روسيا وعجز منظومته العسكرية عن تلبية حاجات الحرب في محاولة أمريكية واضحة للتقليل من مخرجات القمة، واستعراض جدوى العقوبات الأمريكية.
وأما عن رد الفعل الإسرائيلي، أكد رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي “رام بن براك”، أن إسرائيل تخشى أن يعوق التقارب الروسي الإيراني عملياتها العسكرية في سوريا. كما كشف المخاوف الإسرائيلية بشأن التقارب الروسي الإيراني باعتباره يمنح الشرعية لطهران لممارسة مزيد من الأنشطة التي وصفها بالعدائية. كما يقوّض جهودها الدولية بالتعاون مع أمريكا لمواجهة إيران، واعتبره بمثابة رد على جولة الرئيس الأميركي “جو بايدن” الأخيرة إلى المنطقة.
بالنسبة لسوريا لا تستطيع تركيا خوض العملية من دون ضوء أخضر من روسيا، لأن المناطق المستهدفة تقع تحت إشرافها، وجاءت القمة مخيبة لآمال تركيا، حيث أكدت وزير الخارجية السوري “فيصل المقداد” أن تركيا كانت تطمح بنتائج مرضية إلا أن ذلك لم يتحقق بفعل المناقشات التي طرحها الايرانيون والروس”. في إشارة إلى مساعي أنقرة لحشد الدعم لعملية عسكرية في شمال سوريا.
مما سبق، في ظل الجهود المبذولة من جانب كل من روسيا وإيران لمنع تركيا من شن أي عملية عسكرية في سوريا، يبدو من الصعب على الرئيس التركي “رجب أردوغان” أن يقوم بمثل هذه الخطوة، التي قد تأتي بنتائج عكسية، حيث يمكن أن توحد جميع الأطراف ضدها لاسيما جبهة مظلوم عبدي القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والرئيس الأسد، ومن المرجح أن يكتفي أردوغان بهجمات خاطفة بدلا من حرب واسعة المدى.